الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ فَإنْ تُبْتُمْ فَهو خَيْرٌ لَكم وإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنَّكم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ جُمْلَةٌ تامَّةٌ، مَخْصُوصَةٌ بِالمُشْرِكِينَ، وقَوْلَهُ: ﴿وأذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ﴾ جُمْلَةٌ أُخْرى تامَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الأُولى وهي عامَّةٌ في حَقِّ جَمِيعِ النّاسِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يَجِبُ أنْ يَعْرِفَهُ المُؤْمِنُ والمُشْرِكُ مِن حَيْثُ كانَ الحُكْمُ المُتَعَلِّقُ بِذَلِكَ يَلْزَمُهُما جَمِيعًا، فَيَجِبُ عَلى المُؤْمِنِينَ أنْ يَعْرِفُوا الوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ القِتالُ مِنَ الوَقْتِ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهَذا الإعْلامِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ، وهو الجَمْعُ الأعْظَمُ لِيَصِلَ ذَلِكَ الخَبَرُ إلى الكُلِّ ويَشْتَهِرَ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الأذانُ الإعْلامُ، قالَ الأزْهَرِيُّ: يُقالُ آذَنْتُهُ أُوذِنُهُ إيذانًا، فالأذانُ اسْمٌ يَقُومُ مَقامَ الإيذانِ، وهو المَصْدَرُ الحَقِيقِيُّ، ومِنهُ أذانُ الصَّلاةِ، وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى النّاسِ﴾ أيْ أذانٌ صادِرٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، واصِلٌ إلى النّاسِ، كَقَوْلِكَ: إعْلامٌ صادِرٌ مِن فُلانٍ إلى فُلانٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في يَوْمِ الحَجِّ الأكْبَرِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عِكْرِمَةَ إنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وهو قَوْلُ (p-١٧٧)عُمَرَ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وابْنِ الزُّبَيْرِ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، وإحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ، ورِوايَةٌ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهو أنَّهُ قالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَقالَ: أمّا بَعْدُ فَإنَّ هَذا يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ» . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في رِوايَةِ عَطاءٍ: يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ والسُّدِّيِّ وأحَدُ الرِّوايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ، وقَوْلُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والقَوْلُ الثّالِثُ ما رَواهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ أيّامُ مِنى كُلُّها، وهو مَذْهَبُ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، وكانَ يَقُولُ: يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ أيّامُهُ كُلُّها، ويَقُولُ: يَوْمُ صِفِّينَ، ويَوْمُ الجَمَلِ يُرادُ بِهِ الحِينُ والزَّمانُ؛ لِأنَّ كُلَّ حَرْبٍ مِن هَذِهِ الحُرُوبِ دامَتْ أيّامًا كَثِيرَةً. حُجَّةُ مَن قالَ: يَوْمُ عَرَفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«الحَجُّ عَرَفَةُ» “ ولِأنَّ أعْظَمَ أعْمالِ الحَجِّ هو الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ؛ لِأنَّ مَن أدْرَكَهُ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ، ومَن فاتَهُ فَقَدْ فاتَهُ الحَجُّ، وذَلِكَ إنَّما يَحْصُلُ في هَذا اليَوْمِ، وحُجَّةُ مَن قالَ إنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، هي أنَّ أعْمالَ الحَجِّ إنَّما تَتِمُّ في هَذا اليَوْمِ، وهي الطَّوافُ والنَّحْرُ والحَلْقُ والرَّمْيُ، وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلًا أخَذَ بِلِجامِ دابَّتِهِ فَقالَ: ما الحَجُّ الأكْبَرُ ؟ قالَ: يَوْمُكَ هَذا، خَلِّ عَنْ دابَّتِي، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الجَمَراتِ في حَجَّةِ الوَداعِ، فَقالَ: هَذا يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ»، وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: المُرادُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الأيّامِ فَبَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي تَفْسِيرَ اليَوْمِ بِالأيّامِ الكَثِيرَةِ، وهو خِلافُ الظّاهِرِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ ذَلِكَ بِالحَجِّ الأكْبَرِ ؟ قُلْنا فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا هو الحَجُّ الأكْبَرُ؛ لِأنَّ العُمْرَةَ تُسَمّى الحَجَّ الأصْغَرَ. الثّانِي: أنَّهُ جَعَلَ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ هو الحَجَّ الأكْبَرَ؛ لِأنَّهُ مُعْظَمُ واجِباتِهِ لِأنَّهُ إذا فاتَ فاتَ الحَجُّ، وكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ بِهِ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِأنَّ ما يُفْعَلُ فِيهِ مُعْظَمُ أفْعالِ الحَجِّ الأكْبَرِ. الثّالِثُ: قالَ الحَسَنُ: سُمِّيَ ذَلِكَ اليَوْمُ بِيَوْمِ الحَجِّ الأكْبَرِ لِاجْتِماعِ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ فِيهِ، ومُوافَقَتِهِ لِأعْيادِ أهْلِ الكِتابِ، ولَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ اليَوْمُ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، طَعَنَ الأصَمُّ في هَذا الوَجْهِ وقالَ: عِيدُ الكُفّارِ فِيهِ سُخْطٌ، وهَذا الطَّعْنُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ المُرادَ أنْ ذَلِكَ اليَوْمَ يَوْمٌ اسْتَعْظَمَهُ جَمِيعُ الطَّوائِفِ، وكانَ مَن وصَفَهُ بِالأكْبَرِ أُولَئِكَ. والرّابِعُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ حَجُّوا في تِلْكَ السَّنَةِ. والخامِسُ: الأكْبَرُ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، والأصْغَرُ النَّحْرُ، وهو قَوْلُ عَطاءٍ ومُجاهِدٍ. السّادِسُ: الحَجُّ الأكْبَرُ القِرانُ والأصْغَرُ الإفْرادُ، وهو مَنقُولٌ عَنْ مُجاهِدٍ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الأذانَ بِأيِّ شَيْءٍ كانَ، فَقالَ: ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ﴾ فَما الفائِدَةُ في هَذا التَّكْرِيرِ ؟ والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ الإخْبارُ بِثُبُوتِ البَراءَةِ، والمَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ إعْلامُ جَمِيعِ النّاسِ بِما حَصَلَ وثَبَتَ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ البَراءَةُ مِنَ العَهْدِ، ومِنَ الكَلامِ الثّانِي البَراءَةُ الَّتِي هي نَقِيضُ المُوالاةِ الجارِيَةِ مَجْرى الزَّجْرِ والوَعِيدِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى حُصُولِ هَذا الفَرْقِ أنَّ في البَراءَةِ الأُولى بَرِئَ إلَيْهِمْ، وفي الثّانِيَةِ: بَرِئَ مِنهم، والمَقْصُودُ أنَّهُ تَعالى أمَرَ في آخِرِ سُورَةِ الأنْفالِ المُسْلِمِينَ بِأنْ يُوالِيَ بَعْضُهم (p-١٧٨)بَعْضًا، ونَبَّهَ بِهِ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ لا يُوالُوا الكُفّارَ وأنْ يَتَبَرَّءُوا مِنهم، فَهَهُنا بَيَّنَ أنَّهُ تَعالى كَما يَتَوَلّى المُؤْمِنِينَ فَهو يَتَبَرَّأُ عَنِ المُشْرِكِينَ ويَذُمُّهم ويَلْعَنُهم، وكَذَلِكَ الرَّسُولُ، ولِذَلِكَ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ المُزِيلَةِ لِلْبَراءَةِ. والوَجْهُ الثّالِثُ: في الفَرْقِ أنَّهُ تَعالى في الكَلامِ الأوَّلِ أظْهَرَ البَراءَةَ عَنِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ عاهَدُوا ونَقَضُوا العَهْدَ، وفي هَذِهِ الآيَةِ أظْهَرَ البَراءَةَ عَنِ المُشْرِكِينَ مِن غَيْرِ أنْ وصَفَهم بِوَصْفٍ مُعَيَّنٍ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُوجِبَ لِهَذِهِ البَراءَةِ كُفْرُهم وشِرْكُهم. البَحْثُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ فِيهِ حَذْفٌ والتَّقْدِيرُ: ﴿وأذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ بِأنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ إلّا أنَّهُ حَذَفَ الباءَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ تُبْتُمْ﴾ أيْ عَنِ الشِّرْكِ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وذَلِكَ تَرْغِيبٌ مِنَ اللَّهِ في التَّوْبَةِ والإقْلاعِ عَنِ الشِّرْكِ المُوجِبِ لِكَوْنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ مَوْصُوفَيْنِ بِالبَراءَةِ مِنهُ﴿وإنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أيْ أعْرَضْتُمْ عَنِ التَّوْبَةِ عَنِ الشِّرْكِ﴿فاعْلَمُوا أنَّكم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ وذَلِكَ وعِيدٌ عَظِيمٌ؛ لِأنَّ هَذا الكَلامَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عَلى إنْزالِ أشَدِّ العَذابِ بِهِمْ. ثُمَّ قالَ: ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ في الآخِرَةِ لِكَيْ لا يَظُنَّ أنَّ عَذابَ الدُّنْيا لَمّا فاتَ وزالَ، فَقَدْ تَخَلَّصَ عَنِ العَذابِ، بَلِ العَذابُ الشَّدِيدُ مُعَدٌّ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، ولَفْظُ البِشارَةِ ورَدَ هَهُنا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ كَما يُقالُ: تَحِيَّتُهُمُ الضَّرْبُ وإكْرامُهُمُ الشَّتْمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب