الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: (p-٥١)﴿إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
واعْلَمْ أنَّ هَذا ذِكْرُ طَرِيقٍ آخَرَ في تَرْغِيبِهِمْ في الجِهادِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الآيَةِ الأُولى أنَّهم إنْ لَمْ يَنْفِرُوا بِاسْتِنْفارِهِ، ولَمْ يَشْتَغِلُوا بِنُصْرَتِهِ فَإنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ بِدَلِيلِ أنَّ اللَّهَ نَصَرَهُ وقَوّاهُ حالَ ما لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلّا رَجُلٌ واحِدٌ، فَهَهُنا أوْلى، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ جَوابًا لِلشَّرْطِ ؟
وجَوابُهُ أنَّ التَّقْدِيرَ إلّا تَنْصُرُوهُ، فَسَيَنْصُرُهُ مَن نَصَرَهُ حِينَما لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلّا رَجُلٌ واحِدٌ، ولا أقَلَّ مِنَ الواحِدِ، والمَعْنى أنَّهُ يَنْصُرُهُ الآنَ كَما نَصَرَهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يَعْنِي: قَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ في الوَقْتِ الَّذِي أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَكَّةَ، وقَوْلُهُ: ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ، أيْ: في الحالِ الَّتِي كانَ فِيها﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ وتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ سَبَقَ في قَوْلِهِ: ﴿ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائِدَةِ: ٧٣] وتَحْقِيقُ القَوْلِ أنَّهُ إذا حَضَرَ اثْنانِ فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَكُونُ ثانِيًا في ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ لِلْآخَرِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالُوا: يُقالُ فُلانٌ ثانِي اثْنَيْنِ، أيْ: هو أحَدُهُما، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وقُرِئَ (ثانِي اثْنَيْنِ) بِالسُّكُونِ و﴿إذْ هُما﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿إذْ أخْرَجَهُ﴾ والغارُ ثُقْبٌ عَظِيمٌ في الجَبَلِ، وكانَ ذَلِكَ الجَبَلُ يُقالُ لَهُ ثَوْرٌ، في يَمِينِ مَكَّةَ عَلى مَسِيرَةِ ساعَةٍ، مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِ مَعَ أبِي بَكْرٍ ثَلاثًا، وقَوْلُهُ: ﴿إذْ يَقُولُ﴾ بَدَلٌ ثانٍ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا أنَّ قُرَيْشًا ومَن بِمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ تَعاقَدُوا عَلى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنْفالِ: ٣٠] فَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى أنْ يَخْرُجَ هو وأبُو بَكْرٍ أوَّلَ اللَّيْلِ إلى الغارِ، والمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هو أنَّهم جَعَلُوهُ كالمُضْطَرِّ إلى الخُرُوجِ، «وخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأبُو بَكْرٍ أوَّلَ اللَّيْلِ إلى الغارِ، وأمَرَ عَلِيًّا أنْ يَضْطَجِعَ عَلى فِراشِهِ، لِيَمْنَعَهُمُ السَّوادُ مِن طَلَبِهِ، حَتّى يَبْلُغَ هو وصاحِبُهُ إلى ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَلَمّا وصَلا إلى الغارِ دَخَلَ أبُو بَكْرٍ الغارَ أوَّلًا، يَلْتَمِسُ ما في الغارِ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ما لَكَ ؟ فَقالَ: بِأبِي أنْتَ وأُمِّي، الغِيرانُ مَأْوى السِّباعِ والهَوامِّ، فَإنْ كانَ فِيهِ شَيْءٌ كانَ بِي لا بِكَ، وكانَ في الغارِ جُحْرٌ، فَوَضَعَ عَقِبَهُ عَلَيْهِ؛ لِئَلّا يَخْرُجَ ما يُؤْذِي الرَّسُولَ، فَلَمّا طَلَبَ المُشْرِكُونَ الأثَرَ وقَرُبُوا، بَكى أبُو بَكْرٍ خَوْفًا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا“ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّ اللَّهَ لَمَعَنا ؟ فَقالَ الرَّسُولُ: ”نَعَمْ“ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ خَدِّهِ»، ويُرْوى عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ كانَ إذا ذَكَرَ بُكاءَ أبِي بَكْرٍ بَكى، وإذا ذَكَرَ مَسْحَهُ الدُّمُوعَ مَسَحَ هو الدُّمُوعَ عَنْ خَدِّهِ، وقِيلَ: لَمّا طَلَعَ المُشْرِكُونَ فَوْقَ الغارِ أشْفَقَ أبُو بَكْرٍ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقالَ: إنْ تُصَبِ اليَوْمَ ذَهَبَ دِينُ اللَّهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ: ”«ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما» “ وقِيلَ: لَمّا دَخَلَ الغارَ وضَعَ أبُو بَكْرٍ ثُمامَةً عَلى بابِ الغارِ، وبَعَثَ اللَّهُ حَمامَتَيْنِ فَباضَتا في أسْفَلِهِ، والعَنْكَبُوتُ نَسَجَتْ عَلَيْهِ، وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«اللَّهُمَّ أعْمِ أبْصارَهم» “ فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ حَوْلَ الغارِ، ولا يَرَوْنَ أحَدًا.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى فَضِيلَةِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ذَهَبَ إلى الغارِ؛ لِأجْلِ أنَّهُ كانَ يَخافُ الكُفّارَ مِن أنْ يُقْدِمُوا عَلى قَتْلِهِ، فَلَوْلا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قاطِعًا عَلى باطِنِ أبِي بَكْرٍ، بِأنَّهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُحَقِّقِينَ الصّادِقِينَ الصِّدِّيقِينَ، وإلّا لَما أصْحَبَهُ نَفْسَهُ في ذَلِكَ المَوْضِعِ؛ لِأنَّهُ لَوْ جُوِّزَ أنْ يَكُونَ باطِنُهُ بِخِلافِ ظاهِرِهِ، لَخافَهُ مِن أنْ يَدُلَّ أعْداءَهُ عَلَيْهِ، وأيْضًا لَخافَهُ مِن أنْ يُقْدِمَ عَلى (p-٥٢)قَتْلِهِ، فَلَمّا اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ في تِلْكَ الحالَةِ، دَلَّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قاطِعًا بِأنَّ باطِنَهُ عَلى وفْقِ ظاهِرِهِ.
الثّانِي: وهو أنَّ الهِجْرَةَ كانَتْ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى، وكانَ في خِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَماعَةٌ مِنَ المُخْلِصِينَ، وكانُوا في النَّسَبِ إلى شَجَرَةِ رَسُولَ اللَّهِ أقْرَبَ مِن أبِي بَكْرٍ، فَلَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُ بِأنْ يَسْتَصْحِبَ أبا بَكْرٍ في تِلْكَ الواقِعَةِ الصَّعْبَةِ الهائِلَةِ، وإلّا لَكانَ الظّاهِرُ أنْ لا يَخُصَّهُ بِهَذِهِ الصُّحْبَةِ، وتَخْصِيصُ اللَّهِ إيّاهُ بِهَذا التَّشْرِيفِ دَلَّ عَلى مَنصِبٍ عالٍ لَهُ في الدِّينِ.
الثّالِثُ: أنَّ كُلَّ مَن سِوى أبِي بَكْرٍ فارَقُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أمّا هو فَما سَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ كَغَيْرِهِ، بَلْ صَبَرَ عَلى مُؤانَسَتِهِ ومُلازَمَتِهِ وخِدْمَتِهِ عِنْدَ هَذا الخَوْفِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أحَدٌ، وذَلِكَ يُوجِبُ الفَضْلَ العَظِيمَ.
الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى سَمّاهُ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ فَجَعَلَهُ ثانِيَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ حالَ كَوْنِهِما في الغارِ، والعُلَماءُ أثْبَتُوا أنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كانَ ثانِيَ مُحَمَّدٍ في أكْثَرِ المَناصِبِ الدِّينِيَّةِ، فَإنَّهُ ﷺ لَمّا أُرْسِلَ إلى الخَلْقِ، وعَرَضَ الإسْلامَ عَلى أبِي بَكْرٍ آمَنَ أبُو بَكْرٍ، ثُمَّ ذَهَبَ وعَرَضَ الإسْلامَ عَلى طَلْحَةَ والزُّبَيْرِ وعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وجَماعَةٍ آخَرِينَ مِن أجِلَّةِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم، والكُلُّ آمَنُوا عَلى يَدَيْهِ، ثُمَّ إنَّهُ جاءَ بِهِمْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ أيّامٍ قَلائِلَ، فَكانَ هو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ في الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ، وأيْضًا كُلَّما وقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في غَزْوَةٍ، كانَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقِفُ في خِدْمَتِهِ، ولا يُفارِقُهُ، فَكانَ ثانِيَ اثْنَيْنِ في مَجْلِسِهِ، ولَمّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قامَ مَقامَهُ في إمامَةِ النّاسِ في الصَّلاةِ، فَكانَ ثانِيَ اثْنَيْنِ، ولَمّا تُوُفِّيَ دُفِنَ بِجَنْبِهِ، فَكانَ ثانِيَ اثْنَيْنِ هُناكَ أيْضًا، وطَعَنَ بَعْضُ الحَمْقى مِنَ الرَّوافِضِ في هَذا الوَجْهِ، وقالَ: كَوْنُهُ ثانِيَ اثْنَيْنِ لِلرَّسُولِ لا يَكُونُ أعْظَمَ مِن كَوْنِ اللَّهِ تَعالى رابِعًا لِكُلِّ ثَلاثٍ في قَوْلِهِ: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهُمْ﴾ [المُجادَلَةِ: ٧] ثُمَّ إنَّ هَذا الحُكْمَ عامٌّ في حَقِّ الكافِرِ والمُؤْمِنِ، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ هَذا المَعْنى مِنَ اللَّهِ تَعالى دالًّا عَلى فَضِيلَةِ الإنْسانِ، فَلِأنْ لا يَدُلَّ مِنَ النَّبِيِّ عَلى فَضِيلَةِ الإنْسانِ كانَ أوْلى.
والجَوابُ: أنَّ هَذا تَعَسُّفٌ بارِدٌ؛ لِأنَّ المُرادَ هُناكَ كَوْنُهُ تَعالى مَعَ الكُلِّ بِالعِلْمِ والتَّدْبِيرِ، وكَوْنُهُ مُطَّلِعًا عَلى ضَمِيرِ كُلِّ أحَدٍ، أمّا هَهُنا فالمُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ تَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ في مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ، وأيْضًا قَدْ دَلَّلْنا بِالوُجُوهِ الثَّلاثَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَلى أنَّ كَوْنَهُ مَعَهُ في هَذا المَوْضِعِ دَلِيلٌ قاطِعٌ عَلى أنَّهُ ﷺ كانَ قاطِعًا بِأنَّ باطِنَهُ كَظاهِرِهِ، فَأيْنَ أحَدُ الجانِبَيْنِ مِنَ الآخَرِ ؟
والوَجْهُ الخامِسُ: مِنَ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الآيَةِ ما جاءَ في الأخْبارِ أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمّا حَزِنَ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما» ؟ “ ولا شَكَّ أنَّ هَذا مَنصِبٌ عَلِيٌّ، ودَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ.
واعْلَمْ أنَّ الرَّوافِضَ في الدِّينِ كانُوا إذا حَلَفُوا قالُوا: وحَقِّ خَمْسَةٍ سادِسُهم جِبْرِيلُ، وأرادُوا بِهِ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ وعَلِيًّا وفاطِمَةَ والحَسَنَ والحُسَيْنَ، كانُوا قَدِ احْتَجَبُوا تَحْتَ عَباءَةٍ يَوْمَ المُباهَلَةِ، فَجاءَ جِبْرِيلُ وجَعَلَ نَفْسَهُ سادِسًا لَهم، فَذَكَرُوا لِلشَّيْخِ الإمامِ الوالِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى أنَّ القَوْمَ هَكَذا يَقُولُونَ، فَقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَكم ما هو خَيْرٌ مِنهُ بِقَوْلِهِ: ”«ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما» “ ومِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ هَذا أفْضَلُ وأكْمَلُ.
والوَجْهُ السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ أبا بَكْرٍ بِكَوْنِهِ صاحِبًا لِلرَّسُولِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَمالِ الفَضْلِ، قالَ الحُسَيْنُ بْنُ فُضَيْلٍ البَجَلِيُّ: مَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ أبُو بَكْرٍ صاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَ كافِرًا؛ لِأنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ مِن﴿إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ﴾ هو أبُو بَكْرٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَهُ بِكَوْنِهِ صاحِبًا لَهُ، اعْتَرَضُوا وقالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ الكافِرَ بِكَوْنِهِ صاحِبًا لِلْمُؤْمِنِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وهو يُحاوِرُهُ﴾ (p-٥٣)﴿أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ﴾ [الكَهْفِ: ٣٧] .
والجَوابُ: أنَّ هُناكَ وإنْ وصَفَهُ بِكَوْنِهِ صاحِبًا لَهُ ذِكْرًا، إلّا أنَّهُ أرْدَفَهُ بِما يَدُلُّ عَلى الإهانَةِ والإذْلالِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿أكَفَرْتَ﴾ أمّا هَهُنا فَبَعْدَ أنْ وصَفَهُ بِكَوْنِهِ صاحِبًا لَهُ، ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى الإجْلالِ والتَّعْظِيمِ وهو قَوْلُهُ: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ فَأيُّ مُناسَبَةٍ بَيْنَ البابَيْنِ لَوْلا فَرْطُ العَداوَةِ ؟
والوَجْهُ السّابِعُ: في دَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى فَضْلِ أبِي بَكْرٍ، قَوْلُهُ: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ المَعِيَّةِ، المَعِيَّةُ بِالحِفْظِ والنُّصْرَةِ والحِراسَةِ والمَعُونَةِ، وبِالجُمْلَةِ فالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ شَرَكَ بَيْنَ نَفْسِهِ وبَيْنَ أبِي بَكْرٍ في هَذِهِ المَعِيَّةِ، فَإنْ حَمَلُوا هَذِهِ المَعِيَّةَ عَلى وجْهٍ فاسِدٍ، لَزِمَهم إدْخالُ الرَّسُولِ فِيهِ، وإنْ حَمَلُوها عَلى مَحْمَلِ رَفِيعٍ شَرِيفٍ، لَزِمَهم إدْخالُ أبِي بَكْرٍ فِيهِ، ونَقُولُ بِعِبارَةٍ أُخْرى: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ أبا بَكْرٍ كانَ اللَّهُ مَعَهُ، وكُلُّ مَن كانَ اللَّهُ مَعَهُ فَإنَّهُ يَكُونُ مِنَ المُتَّقِينَ المُحْسِنِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٨] والمُرادُ مِنهُ الحُصْرُ، والمَعْنى: إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا لا مَعَ غَيْرِهِمْ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ أبا بَكْرٍ مِنَ المُتَّقِينَ المُحْسِنِينَ.
والوَجْهُ الثّامِنُ: في تَقْرِيرِ هَذا المَطْلُوبِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ ثانِيَ اثْنَيْنِ في الشَّرَفِ الحاصِلِ مِن هَذِهِ المَعِيَّةِ، كَما كانَ ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ، وذَلِكَ مَنصِبٌ في غايَةِ الشَّرَفِ.
والوَجْهُ التّاسِعُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَحْزَنْ﴾ نَهْيٌ عَنِ الحُزْنِ مُطْلَقًا، والنَّهْيُ يُوجِبُ الدَّوامَ والتِّكْرارَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ لا يَحْزَنَ أبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ البَتَّةَ، قَبْلَ المَوْتِ وعِنْدَ المَوْتِ وبَعْدَ المَوْتِ.
والوَجْهُ العاشِرُ: قَوْلُهُ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ ومَن قالَ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿عَلَيْهِ﴾ عائِدٌ إلى الرَّسُولِ فَهَذا باطِلٌ لِوُجُوهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ، وأقْرَبُ المَذْكُوراتِ المُتَقَدِّمَةِ في هَذِهِ الآيَةِ هو أبُو بَكْرٍ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ﴾ والتَّقْدِيرُ: إذْ يَقُولُ مُحَمَّدٌ لِصاحِبِهِ أبِي بَكْرٍ: لا تَحْزَنْ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَأقْرَبُ المَذْكُوراتِ السّابِقَةِ هو أبُو بَكْرٍ، فَوَجَبَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الحُزْنَ والخَوْفَ كانَ حاصِلًا لِأبِي بَكْرٍ لا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ آمِنًا ساكِنَ القَلْبِ بِما وعَدَهُ اللَّهُ أنْ يَنْصُرَهُ عَلى قُرَيْشٍ، فَلَمّا قالَ لِأبِي بَكْرٍ: لا تَحْزَنْ صارَ آمِنًا، فَصَرَفَ السَّكِينَةَ إلى أبِي بَكْرٍ؛ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزَوالِ خَوْفِهِ أوْلى مِن صَرْفِها إلى الرَّسُولِ ﷺ، مَعَ أنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كانَ ساكِنَ القَلْبِ، قَوِيَّ النَّفْسِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ إنْزالَ السَّكِينَةِ عَلى الرَّسُولِ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّ الرَّسُولَ كانَ قَبْلَ ذَلِكَ خائِفًا، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَما أمْكَنَهُ أنْ يَقُولَ لِأبِي بَكْرٍ: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ فَمَن كانَ خائِفًا كَيْفَ يُمْكِنُهُ أنْ يُزِيلَ الخَوْفَ عَنْ قَلْبِ غَيْرِهِ ؟ ولَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما قالُوهُ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، فَقالَ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ أوَّلًا أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ، ثُمَّ ذَكَرَ بِفاءِ التَّعْقِيبِ نُزُولَ السَّكِينَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ عَلِمْنا أنَّ نُزُولَ هَذِهِ السَّكِينَةِ مَسْبُوقٌ بِحُصُولِ السَّكِينَةِ في قَلْبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّكِينَةُ نازِلَةً (p-٥٤)عَلى قَلْبِ أبِي بَكْرٍ.
فَإنْ قِيلَ: وجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ أنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلى قَلْبِ الرَّسُولِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ وهَذا لا يَلِيقُ إلّا بِالرَّسُولِ، والمَعْطُوفُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُشارِكًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَلَمّا كانَ هَذا المَعْطُوفُ عائِدًا إلى الرَّسُولِ وجَبَ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ عائِدًا إلى الرَّسُولِ.
قُلْنا: هَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ إشارَةٌ إلى قِصَّةِ بَدْرٍ وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ وتَقْدِيرُ الآيَةِ: إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ في واقِعَةِ الغارِ، إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها في واقِعَةِ بَدْرٍ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ هَذا السُّؤالُ.
الوَجْهُ الحادِيَ عَشَرَ: مِنَ الوُجُوهِ الدّالَّةِ عَلى فَضْلِ أبِي بَكْرٍ مِن هَذِهِ الآيَةِ إطْباقُ الكُلِّ عَلى أنَّ أبا بَكْرٍ هو الَّذِي اشْتَرى الرّاحِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعَلى أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أبِي بَكْرٍ وأسْماءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ هُما اللَّذانِ كانا يَأْتِيانِهِما بِالطَّعامِ، «رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”لَقَدْ كُنْتُ أنا وصاحِبِي في الغارِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ولَيْسَ لَنا طَعامٌ إلّا التَّمْرَ“ وذَكَرُوا أنَّ جِبْرِيلَ أتاهُ وهو جائِعٌ، فَقالَ: هَذِهِ أسْماءُ قَدْ أتَتْ بِحَيْسٍ، فَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ، وأخْبَرَ بِهِ أبا بَكْرٍ، ولَمّا أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ أظْهَرَهُ لِأبِي بَكْرٍ، فَأمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أنْ يَشْتَرِيَ جَمَلَيْنِ ورَحْلَيْنِ وكُسْوَتَيْنِ، ويَفْصِلَ أحَدَهُما لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلَمّا قَرُبا مِنَ المَدِينَةِ وصَلَ الخَبَرُ إلى الأنْصارِ فَخَرَجُوا مُسْرِعِينَ، فَخافَ أبُو بَكْرٍ أنَّهم لا يَعْرِفُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَألْبَسَ رَسُولَ اللَّهِ ثَوْبَهُ، لِيَعْرِفُوا أنَّ الرَّسُولَ هو هو، فَلَمّا دَنَوْا خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا فَقالَ لَهم: ”اسْجُدُوا لِرَبِّكم وأكْرِمُوا أخًا لَكُمْ“ ثُمَّ أناخَتْ ناقَتُهُ بِبابِ أبِي أيُّوبَ»، رَوَيْنا هَذِهِ الرِّواياتِ مِن تَفْسِيرِ أبِي بَكْرٍ الأصَمِّ.
الوَجْهُ الثّانِيَ عَشَرَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ دَخَلَ المَدِينَةَ ما كانَ مَعَهُ إلّا أبُو بَكْرٍ، والأنْصارُ ما رَأوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أحَدًا إلّا أبا بَكْرٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِن بَيْنِ أصْحابِهِ في السَّفَرِ والحَضَرِ، وإنَّ أصْحابَنا زادُوا عَلَيْهِ وقالُوا: لَمّا لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ في ذَلِكَ السَّفَرِ أحَدٌ إلّا أبُو بَكْرٍ، فَلَوْ قَدَّرْنا أنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ السَّفَرِ، لَزِمَ أنْ لا يَقُومَ بِأمْرِهِ إلّا أبُو بَكْرٍ، وأنْ لا يَكُونَ وصِّيَهُ عَلى أُمَّتِهِ إلّا أبُو بَكْرٍ، وأنْ لا يُبَلِّغَ ما حَدَثَ مِنَ الوَحْيِ والتَّنْزِيلِ في ذَلِكَ الطَّرِيقِ إلى أُمَّتِهِ إلّا أبُو بَكْرٍ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى الفَضائِلِ العالِيَةِ والدَّرَجاتِ الرَّفِيعَةِ لِأبِي بَكْرٍ.
واعْلَمْ أنَّ الرَّوافِضَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ، وبِهَذِهِ الواقِعَةِ عَلى الطَّعْنِ في أبِي بَكْرٍ مِن وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ حَقِيرَةٍ، جارِيَةٍ مَجْرى إخْفاءِ الشَّمْسِ بِكَفٍّ مِنَ الطِّينِ:
فالأوَّلُ: قالُوا: «إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِأبِي بَكْرٍ: ”لا تَحْزَنْ» “ فَذَلِكَ الحُزْنُ إنْ كانَ حَقًّا فَكَيْفَ نَهى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْهُ ؟ وإنْ كانَ خَطَأً، لَزِمَ أنْ يَكُونَ أبُو بَكْرٍ مُذْنِبًا وعاصِيًا في ذَلِكَ الحُزْنِ.
والثّانِي: قالُوا يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ يَخافُ مِنهُ أنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ في مَكَّةَ أنْ يَدُلَّ الكُفّارَ عَلَيْهِ، وأنْ يُوقِفَهم عَلى أسْرارِهِ ومَعانِيهِ، فَأخَذَهُ مَعَ نَفْسِهِ دَفْعًا لِهَذا الشَّرِّ.
والثّالِثُ: أنَّهُ وإنْ دَلَّتْ هَذِهِ الحالَةُ عَلى فَضْلِ أبِي بَكْرٍ إلّا أنَّهُ أمَرَ عَلِيًّا بِأنْ يَضْطَجِعَ عَلى فِراشِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الِاضْطِجاعَ عَلى فِراشِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الظَّلْماءِ مَعَ كَوْنِ الكُفّارِ قاصِدِينَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ تَعْرِيضُ (p-٥٥)النَّفْسِ لِلْفِداءِ، فَهَذا العَمَلُ مِن عَلِيٍّ أعْلى وأعْظَمُ مِن كَوْنِ أبِي بَكْرٍ صاحِبًا لِلرَّسُولِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ ما ذَكَرُوهُ في ذَلِكَ البابِ.
والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ أبا عَلِيٍّ الجُبّائِيَّ لَمّا حَكى عَنْهم تِلْكَ الشُّبْهَةَ، قالَ: فَيُقالُ لَهم: يَجِبُ في قَوْلِهِ تَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿لا تَخَفْ إنَّكَ أنْتَ الأعْلى﴾ [طه: ٦٨] أنْ يَدُلَّ عَلى أنَّهُ كانَ عاصِيًا في خَوْفِهِ، وذَلِكَ طَعْنٌ في الأنْبِياءِ، ويَجِبُ في قَوْلِهِ تَعالى في إبْراهِيمَ، حَيْثُ قالَتِ المَلائِكَةُ لَهُ: ﴿لا تَخَفْ﴾ في قِصَّةِ العِجْلِ المَشْوِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وفي قَوْلِهِمْ لِلُوطٍ: ﴿لا تَخَفْ ولا تَحْزَنْ إنّا مُنَجُّوكَ وأهْلَكَ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٣٣] مِثْلُ ذَلِكَ.
فَإذا قالُوا: إنَّ ذَلِكَ الخَوْفَ إنَّما حَصَلَ بِمُقْتَضى البَشَرِيَّةِ، وإنَّما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَخَفْ﴾ لِيُفِيدَ الأمْنَ، وفَراغَ القَلْبِ.
قُلْنا لَهم في هَذِهِ المَسْألَةِ كَذَلِكَ.
فَإنْ قالُوا: ألَيْسَ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائِدَةِ: ٦٧] فَكَيْفَ خافَ مَعَ سَماعِ هَذِهِ الآيَةِ ؟ فَنَقُولُ: هَذِهِ الآيَةُ إنَّما نَزَلَتْ في المَدِينَةِ، وهَذِهِ الواقِعَةُ سابِقَةٌ عَلى نُزُولِها، وأيْضًا فَهَبْ أنَّهُ كانَ آمِنًا عَلى عَدَمِ القَتْلِ، ولَكِنَّهُ ما كانَ آمِنًا مِنَ الضَّرْبِ، والجَرْحِ والإيلامِ الشَّدِيدِ. والعَجَبُ مِنهم، فَإنّا لَوْ قَدَّرْنا أنَّ أبا بَكْرٍ ما كانَ خائِفًا، لَقالُوا: إنَّهُ فَرِحَ بِسَبَبِ وُقُوعِ الرَّسُولِ في البَلاءِ، ولَمّا خافَ وبَكى قالُوا هَذا السُّؤالَ الرَّكِيكَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهم لا يَطْلُبُونَ الحَقَّ، وإنَّما مَقْصُودُهم مَحْضُ الطَّعْنِ! .
والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّ الَّذِي قالُوهُ أخَسُّ مِن شُبُهاتِ السُّوفِسْطائِيَّةِ، فَإنَّ أبا بَكْرٍ لَوْ كانَ قاصِدًا لَهُ، لَصاحَ بِالكُفّارِ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إلى بابِ الغارِ، وقالَ لَهم: نَحْنُ هَهُنا، ولَقالَ ابْنُهُ وابْنَتُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وأسْماءُ لِلْكُفّارِ: نَحْنُ نَعْرِفُ مَكانَ مُحَمَّدٍ فَنَدُلُّكم عَلَيْهِ، فَنَسْألُ اللَّهَ العِصْمَةَ مِن عَصَبِيَّةٍ تَحْمِلُ الإنْسانَ عَلى مِثْلِ هَذا الكَلامِ الرَّكِيكِ.
والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنّا لا نُنْكِرُ أنَّ اضْطِجاعَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ عَلى فِراشِ رَسُولِ اللَّهِ طاعَةٌ عَظِيمَةٌ ومَنصِبٌ رَفِيعٌ، إلّا أنّا نَدَّعِي أنَّ أبا بَكْرٍ بِمُصاحَبَتِهِ كانَ حاضِرًا في خِدْمَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وعَلِيٌّ كانَ غائِبًا، والحاضِرُ أعْلى حالًا مِنَ الغائِبِ.
الثّانِي: أنَّ عَلِيًّا ما تَحَمَّلَ المِحْنَةَ إلّا في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، أمّا بَعْدَها لَمّا عَرَفُوا أنَّ مُحَمَّدًا غابَ تَرَكُوهُ، ولَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ. أمّا أبُو بَكْرٍ، فَإنَّهُ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثَلاثَةَ أيّامٍ في الغارِ كانَ في أشَدِّ أسْبابِ المِحْنَةِ، فَكانَ بَلاؤُهُ أشَدَّ.
الثّالِثُ: أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كانَ مَشْهُورًا فِيما بَيْنَ النّاسِ بِأنَّهُ يُرَغِّبُ النّاسَ في دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويَدْعُوهم إلَيْهِ، وشاهَدُوا مِنهُ أنَّهُ دَعا جَمْعًا مِن أكابِرِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم إلى ذَلِكَ الدِّينِ، وأنَّهم إنَّما قَبِلُوا ذَلِكَ الدِّينَ بِسَبَبِ دَعْوَتِهِ، وكانَ يُخاصِمُ الكُفّارَ بِقَدْرِ الإمْكانِ، وكانَ يَذُبُّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ بِالنَّفْسِ والمالِ، وأمّا عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإنَّهُ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ صَغِيرَ السِّنِّ، وما ظَهَرَ مِنهُ دَعْوَةٌ لا بِالدَّلِيلِ والحُجَّةِ، ولا جِهادٌ بِالسَّيْفِ والسِّنانِ؛ لِأنَّ مُحارَبَتَهُ مَعَ الكُفّارِ إنَّما ظَهَرَتْ بَعْدَ انْتِقالِهِمْ إلى المَدِينَةِ بِمُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، فَحالَ الهِجْرَةِ ما ظَهَرَ مِنهُ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأحْوالِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ غَضَبُ الكُفّارِ عَلى أبِي بَكْرٍ لا مَحالَةَ أشَدَّ مِن غَضَبِهِمْ عَلى عَلِيٍّ، ولِهَذا السَّبَبِ، فَإنَّهم لَمّا عَرَفُوا أنَّ المُضْطَجِعَ عَلى ذَلِكَ الفِراشِ (p-٥٦)هُوَ عَلِيٌّ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ البَتَّةَ، ولَمْ يَقْصِدُوهُ بِضَرْبٍ ولا ألَمٍ، فَعَلِمْنا أنَّ خَوْفَ أبِي بَكْرٍ عَلى نَفْسِهِ في خِدْمَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أشَدُّ مِن خَوْفِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ، فَكانَتْ تِلْكَ الدَّرَجَةُ أفْضَلَ وأكْمَلَ، هَذا ما نَقُولُهُ في هَذا البابِ عَلى سَبِيلِ الِاخْتِصارِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ فاعْلَمْ أنَّ تَقْدِيرَ الآيَةِ أنْ يُقالَ: ﴿إلّا تَنْصُرُوهُ﴾ فَلا بُدَّ لَهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ صُورَتَيْنِ.
الصُّورَةُ الأُولى: أنَّهُ قَدْ نَصَرَهُ في واقِعَةِ الهِجْرَةِ﴿إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ .
والصُّورَةُ الثّانِيَةُ: واقِعَةُ بَدْرٍ، وهي المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ لِأنَّهُ تَعالى أنْزَلَ المَلائِكَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وأيَّدَ رَسُولَهُ ﷺ بِهِمْ، فَقَوْلُهُ: ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ .
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَلِمَةَ الشِّرْكِ سافِلَةً دَنِيئَةً حَقِيرَةً، وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا، وهي قَوْلُهُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، قالَ الواحِدِيُّ: والِاخْتِيارُ في قَوْلِهِ: ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ الرَّفْعُ، وهي قِراءَةُ العامَّةِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، قالَ الفَرّاءُ: ويَجُوزُ ”كَلِمَةَ اللَّهِ“ بِالنَّصْبِ، ولا أُحِبُّ هَذِهِ القِراءَةَ؛ لِأنَّهُ لَوْ نَصَبَها لَكانَ الأجْوَدَ أنْ يُقالَ: وكَلِمَةَ اللَّهِ العُلْيا، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: أعْتَقَ أبُوكَ غُلامَهُ، ولا تَقُولُ: أعْتَقَ غُلامَهُ أبُوكَ ؟ .
ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أيْ: قاهِرٌ غالِبٌ، لا يَفْعَلُ إلّا الصَّوابَ.
{"ayah":"إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَیۡهِ وَأَیَّدَهُۥ بِجُنُودࣲ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِیَ ٱلۡعُلۡیَاۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق