الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذِبِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ﴾ أنَّهُ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِن ذَلِكَ الغَزْوِ، ولَيْسَ فِيهِ بَيانُ أنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ، كانَ بِإذْنِ الرَّسُولِ أمْ لا ؟ فَلَمّا قالَ بَعْدَهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ دَلَّ هَذا عَلى أنَّ فِيهِمْ مَن تَخَلَّفَ بِإذْنِهِ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ بَعْضُهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صُدُورِ الذَّنْبِ عَنِ الرَّسُولِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ والعَفْوُ يَسْتَدْعِي سابِقَةَ الذَّنْبِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ وهَذا اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى الإنْكارِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ ذَلِكَ الإذْنَ كانَ مَعْصِيَةً وذَنْبًا. قالَ قَتادَةُ وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: اثْنانِ فَعَلَهُما الرَّسُولُ، لَمْ يُؤْمَرْ بِشَيْءٍ فِيهِما، إذْنُهُ لِلْمُنافِقِينَ، وأخْذُهُ الفِداءَ مِنَ الأسارى، فَعاتَبَهُ اللَّهُ كَما تَسْمَعُونَ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: لا نُسَلِّمُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ يُوجِبُ الذَّنْبَ، ولِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى مُبالَغَةِ اللَّهِ في تَعْظِيمِهِ وتَوْقِيرِهِ، كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ إذا كانَ مُعَظَّمًا عِنْدَهُ: عَفا اللَّهُ عَنْكَ ما صَنَعْتَ في أمْرِي ؟ ورَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، ما جَوابُكَ عَنْ كَلامِي ؟ وعافاكَ اللَّهُ ما عَرَفْتَ حَقِّي! فَلا يَكُونُ غَرَضُهُ مِن هَذا الكَلامِ، إلّا مَزِيدَ التَّبْجِيلِ والتَّعْظِيمِ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ الجَهْمِ فِيما يُخاطِبُ بِهِ المُتَوَكِّلَ، وقَدْ أمَرَ بِنَفْيِهِ:(p-٦٠) ؎عَفا اللَّهُ عَنْكَ ألا حُرْمَةٌ تَعُودُ بِعَفْوِكَ أنْ أُبْعَدا ؎ألَمْ تَرَ عَبْدًا عَدا طَوْرَهُ ∗∗∗ ومَوْلًى عَفا ورَشِيدًا هَدى ؎أقِلْنِي أقالَكَ مَن لَمْ يَزَلْ ∗∗∗ يَقِيكَ ويَصْرِفُ عَنْكَ الرَّدى والجَوابُ عَنِ الثّانِي أنْ نَقُولَ: لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: المُرادُ بِقَوْلِهِ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ الإنْكارُ؛ لِأنّا نَقُولُ: إمّا أنْ يَكُونَ صَدَرَ عَنِ الرَّسُولِ ذَنْبٌ في هَذِهِ الواقِعَةِ أوْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَنْبٌ، فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ ما صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ، امْتَنَعَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ إنْكارًا عَلَيْهِ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ كانَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ، فَقَوْلُهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ العَفْوِ عَنْهُ، وبَعْدَ حُصُولِ العَفْوِ عَنْهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَتَوَجَّهَ الإنْكارُ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ عَلى جَمِيعِ التَّقادِيرِ يَمْتَنِعُ أنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ الرَّسُولِ مُذْنِبًا، وهَذا جَوابٌ شافٍ قاطِعٌ، وعِنْدَ هَذا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ عَلى تَرْكِ الأوْلى والأكْمَلِ، لا سِيَّما وهَذِهِ الواقِعَةُ كانَتْ مِن جِنْسِ ما يَتَعَلَّقُ بِالحُرُوبِ ومَصالِحِ الدُّنْيا. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ الرَّسُولَ ﷺ، كانَ يَحْكُمُ بِمُقْتَضى الِاجْتِهادِ في بَعْضِ الوَقائِعِ، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاعْتَبِرُوا ياأُولِي الأبْصارِ﴾ [الحَشْرِ: ٢] أمْرٌ لِأُولِي الأبْصارِ بِالِاعْتِبارِ والِاجْتِهادِ، والرَّسُولُ كانَ سَيِّدًا لَهم، فَكانَ داخِلًا تَحْتَ هَذا الأمْرِ، ثُمَّ أكَّدُوا ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالُوا: إمّا أنْ يُقالَ إنَّهُ تَعالى أذِنَ لَهُ في ذَلِكَ الإذْنِ أوْ مَنَعَهُ عَنْهُ، أوْ ما أذِنَ لَهُ فِيهِ، وما مَنَعَهُ عَنْهُ والأوَّلُ باطِلٌ، وإلّا امْتَنَعَ أنْ يَقُولَ لَهُ: لِمَ أذِنْتَ لَهم، والثّانِي باطِلٌ أيْضًا؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ ما أنْزَلَ اللَّهُ فَيَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائِدَةِ: ٤٤] و﴿أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [المائِدَةِ: ٤٥]﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [المائِدَةِ: ٤٧] وذَلِكَ باطِلٌ بِصَرِيحِ القَوْلِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا القِسْمُ الثّالِثُ، وهو أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أذِنَ في تِلْكَ الواقِعَةِ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلى الِاجْتِهادِ أوْ ما كانَ كَذَلِكَ، والثّانِي باطِلٌ؛ لِأنَّهُ حُكْمٌ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وهو باطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ﴾ [مَرْيَمَ: ٥٩] فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أذِنَ في تِلْكَ الواقِعَةِ، بِناءً عَلى الِاجْتِهادِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كانَ يَحْكُمُ بِمُقْتَضى الِاجْتِهادِ. فَإنْ قِيلَ: فَهَذا بِأنْ يَدُلَّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ الحُكْمُ بِالِاجْتِهادِ أوْلى؛ لِأنَّهُ تَعالى مَنَعَهُ مِن هَذا الحُكْمِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ . قُلْنا: إنَّهُ تَعالى ما مَنَعَهُ مِن ذَلِكَ الإذْنِ مُطْلَقًا؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذِبِينَ﴾ والحُكْمُ المَمْدُودُ إلى غايَةٍ بِكَلِمَةِ حَتّى يَجِبُ انْتِهاؤُهُ عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الغايَةِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا. فَإنْ قالُوا: فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن ذَلِكَ التَّبَيُّنِ هو التَّبَيُّنَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ ؟ قُلْنا: ما ذَكَرْتُمُوهُ مُحْتَمَلٌ إلّا أنَّ عَلى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَصِيرُ تَكْلِيفُهُ أنْ لا يَحْكُمَ البَتَّةَ، وأنْ يَصْبِرَ حَتّى يَنْزِلَ الوَحْيُ ويَظْهَرَ النَّصُّ، فَلَمّا تَرَكَ ذَلِكَ، كانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً، وعَلى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنا كانَ ذَلِكَ الخَطَأُ خَطَأً واقِعًا في الِاجْتِهادِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ”«ومَنِ اجْتَهَدَ فَأخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ واحِدٌ» “ فَكانَ حَمْلُ الكَلامِ عَلَيْهِ أوْلى. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ الِاحْتِرازِ عَنِ العَجَلَةِ، ووُجُوبِ التَّثَبُّتِ والتَّأنِّي وتَرْكِ (p-٦١)الِاغْتِرارِ بِظَواهِرِ الأُمُورِ والمُبالَغَةِ في التَّفَحُّصِ، حَتّى يُمْكِنَهُ أنْ يُعامِلَ كُلَّ فَرِيقٍ بِما يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّقْرِيبِ أوِ الإبْعادِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ قَتادَةُ: عاتَبَهُ اللَّهُ كَما تَسْمَعُونَ في هَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُ في سُورَةِ النُّورِ فَقالَ: ﴿فَإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهُمْ﴾ [النور: ٦٢] . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ لَيْسَ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الإذْنَ في ماذا، فَيَحْتَمِلُ أنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ في القُعُودِ فَأذِنَ لَهُ، ويَحْتَمِلُ أنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ في الخُرُوجِ فَأذِنَ لَهُ، مَعَ أنَّهُ ما كانَ خُرُوجُهم مَعَهُ صَوابًا؛ لِأجْلِ أنَّهم كانُوا عُيُونًا لِلْمُنافِقِينَ عَلى المُسْلِمِينَ، فَكانُوا يُثِيرُونَ الفِتَنَ ويَبْغُونَ الغَوائِلَ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ ما كانَ في خُرُوجِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ مَصْلَحَةٌ. قالَ القاضِي: هَذا بَعِيدٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلى وجْهِ الذَّمِّ لِلْمُتَخَلِّفِينَ والمَدْحِ لِلْمُبادِرِينَ، وأيْضًا ما بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى ذَمِّ القاعِدِينَ وبَيانِ حالِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب