الباحث القرآني

(p-٣٤)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهم وجُنُوبُهم وظُهُورُهم هَذا ما كَنَزْتُمْ لِأنْفُسِكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ رُؤَساءَ اليَهُودِ والنَّصارى بِالتَّكَبُّرِ والتَّجَبُّرِ وادِّعاءِ الرُّبُوبِيَّةِ والتَّرَفُّعِ عَلى الخَلْقِ، وصَفَهم في هَذِهِ الآيَةِ بِالطَّمَعِ والحِرْصِ عَلى أخْذِ أمْوالِ النّاسِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المَقْصُودَ مِن إظْهارِ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةِ والتَّجَبُّرِ والفَخْرِ أخْذُ أمْوالِ النّاسِ بِالباطِلِ، ولَعَمْرِي مَن تَأمَّلَ أحْوالَ أهْلِ النّامُوسِ والتَّزْوِيرِ في زَمانِنا، وجَدَ هَذِهِ الآياتِ كَأنَّها ما أُنْزِلَتْ إلّا في شَأْنِهِمْ، وفي شَرْحِ أحْوالِهِمْ، فَتَرى الواحِدَ مِنهم يَدَّعِي أنَّهُ لا يَلْتَفِتُ إلى الدُّنْيا، ولا يَتَعَلَّقُ خاطِرُهُ بِجَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، وأنَّهُ في الطَّهارَةِ والعِصْمَةِ مِثْلُ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ حَتّى إذا آلَ الأمْرُ إلى الرَّغِيفِ الواحِدِ تَراهُ يَتَهالَكُ عَلَيْهِ، ويَتَحَمَّلُ نِهايَةَ الذُّلِّ والدَّناءَةِ في تَحْصِيلِهِ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ عَرَفْتَ أنَّ الأحْبارَ مِنَ اليَهُودِ، والرُّهْبانَ مِنَ النَّصارى بِحَسَبِ العُرْفِ، فاللَّهُ تَعالى حَكى عَنْ كَثِيرٍ مِنهم أنَّهم لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ، وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿كَثِيرًا﴾ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَرِيقَةُ بَعْضِهِمْ لا طَرِيقَةُ الكُلِّ، فَإنَّ العالَمَ لا يَخْلُو عَنِ الحَقِّ، وإطْباقُ الكُلِّ عَلى الباطِلِ كالمُمْتَنِعِ هَذا يُوهِمُ أنَّهُ كَما أنَّ إجْماعَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى الباطِلِ لا يَحْصُلُ، فَكَذَلِكَ سائِرُ الأُمَمِ. البَحْثُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى عَبَّرَ عَنْ أخْذِ الأمْوالِ بِالأكْلِ وهو قَوْلُهُ: ﴿لَيَأْكُلُونَ﴾ والسَّبَبُ في هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ، أنَّ المَقْصُودَ الأعْظَمَ مِن جَمْعِ الأمْوالِ هو الأكْلُ، فَسُمِّيَ الشَّيْءُ بِاسْمِ ما هو أعْظَمُ مَقاصِدِهِ، أوْ يُقالُ: مَن أكَلَ شَيْئًا فَقَدْ ضَمِنَهُ إلى نَفْسِهِ، ومَنَعَهُ مِنَ الوُصُولِ إلى غَيْرِهِ، ومَن جَمَعَ المالَ فَقَدْ ضَمَّ تِلْكَ الأمْوالَ إلى نَفْسِهِ، ومَنَعَها مِنَ الوُصُولِ إلى غَيْرِهِ، فَلَمّا حَصَلَتِ المُشابَهَةُ بَيْنَ الأكْلِ وبَيْنَ الأخْذِ مِن هَذا الوَجْهِ، سُمِّيَ الأخْذُ بِالأكْلِ، أوْ يُقالُ: إنَّ مَن أخَذَ أمْوالَ النّاسِ، فَإذا طُولِبَ بِرَدِّها، قالَ: أكَلْتُها وما بَقِيَتْ، فَلا أقْدِرُ عَلى رَدِّها، فَلِهَذا السَّبَبِ سُمِّيَ الأخْذُ بِالأكْلِ. البَحْثُ الثّالِثُ: أنَّهُ قالَ: ﴿لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ وقَدِ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ هَذا الباطِلِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهم كانُوا يَأْخُذُونَ الرُّشا في تَخْفِيفِ الأحْكامِ والمُسامَحَةِ في الشَّرائِعِ. والثّانِي: أنَّهم كانُوا يَدَّعُونَ عِنْدَ الحَشَراتِ والعَوامِّ مِنهم، أنَّهُ لا سَبِيلَ لِأحَدٍ إلى الفَوْزِ بِمَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى إلّا بِخِدْمَتِهِمْ وطاعَتِهِمْ، وبَذْلِ الأمْوالِ في طَلَبِ مَرْضاتِهِمْ، والعَوامُّ كانُوا يَغْتَرُّونَ بِتِلْكَ الأكاذِيبِ. الثّالِثُ: التَّوْراةُ كانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلى آياتٍ دالَّةٍ عَلى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَأُولَئِكَ الأحْبارُ والرُّهْبانُ، كانُوا يَذْكُرُونَ في تَأْوِيلِها وُجُوهًا فاسِدَةً، ويَحْمِلُونَها عَلى مُحامِلَ باطِلَةٍ، وكانُوا يُطَيِّبُونَ قُلُوبَ عَوامِّهِمْ بِهَذا السَّبَبِ، ويَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ. والرّابِعُ: أنَّهم كانُوا يُقَرِّرُونَ عِنْدَ عَوامِّهِمْ أنَّ الدِّينَ الحَقَّ هو الَّذِي هم عَلَيْهِ، فَإذا قَرَّرُوا ذَلِكَ قالُوا: وتَقْوِيَةُ الدِّينِ الحَقِّ واجِبٌ، ثُمَّ قالُوا: ولا طَرِيقَ إلى تَقْوِيَتِهِ إلّا إذا كانَ أُولَئِكَ الفُقَهاءُ أقْوامًا عُظَماءَ أصْحابَ الأمْوالِ الكَثِيرَةِ والجَمْعِ العَظِيمِ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ يَحْمِلُونَ العَوامَّ عَلى أنْ يَبْذُلُوا في خِدْمَتِهِمْ نُفُوسَهم وأمْوالَهم، فَهَذا هو الباطِلُ الَّذِي كانُوا بِهِ يَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ، وهي بِأسْرِها حاضِرَةٌ في زَمانِنا، وهو الطَّرِيقُ لِأكْثَرِ الجُهّالِ والمُزَوِّرِينَ إلى أخْذِ أمْوالِ العَوامِّ والحَمْقى مِنَ الخَلْقِ. (p-٣٥)ثُمَّ قالَ: ﴿ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لِأنَّهم كانُوا يَقْتُلُونَ عَلى مُتابَعَتِهِمْ، ويَمْنَعُونَ عَنْ مُتابَعَةِ الأخْيارِ مِنَ الخَلْقِ والعُلَماءِ في الزَّمانِ، وفي زَمانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانُوا يُبالِغُونَ في المَنعِ عَنْ مُتابَعَتِهِ بِجَمِيعِ وُجُوهِ المَكْرِ والخِداعِ. قالَ المُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: غايَةُ مَطْلُوبِ الخَلْقِ في الدُّنْيا المالُ والجاهُ، فَبَيَّنَ تَعالى في صِفَةِ الأحْبارِ والرُّهْبانِ كَوْنَهم مَشْغُوفِينَ بِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، فالمالُ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ وأمّا الجاهُ فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فَإنَّهم لَوْ أقَرُّوا بِأنَّ مُحَمَّدًا عَلى الحَقِّ لَزِمَهم مُتابَعَتُهُ، وحِينَئِذٍ فَكانَ يَبْطُلُ حُكْمُهم، وتَزُولُ حُرْمَتُهم فَلِأجْلِ الخَوْفِ مِن هَذا المَحْذُورِ كانُوا يُبالِغُونَ في المَنعِ مِن مُتابَعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ويُبالِغُونَ في إلْقاءِ الشُّبُهاتِ، وفي اسْتِخْراجِ وُجُوهِ المَكْرِ والخَدِيعَةِ، وفي مَنعِ الخَلْقِ مِن قَبُولِ دِينِهِ الحَقِّ، والِاتِّباعِ لِمَنهَجِهِ الصَّحِيحِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ . وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ﴾ احْتِمالاتٌ ثَلاثَةٌ؛ لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ:(الَّذِينَ) أُولَئِكَ الأحْبارَ والرُّهْبانَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كَلامًا مُبْتَدَأً عَلى ما قالَ بَعْضُهم: المُرادُ مِنهُ مانِعُو الزَّكاةِ مِنَ المُسْلِمِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ كُلَّ مَن كَنَزَ المالَ ولَمْ يُخْرِجْ مِنهُ الحُقُوقَ الواجِبَةَ، سَواءٌ كانَ مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ أوْ كانَ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَلا شَكَّ أنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ، ورُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وهْبٍ قالَ: مَرَرْتُ بِأبِي ذَرٍّ فَقُلْتُ: يا أبا ذَرٍّ ما أنْزَلَكَ هَذِهِ البِلادَ ؟ فَقالَ: كُنْتُ بِالشّامِ فَقَرَأْتُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ . فَقالَ مُعاوِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في أهْلِ الكِتابِ فَقُلْتُ: إنَّها فِيهِمْ وفِينا، فَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْوَحْشَةِ بَيْنِي وبَيْنَهُ، فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمانُ أنْ أقْبِلْ إلَيَّ، فَلَمّا قَدِمْتُ المَدِينَةَ انْحَرَفَ النّاسُ عَنِّي، كَأنَّهم لَمْ يَرَوْنِي مِن قَبْلُ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلى عُثْمانَ فَقالَ لِي: تَنَحَّ قَرِيبًا إنِّي واللَّهِ لَنْ أدَعَ ما كُنْتُ أقُولُ، وعَنِ الأحْنَفِ قالَ: لَمّا قَدِمْتُ المَدِينَةَ رَأيْتُ أبا ذَرٍّ يَقُولُ: بَشِّرِ الكافِرِينَ بِرَضْفٍ يُحْمى عَلَيْهِ في نارِ جَهَنَّمَ، فَتُوضَعَ عَلى حَلَمَةِ ثَدْيِ أحَدِهِمْ حَتّى تَخْرُجَ مِن نُغَضِ كَتِفِهِ حَتّى يَرْفَضَّ بَدَنُهُ، وتُوضَعَ عَلى نُغَضِ كَتِفِهِ حَتّى تَخْرُجَ مِن حَلَمَةِ ثَدْيِهِ، فَلَمّا سَمِعَ القَوْمُ ذَلِكَ تَرَكُوهُ فاتَّبَعْتُهُ وقُلْتُ: ما رَأيْتُ هَؤُلاءِ إلّا كَرِهُوا ما قُلْتَ لَهم؛ فَقالَ: ما عَسى أنْ يَصْنَعَ فِيَّ قُرَيْشٌ. قالَ مَوْلانا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنْ كانَ المُرادُ تَخْصِيصَ هَذا الوَعِيدِ بِمَن سَبَقَ ذِكْرُهم وهم أهْلُ الكِتابِ، كانَ التَّقْدِيرُ أنَّهُ تَعالى وصَفَهم بِالحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلى أخْذِ أمْوالِ النّاسِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ ووَصَفَهم أيْضًا بِالبُخْلِ الشَّدِيدِ، والِامْتِناعِ عَنْ إخْراجِ الواجِباتِ عَنْ أمْوالِ أنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ وإنْ كانَ المُرادُ مانِعِي الزَّكاةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، كانَ التَّقْدِيرُ أنَّهُ تَعالى وصَفَ قُبْحَ طَرِيقَتِهِمْ في الحِرْصِ عَلى أخْذِ أمْوالِ النّاسِ بِالباطِلِ، ثُمَّ نَدَبَ المُسْلِمِينَ إلى إخْراجِ الحُقُوقِ الواجِبَةِ مِن أمْوالِهِمْ، وبَيَّنَ ما في تَرْكِهِ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وإنْ كانَ المُرادُ الكُلَّ كانَ التَّقْدِيرُ أنَّهُ تَعالى وصَفَهم بِالحِرْصِ عَلى أخْذِ أمْوالِ النّاسِ بِالباطِلِ، ثُمَّ أرْدَفَهُ بِوَعِيدِ كُلِّ مَنِ امْتَنَعَ عَنْ إخْراجِ الحُقُوقِ الواجِبَةِ مِن مالِهِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لَمّا (p-٣٦)كانَ حالُ مَن أمْسَكَ مالَ نَفْسِهِ بِالباطِلِ، كَذَلِكَ فَما ظَنُّكَ بِحالِ مَن سَعى في أخْذِ مالِ غَيْرِهِ بِالباطِلِ والتَّزْوِيرِ والمَكْرِ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أصْلُ الكَنْزِ في كَلامِ العَرَبِ هو الجَمْعُ، وكُلُّ شَيْءٍ جُمِعَ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ فَهو مَكْنُوزٌ، يُقالُ: هَذا جِسْمٌ مُكْتَنِزُ الأجْزاءِ إذا كانَ مُجْتَمِعَ الأجْزاءِ، واخْتَلَفَ عُلَماءُ الصَّحابَةِ في المُرادِ بِهَذا الكَنْزِ المَذْمُومِ، فَقالَ الأكْثَرُونَ: هو المالُ الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكاتُهُ، وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما أدَّيْتَ زَكاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وقالَ ابْنُ عُمَرَ: كُلُّ ما أدَّيْتَ زَكاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وإنْ كانَ تَحْتَ سَبْعِ أرَضِينَ، وكُلُّ ما لَمْ تُؤَدِّ زَكاتَهُ فَهو كَنْزٌ وإنْ كانَ فَوْقَ الأرْضِ، وقالَ جابِرٌ: إذا أخْرَجْتَ الصَّدَقَةَ مِن تِلْكَ فَقَدْ أذْهَبْتَ عَنْهُ شَرَّهُ ولَيْسَ بِكَنْزٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يُرِيدُ الَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ زَكاةَ أمْوالِهِمْ، قالَ القاضِي: تَخْصِيصُ هَذا المَعْنى بِمَنعِ الزَّكاةِ لا سَبِيلَ إلَيْهِ، بَلِ الواجِبُ أنْ يُقالَ: الكَنْزُ هو المالُ الَّذِي ما أُخْرِجَ عَنْهُ ما وجَبَ إخْراجُهُ عَنْهُ، ولا فَرْقَ بَيْنَ الزَّكاةِ وبَيْنَ ما يَجِبُ مِنَ الكَفّاراتِ، وبَيْنَ ما يَلْزَمُ مِن نَفَقَةِ الحَجِّ أوِ الجُمُعَةِ، وبَيْنَ ما يَجِبُ إخْراجُهُ في الدَّيْنِ والحُقُوقِ، والإنْفاقِ عَلى الأهْلِ أوِ العِيالِ، وضَمانِ المُتْلَفاتِ وأُرُوشِ الجِناياتِ، فَيَجِبُ في كُلِّ هَذِهِ الأقْسامِ أنْ يَكُونَ داخِلًا في الوَعِيدِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المالَ الكَثِيرَ إذا جُمِعَ فَهو الكَنْزُ المَذْمُومُ، سَواءٌ أدَّيْتَ زَكاتَهُ أوْ لَمْ تُؤَدِّ، واحْتَجَّ الذّاهِبُونَ إلى القَوْلِ الأوَّلِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأُمُورٍ: الأوَّلُ: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨٦] فَإنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ ما اكْتَسَبَهُ الإنْسانُ فَهو حَقُّهُ، وكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَسْألْكم أمْوالَكُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٣٦] وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«نِعْمَ المالُ الصّالِحُ لِلرَّجُلِ الصّالِحِ» “ وقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«كُلُّ امْرِئٍ أحَقُّ بِكَسْبِهِ» “ وقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ما أُدِّيَ زَكاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وإنْ كانَ باطِنًا، وما بَلَغَ أنْ يُزَكّى ولَمْ يُزَكَّ فَهو كَنْزٌ» “ وإنْ كانَ ظاهِرًا. الثّانِي: أنَّهُ كانَ في زَمانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جَماعَةٌ كَعُثْمانَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَعُدُّهم مِن أكابِرِ المُؤْمِنِينَ. الثّالِثُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ نَدَبَ إلى إخْراجِ الثُّلُثِ أوْ أقَلَّ في المَرَضِ، ولَوْ كانَ جَمْعُ المالِ مُحَرَّمًا لَكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أقَرَّ المَرِيضَ بِالتَّصَدُّقِ بِكُلِّهِ، بَلْ كانَ يَأْمُرُ الصَّحِيحَ في حالِ صِحَّتِهِ بِذَلِكَ، واحْتَجَّ الذّاهِبُونَ إلى القَوْلِ الثّانِي بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: عُمُومُ هَذِهِ الآيَةِ، ولا شَكَّ أنَّ ظاهِرَها دَلِيلٌ عَلى المَنعِ مِن جَمْعِ المالِ، فالمَصِيرُ إلى أنَّ الجَمْعَ مُباحٌ بَعْدَ إخْراجِ الزَّكاةِ تَرْكٌ لِظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ، فَلا يُصارُ إلَيْهِ إلّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. والثّانِي: ما رَوى سالِمُ بْنُ الجَعْدِ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”تَبًّا لِلذَّهَبِ، تَبًّا لِلْفِضَّةِ“ قالَها ثَلاثًا، فَقالُوا لَهُ: أيُّ مالٍ نَتَّخِذُ ؟ قالَ: لِسانًا ذاكِرًا، وقَلْبًا خاشِعًا، وزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكم عَلى دِينِهِ»، وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «”مَن تَرَكَ صَفْراءَ أوْ بَيْضاءَ كُوِيَ بِها»، «وتُوُفِّيَ رَجُلٌ فَوُجِدَ في مِئْزَرِهِ دِينارٌ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ:“كَيَّةٌ”وتُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ في مِئْزَرِهِ دِينارانِ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:“كَيَّتانِ”» . والثّالِثُ: ما رُوِيَ عَنِ الصَّحابَةِ في هَذا البابِ فَقالَ عَلِيٌّ: كُلُّ مالٍ زادَ عَلى أرْبَعَةِ آلافٍ فَهو كَنْزٌ أدَّيْتَ مِنهُ الزَّكاةَ أوْ لَمْ تُؤَدِّ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: كُلُّ صَفْراءَ أوْ بَيْضاءَ أوْكى عَلَيْها صاحِبُها فَهي كَنْزٌ، وعَنْ أبِي الدَّرْداءِ أنَّهُ كانَ إذا رَأى أنَّ العِيرَ تَقْدُمُ بِالمالِ صَعِدَ عَلى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ، ويَقُولُ: جاءَتِ القِطارُ تَحْمِلُ النّارَ، وبَشِّرِ الكَنّازِينَ بِكَيٍّ في الجِباهِ والجُنُوبِ والظُّهُورِ والبُطُونِ. والرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ الأمْوالَ لِيُتَوَسَّلَ بِها إلى دَفْعِ الحاجاتِ، فَإذا حَصَلَ لِلْإنْسانِ قَدْرُ ما يَدْفَعُ بِهِ حاجَتَهُ، ثُمَّ جَمَعَ الأمْوالَ الزّائِدَةَ عَلَيْهِ فَهو لا يَنْتَفِعُ بِها لِكَوْنِها زائِدَةً عَلى قَدْرِ حاجَتِهِ (p-٣٧)ومَنَعَها مِنَ الغَيْرِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أنْ يَدْفَعَ حاجَتَهُ بِها، فَكانَ هَذا الإنْسانُ بِهَذا المَنعِ مانِعًا مِن ظُهُورِ حِكْمَتِهِ، ومانِعًا مِن وُصُولِ إحْسانِ اللَّهِ إلى عَبِيدِهِ. واعْلَمْ أنَّ الطَّرِيقَ الحَقَّ أنْ يُقالَ: الأوْلى أنْ لا يَجْمَعَ الرَّجُلُ الطّالِبُ لِلدِّينِ المالَ الكَثِيرَ، إلّا أنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ في ظاهِرِ الشَّرْعِ، فالأوَّلُ مَحْمُولٌ عَلى التَّقْوى، والثّانِي عَلى ظاهِرِ الفَتْوى، أمّا بَيانُ أنَّ الأوْلى الِاحْتِرازُ عَنْ طَلَبِ المالِ الكَثِيرِ فَبِوُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الإنْسانَ إذا أحَبَّ شَيْئًا فَكُلَّما كانَ وُصُولُهُ إلَيْهِ أكْثَرَ، والتِذاذُهُ بِوِجْدانِهِ أكْثَرَ، كانَ حُبُّهُ لَهُ أشَدَّ ومَيْلُهُ أقْوى، فالإنْسانُ إذا كانَ فَقِيرًا فَكَأنَّهُ لَمْ يَذُقْ لَذَّةَ الِانْتِفاعِ بِالمالِ، وكَأنَّهُ غافِلٌ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ، فَإذا مَلَكَ القَلِيلَ مِنَ المالِ وجَدَ بِقَدْرِهِ اللَّذَّةَ، فَصارَ مَيْلُهُ أشَدَّ، فَكُلَّما صارَتْ أمْوالُهُ أزْيَدَ، كانَ التِذاذُهُ بِهِ أكْثَرَ، وكانَ حِرْصُهُ في طَلَبِهِ ومَيْلُهُ إلى تَحْصِيلِهِ أشَدَّ، فَثَبَتَ أنَّ تَكْثِيرَ المالِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الحِرْصِ في الطَّلَبِ، فالحِرْصُ مُتْعِبٌ لِلرُّوحِ والنَّفْسِ والقَلْبِ وضَرَرُهُ شَدِيدٌ، فَوَجَبَ عَلى العاقِلِ أنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الإضْرارِ بِالنَّفْسِ، وأيْضًا قَدْ بَيَّنّا أنَّهُ كُلَّما كانَ المالُ أكْثَرَ كانَ الحِرْصُ أشَدَّ، فَلَوْ قَدَّرْنا أنَّهُ كانَ يَنْتَهِي طَلَبُ المالِ إلى حَدٍّ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ الطَّلَبُ ويَزُولُ الحِرْصُ، لَقَدْ كانَ الإنْسانُ يَسْعى في الوُصُولِ إلى ذَلِكَ الحَدِّ، أمّا لَمّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ كُلَّما كانَ تَمَلُّكُ الأمْوالِ أكْثَرَ كانَ الضَّرَرُ النّاشِئُ مِنَ الحِرْصِ أكْبَرَ، وأنَّهُ لا نِهايَةَ لِهَذا الضَّرَرِ ولِهَذا الطَّلَبِ، فَوَجَبَ عَلى الإنْسانِ أنْ يَتْرُكَهُ في أوَّلِ الأمْرِ كَما قالَ: ؎رَأى الأمْرَ يُفْضِي إلى آخَرَ فَيُصَيَّرُ آخِرُهُ أوَّلا والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ كَسْبَ المالِ شاقٌّ شَدِيدٌ، وحِفْظَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ أشَدُّ وأشَقُّ وأصْعَبُ، فَيَبْقى الإنْسانُ طُولَ عُمُرِهِ تارَةً في طَلَبِ التَّحْصِيلِ، وأُخْرى في تَعَبِ الحِفْظِ، ثُمَّ إنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِها إلّا بِالقَلِيلِ، وبِالآخَرِ يَتْرُكُها مَعَ الحَسَراتِ والزَّفَراتِ، وذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ. والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ كَثْرَةَ المالِ والجاهِ تُورِثُ الطُّغْيانَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العَلَقِ: ٦ - ٧] والطُّغْيانُ يَمْنَعُ مِن وُصُولِ العَبْدِ إلى مَقامِ رِضْوانِ الرَّحْمَنِ، ويُوقِعُهُ في الخُسْرانِ والخِذْلانِ. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى أوْجَبَ الزَّكاةَ، وذَلِكَ سَعْيٌ في تَنْقِيصِ المالِ، ولَوْ كانَ تَكْثِيرُهُ فَضِيلَةً لَما سَعى الشَّرْعُ في تَنْقِيصِهِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ:“ «اليَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى» ”؟ قُلْنا: اليَدُ العُلْيا إنَّما أفادَتْهُ صِفَةَ الخَيْرِيَّةِ؛ لِأنَّهُ أعْطى ذَلِكَ القَلِيلَ، فَبِسَبَبِ أنَّهُ حَصَلَ في مالِهِ ذَلِكَ النُّقْصانُ القَلِيلُ حَصَلَتْ لَهُ الخَيْرِيَّةُ، وبِسَبَبِ أنَّهُ حَصَلَ لِلْفَقِيرِ تِلْكَ الزِّيادَةُ القَلِيلَةُ حَصَلَتِ المَرْجُوحِيَّةُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: جاءَتِ الأخْبارُ الكَثِيرَةُ في وعِيدِ مانِعِي الزَّكاةِ، أمّا مَنعُ زَكاةِ النُّقُودِ فَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ﴾ وأمّا مَنعُ زَكاةِ المَواشِي فَما رُوِيَ في الحَدِيثِ أنَّهُ تَعالى يُعَذِّبُ أصْحابَ المَواشِي إذا لَمْ يُؤَدُّوا زَكاتَها بِأنْ يَسُوقَ إلَيْهِ تِلْكَ المَواشِيَ كَأعْظَمِ ما تَكُونُ في أجْسامِها، فَتَمُرُّ عَلى أرْبابِها (p-٣٨)فَتَطَؤُهم بِأظْلافِها، وتَنْطَحُهم بِقُرُونِها كُلَّما نَفِدَتْ أُخْراها عادَتْ إلَيْهِمْ أُولاها، فَلا يَزالُ كَذَلِكَ حَتّى يَفْرَغَ النّاسُ مِنَ الحِسابِ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الصَّحِيحُ عِنْدَنا وُجُوبُ الزَّكاةِ في الحُلِيِّ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ . فَإنْ قِيلَ: هَذا الوَعِيدُ إنَّما يَتَناوَلُ الرِّجالَ لا النِّساءَ. قُلْنا: نَتَكَلَّمُ في الرَّجُلِ الَّذِي اتَّخَذَ الحُلِيَّ لِنِسائِهِ، وأيْضًا تَرْتِيبُ هَذا الوَعِيدِ عَلى جَمْعِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلى وصْفٍ يُناسِبُهُ، وهو أنَّ جَمْعَ ذَلِكَ المالِ يَمْنَعُهُ مِن صَرْفِهِ إلى المُحْتاجِينَ مَعَ أنَّهُ لا حاجَةَ إلَيْهِ، إذْ لَوِ احْتاجَ إلى إنْفاقِهِ لَما قَدَرَ عَلى جَمْعِهِ، وإقْدامُ غَيْرِ المُحْتاجِ عَلى مَنعِ المالِ مِنَ المُحْتاجِ يُناسِبُ أنْ يُمْنَعَ مِنهُ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا الوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلى وصْفٍ يُناسِبُهُ، والحُكْمُ المَذْكُورُ عَقِيبَ وصْفٍ يُناسِبُهُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُعَلَّلًا بِهِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا الوَعِيدَ لِذَلِكَ الجَمْعِ، فَأيْنَما حَصَلَ ذَلِكَ الوَصْفُ وجَبَ أنْ يَحْصُلَ مَعَهُ ذَلِكَ الوَعِيدُ، وأيْضًا إنَّ العُمُوماتِ الوارِدَةَ في إيجابِ الزَّكاةِ مَوْجُودَةٌ في الحُلِيِّ المُباحِ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ:“ «هاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أمْوالِكم» ”وقالَ:“ «فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ العُشْرِ» ”وقالَ:“يا «عَلِيُّ عَلَيْكَ زَكاةٌ، فَإذا مَلَكْتَ عِشْرِينَ مِثْقالا، فَأخْرِجْ نِصْفَ مِثْقالٍ» ”وقالَ:“ «لَيْسَ في المالِ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ» ”وقالَ:“ «لا زَكاةَ في مالٍ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ» ”فَهَذِهِ الآيَةُ مَعَ جَمِيعِ هَذِهِ الأخْبارِ تُوجِبُ الزَّكاةَ في الحُلِيِّ المُباحِ، ثُمَّ نَقُولُ: ولَمْ يُوجَدْ لِهَذا الدَّلِيلِ مُعارِضٌ مِنَ الكِتابِ، وهو ظاهِرٌ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ زَكاةٌ في الحُلِيِّ المُباحِ، ولَمْ يُوجَدْ في الأخْبارِ أيْضًا مَعارِضٌ إلّا أنَّ أصْحابَنا نَقَلُوا فِيهِ خَبَرًا، وهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «“ لا زَكاةَ في الحُلِيِّ المُباحِ "» إلّا أنَّ أبا عِيسى التِّرْمِذِيَّ قالَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الحُلِيِّ خَبَرٌ صَحِيحٌ، وأيْضًا بِتَقْدِيرِ أنْ يَصِحَّ هَذا الخَبَرُ فَنَحْمِلُهُ عَلى اللَّآلِئِ؛ لِأنَّهُ قالَ: لا زَكاةَ في الحُلِيِّ، ولَفْظُ الحُلِيِّ مُفْرَدٌ مُحَلّى بِالألِفِ واللّامِ، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّهُ لَوْ كانَ هُناكَ مَعْهُودٌ سابِقٌ، وجَبَ انْصِرافُهُ إلَيْهِ، والمَعْهُودُ في القُرْآنِ في لَفْظِ الحُلِيِّ اللَّآلِئُ، قالَ تَعالى:(﴿وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها﴾ [النَّحْلِ: ١٤] وإذا كانَ كَذَلِكَ انْصَرَفَ لَفْظُ الحُلِيِّ إلى اللَّآلِئِ، فَسَقَطَتْ دَلالَتُهُ، وأيْضًا الِاحْتِياطُ في القَوْلِ بِوُجُوبِ الزَّكاةِ، وأيْضًا لا يُمْكِنُ مُعارَضَةُ هَذا النَّصِّ بِالقِياسِ؛ لِأنَّ النَّصَّ خَيْرٌ مِنَ القِياسِ، فَثَبَتَ أنَّ الحَقَّ ما ذَكَرْناهُ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وهُما الذَّهَبُ والفِضَّةُ. ثُمَّ قالَ: ﴿ولا يُنْفِقُونَها﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ إلى المَعْنى مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما جُمْلَةٌ: وآنِيَةٌ دَنانِيرُ ودَراهِمُ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحُجُراتِ: ٩] . وثانِيها: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ، ولا يُنْفِقُونَ الكُنُوزَ. وثالِثُها: قالَ الزَّجّاجُ: التَّقْدِيرُ: ولا يُنْفِقُونَ تِلْكَ الأمْوالَ. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا إلى اللَّفْظِ وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ولا يُنْفِقُونَ الفِضَّةَ، وحُذِفَ الذَّهَبُ؛ لِأنَّهُ داخِلٌ في الفِضَّةِ مِن حَيْثُ إنَّهُما مَعًا يَشْتَرِكانِ في ثَمَنَيَّةِ الأشْياءِ، وفي كَوْنِهِما جَوْهَرَيْنِ شَرِيفَيْنِ، وفي كَوْنِهِما مَقْصُودَيْنِ بِالكَنْزِ، فَلَمّا كانا مُتَشارِكَيْنِ في أكْثَرِ الصِّفاتِ كانَ ذِكْرُ أحَدِهِما مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ. وثانِيها: أنَّ ذِكْرَ أحَدِهِما قَدْ يُغْنِي عَنِ الآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: (p-٣٩)﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا﴾ (إلَيْها) [الجُمُعَةِ: ١١] جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلتِّجارَةِ، وقالَ: ﴿ومَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ [النِّساءِ: ١١٢] فَجَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْإثْمِ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ولا يُنْفِقُونَها والذَّهَبُ كَذَلِكَ كَما أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ؎وإنِّي وقَيّارٌ بِها لَغَرِيبُ أيْ: وقَيّارٌ كَذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: ما السَّبَبُ في أنْ خُصّا بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ سائِرِ الأمْوالِ ؟ قُلْنا: لِأنَّهُما الأصْلُ المُعْتَبَرُ في الأمْوالِ، وهُما اللَّذانِ يُقْصَدانِ بِالكَنْزِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ، قالَ: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ أيْ: فَأخْبِرْهم عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ؛ لِأنَّ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ إنَّما يَكْنِزُونَهُما لِيَتَوَسَّلُوا بِهِما إلى تَحْصِيلِ الفَرَجِ يَوْمَ الحاجَةِ، فَقِيلَ هَذا هو الفَرَجُ، كَما يُقالُ: تَحِيَّتُهم لَيْسَ إلّا الضَّرْبَ، وإكْرامُهم لَيْسَ إلّا الشَّتْمَ، وأيْضًا فالبِشارَةُ عَنِ الخَيْرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ في القَلْبِ، فَيَتَغَيَّرُ بِسَبَبِهِ لَوْنُ بَشَرَةِ الوَجْهِ، وهَذا يَتَناوَلُ ما إذا تَغَيَّرَتِ البَشَرَةُ بِسَبَبِ الفَرَحِ أوْ بِسَبَبِ الغَمِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب