الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ ولَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكم يُهْلِكُونَ أنْفُسَهم واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بالَغَ في تَرْغِيبِهِمْ في الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وكانَ قَدْ ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكم إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٨] عادَ إلى تَقْرِيرِ كَوْنِهِمْ مُتَثاقِلِينَ، وبَيَّنَ أنَّ أقْوامًا، مَعَ كُلِّ ما تَقَدَّمَ مِنَ الوَعِيدِ والحَثِّ عَلى الجِهادِ، تَخَلَّفُوا في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وبَيَّنَ أنَّهُ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: العَرَضُ ما عَرَضَ لَكَ مِن مَنافِعِ الدُّنْيا، يُقالُ: الدُّنْيا عَرَضٌ حاضِرٌ يَأْكُلُ مِنهُ البَرُّ والفاجِرُ، قالالزَّجّاجُ: فِيهِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: لَوْ كانَ المَدْعُوُّ إلَيْهِ سَفَرًا قاصِدًا، فَحُذِفَ اسْمُ﴿كانَ﴾ لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وسَفَرًا قاصِدًا﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أيْ سَهْلًا قَرِيبًا، وإنَّما قِيلَ لِمِثْلِ هَذا قاصِدًا؛ لِأنَّ المُتَوَسِّطَ بَيْنَ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ، يُقالُ لَهُ: مُقْتَصِدٌ، قالَ تَعالى: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ﴾ [فاطِرٍ: ٣٢] وتَحْقِيقُهُ أنَّ المُتَوَسِّطَ بَيْنَ الكَثْرَةِ والقِلَّةِ يَقْصِدُهُ كُلُّ أحَدٍ، فَسُمِّيَ قاصِدًا، وتَفْسِيرُ القاصِدِ: ذُو قَصْدٍ، كَقَوْلِهِمْ: لابِنٌ وتامِرٌ ورابِحٌ. قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ قالَ اللَّيْثُ: الشُّقَّةُ بُعْدُ مَسِيرِهِ إلى أرْضٍ بَعِيدَةٍ، يُقالُ: شُقَّةٌ شاقَّةٌ، والمَعْنى: بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّاقَّةُ البَعِيدَةُ، والسَّبَبُ في هَذا الِاسْمِ أنَّهُ شَقَّ عَلى الإنْسانِ سُلُوكُها، ونَقَلَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَنْ عِيسى بْنِ عُمَرَ: أنَّهُ قَرَأ﴿بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ بِكَسْرِ العَيْنِ والشِّينِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، ومَعْنى الكَلامِ أنَّهُ لَوْ كانَتِ المَنافِعُ قَرِيبَةً والسَّفَرُ قَرِيبًا لاتَّبَعُوكَ طَمَعًا مِنهم في الفَوْزِ بِتِلْكَ المَنافِعِ، ولَكِنْ طالَ السَّفَرُ فَكانُوا كالآيِسِينَ مِنَ الفَوْزِ بِالغَنِيمَةِ، بِسَبَبِ أنَّهم كانُوا يَسْتَعْظِمُونَ غَزْوَ الرُّومِ، فَلِهَذا السَّبَبِ تَخَلَّفُوا، ثُمَّ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ إذا رَجَعَ مِنَ الجِهادِ يَجِدُهُمْ﴿وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ إمّا عِنْدَما يُعاتِبُهم بِسَبَبِ التَّخَلُّفِ، وإمّا ابْتِداءً عَلى طَرِيقَةِ إقامَةِ العُذْرِ في التَّخَلُّفِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم يُهْلِكُونَ أنْفُسَهم بِسَبَبِ ذَلِكَ الكَذِبِ والنِّفاقِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الأيْمانَ الكاذِبَةَ تُوجِبُ الهَلاكَ، ولِهَذا قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«اليَمِينُ الغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيارَ بَلاقِعَ» “ . ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ في قَوْلِهِمْ ما كُنّا نَسْتَطِيعُ الخُرُوجَ، فَإنَّهم كانُوا مُسْتَطِيعِينَ الخُرُوجَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ إنَّما يَتَناوَلُ مَن كانَ قادِرًا مُتَمَكِّنًا، إذْ عَدَمُ الِاسْتِطاعَةِ عُذْرٌ في التَّخَلُّفِ. * * * (p-٥٩)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى بُطْلانِ أنَّ الِاسْتِطاعَةَ مَعَ الفِعْلِ، فَقالَ: لَوْ كانَتِ الِاسْتِطاعَةُ مَعَ الفِعْلِ لَكانَ مَن يَخْرُجُ إلى القِتالِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا إلى القِتالِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَكانُوا صادِقِينَ في قَوْلِهِمْ: ما كُنّا نَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، ولَمّا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعالى في هَذا القَوْلِ، عَلِمْنا أنَّ الِاسْتِطاعَةَ قَبْلَ الفِعْلِ، واسْتَدَلَّ الكَعْبِيُّ بِهَذا الوَجْهِ أيْضًا لَهُ، وسَألَ نَفْسَهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ: ما كانَ لَهم زادٌ ولا راحِلَةٌ، وما أرادُوا بِهِ نَفْسَ القُدْرَةِ. وأجابَ: إنْ كانَ مَن لا راحِلَةَ لَهُ يُعْذَرُ في تَرْكِ الخُرُوجِ، فَمَن لا اسْتِطاعَةَ لَهُ أوْلى بِالعُذْرِ، وأيْضًا الظّاهِرُ مِنَ الِاسْتِطاعَةِ قُوَّةُ البَدَنِ دُونَ وُجُودِ المالِ، وإذا أُرِيدَ بِهِ المالُ، فَإنَّما يُرادُ؛ لِأنَّهُ يُعِينُ عَلى ما يَفْعَلُهُ الإنْسانُ بِقُوَّةِ البَدَنِ، فَلا مَعْنى لِتَرْكِ الحَقِيقَةِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وأجابَ أصْحابُنا: بِأنَّ المُعْتَزِلَةَ سَلَّمُوا أنَّ القُدْرَةَ عَلى الفِعْلِ لا تَتَقَدَّمُ عَلى الفِعْلِ، إلّا بِوَقْتٍ واحِدٍ، فَأمّا أنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ بِأوْقاتٍ كَثِيرَةٍ فَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَإنَّ الإنْسانَ الجالِسَ في المَكانِ لا يَكُونُ قادِرًا في هَذا الزَّمانِ أنْ يَفْعَلَ فِعْلًا في مَكانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ، بَلْ إنَّما يَقْدِرُ عَلى أنْ يَفْعَلَ فِعْلًا في المَكانِ المُلاصِقِ لِمَكانِهِ، فَإذا ثَبَتَ أنَّ القُدْرَةَ عِنْدَ القَوْمِ لا تَتَقَدَّمُ الفِعْلَ إلّا بِزَمانٍ واحِدٍ، فالقَوْمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما كانُوا قادِرِينَ عَلى أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ، فَيَلْزَمُهم مِن هَذِهِ الآيَةِ ما ألْزَمُوهُ عَلَيْنا، وعِنْدَ هَذا يَجِبُ عَلَيْنا وعَلَيْهِمْ أنْ نَحْمِلَ الِاسْتِطاعَةَ عَلى الزّادِ والرّاحِلَةِ، وحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلالُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالُوا: الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أخْبَرَ عَنْهم أنَّهم سَيَحْلِفُونَ، وهَذا إخْبارٌ عَنْ غَيْبٍ يَقَعُ في المُسْتَقْبَلِ، والأمْرُ لَمّا وقَعَ كَما أخْبَرَ، كانَ هَذا إخْبارًا عَنِ الغَيْبِ، فَكانَ مُعْجِزًا، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب