الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ حُكْمَ المُشْرِكِينَ في إظْهارِ البَراءَةِ عَنْ عَهْدِهِمْ، وفي إظْهارِ البَراءَةِ عَنْهم في أنْفُسِهِمْ، وفي وُجُوبِ مُقاتَلَتِهِمْ، وفي تَبْعِيدِهِمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، وأوْرَدَ الإشْكالاتِ الَّتِي ذَكَرُوها، وأجابَ عَنْها بِالجَواباتِ الصَّحِيحَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ أهْلِ الكِتابِ، وهو أنْ يُقاتَلُوا إلى أنْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ، فَحِينَئِذٍ يُقَرُّونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ بِشَرائِطَ، ويَكُونُونَ عِنْدَ ذَلِكَ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ والعَهْدِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّ أهْلَ الكِتابِ إذا كانُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفاتٍ أرْبَعَةٍ، وجَبَتْ مُقاتَلَتُهم إلى أنْ يُسْلِمُوا، أوْ إلى أنْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ.
فالصِّفَةُ الأُولى: أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، واعْلَمْ أنَّ القَوْمَ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ، إلّا أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ أكْثَرَ اليَهُودِ مُشَبِّهَةٌ، والمُشَبِّهُ يَزْعُمُ أنْ لا مَوْجُودَ إلّا الجِسْمُ وما يَحِلُّ فِيهِ، فَأمّا المَوْجُودُ الَّذِي لا يَكُونُ جِسْمًا ولا حالًّا فِيهِ فَهو مُنْكِرٌ لَهُ، وما ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ أنَّ الإلَهَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا حالًّا في جِسْمٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ المُشَبِّهُ مُنْكِرًا لِوُجُودِ الإلَهِ، فَثَبَتَ أنَّ اليَهُودَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الإلَهِ.
فَإنْ قِيلَ: فاليَهُودُ قِسْمانِ: مِنهم مُشَبِّهَةٌ، ومِنهم مُوَحِّدَةٌ، كَما أنَّ المُسْلِمِينَ كَذَلِكَ، فَهَبْ أنَّ المُشَبِّهَةَ مِنهم مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الإلَهِ، فَما قَوْلُكم في مُوَحِّدَةِ اليَهُودِ ؟
قُلْنا: أُولَئِكَ لا يَكُونُونَ داخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ، ولَكِنَّ إيجابَ الجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِأنْ يُقالَ: لَمّا ثَبَتَ وُجُوبُ الجِزْيَةِ عَلى بَعْضِهِمْ وجَبَ القَوْلُ بِهِ في حَقِّ الكُلِّ ضَرُورَةَ أنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
وأمّا النَّصارى: فَهم يَقُولُونَ: بِالأبِ والِابْنِ ورُوحِ القُدُسِ، والحُلُولِ والِاتِّحادِ، وكُلُّ ذَلِكَ يُنافِي الإلَهِيَّةَ.
فَإنْ قِيلَ: حاصِلُ الكَلامِ: أنَّ كُلَّ مَن نازَعَ في صِفَةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ، كانَ مُنْكِرًا لِوُجُودِ اللَّهِ تَعالى، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ تَقُولُوا: إنَّ أكْثَرَ المُتَكَلِّمِينَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ أكْثَرَهم مُخْتَلِفُونَ في صِفاتِ اللَّهِ تَعالى
ألا تَرى أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا اخْتِلافًا شَدِيدًا في هَذا البابِ، فالأشْعَرِيُّ أثْبَتَ البَقاءَ صِفَةً، والقاضِي أنْكَرَهُ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أثْبَتَ القِدَمَ صِفَةً، والباقُونَ أنْكَرُوهُ، والقاضِي أثْبَتَ إدْراكَ الطُّعُومِ، وإدْراكَ الرَّوائِحِ، وإدْراكَ الحَرارَةِ والبُرُودَةِ، وهي الَّتِي تُسَمّى في حَقِّ البَشَرِ بِإدْراكِ الشَّمِّ والذَّوْقِ واللَّمْسِ، والأُسْتاذُ أبُو إسْحاقَ أنْكَرَهُ، وأثْبَتَ القاضِي لِلصِّفاتِ السَّبْعِ أحْوالًا سَبْعَةً مُعَلَّلَةً بِتِلْكَ الصِّفاتِ، ونُفاةُ الأحْوالِ أنْكَرُوهُ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ زَعَمَ أنَّ كَلامَ اللَّهِ في الأزَلِ ما كانَ أمْرًا ولا نَهْيًا ولا خَبَرًا، ثُمَّ صارَ ذَلِكَ في الإنْزالِ، والباقُونَ أنْكَرُوهُ، وقَوْمٌ مِن قُدَماءِ الأصْحابِ أثْبَتُوا لِلَّهِ خَمْسَ كَلِماتٍ، في الأمْرِ، والنَّهْيِ، والخَبَرِ، والِاسْتِخْبارِ، والنِّداءِ، (p-٢٤)والمَشْهُورُ أنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعالى واحِدٌ، واخْتَلَفُوا في أنَّ خِلافَ المَعْلُومِ هَلْ هو مَقْدُورٌ أمْ لا ؟ فَثَبَتَ بِهَذا حُصُولُ الِاخْتِلافِ بَيْنَ أصْحابِنا في صِفاتِ اللَّهِ تَعالى مِن هَذِهِ الوُجُوهِ الكَثِيرَةِ، وأمّا اخْتِلافاتُ المُعْتَزِلَةِ، وسائِرِ الفِرَقِ في صِفاتِ اللَّهِ تَعالى، فَأكْثَرُ مِن أنْ يُمْكِنَ ذِكْرُهُ في مَوْضِعٍ واحِدٍ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إمّا أنْ يَكُونَ الِاخْتِلافُ في الصِّفاتِ مُوجِبًا إنْكارَ الذّاتِ أوْ لا يُوجِبُ ذَلِكَ ؟ فَإنْ أوْجَبَهُ لَزِمَ في أكْثَرِ فِرَقِ المُسْلِمِينَ أنْ يُقالَ: إنَّهم أنْكَرُوا الإلَهَ، وإنْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِن ذَهابِ بَعْضِ اليَهُودِ، وذَهابِ النَّصارى إلى الحُلُولِ والِاتِّحادِ كَوْنُهم مُنْكِرِينَ لِلْإيمانِ بِاللَّهِ، وأيْضًا فَمَذْهَبُ النَّصارى أنَّ أُقْنُومَ الكَلِمَةِ حَلَّ في عِيسى، وحَشْوِيَّةُ المُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إنَّ مَن قَرَأ كَلامَ اللَّهِ فالَّذِي يَقْرَؤُهُ هو عَيْنُ كَلامِ تَعالى، وكَلامُ اللَّهِ تَعالى مَعَ أنَّهُ صِفَةُ اللَّهِ يَدْخُلُ في لِسانِ هَذا القارِئِ، وفي لِسانِ جَمِيعِ القُرّاءِ، وإذا كُتِبَ كَلامُ اللَّهِ في جِسْمٍ فَقَدْ حَلَّ كَلامُ اللَّهِ تَعالى في ذَلِكَ الجِسْمِ، فالنَّصارى إنَّما أثْبَتُوا الحُلُولَ والِاتِّحادَ في حَقِّ عِيسى، وأمّا هَؤُلاءِ الحَمْقى فَأثْبَتُوا كَلِمَةَ اللَّهِ في كُلِّ إنْسانٍ قَرَأ القُرْآنَ، وفي كُلِّ جِسْمٍ كُتِبَ فِيهِ القُرْآنُ، فَإنْ صَحَّ في حَقِّ النَّصارى أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بِهَذا السَّبَبِ، وجَبَ أنْ يَصِحَّ في حَقِّ هَؤُلاءِ الحُرُوفِيَّةِ والحُلُولِيَّةِ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، فَهَذا تَقْرِيرُ هَذا السُّؤالِ.
والجَوابُ: أنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلى أنَّ مَن قالَ: إنَّ الإلَهَ جِسْمٌ فَهو مُنْكِرٌ لِلْإلَهِ تَعالى، وذَلِكَ لِأنَّ إلَهَ العالَمِ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا حالٍّ في الجِسْمِ، فَإذا أنْكَرَ المُجَسِّمُ هَذا المَوْجُودَ فَقَدْ أنْكَرَ ذاتَ الإلَهِ تَعالى، فالخِلافُ بَيْنَ المُجَسِّمِ والمُوَحِّدِ لَيْسَ في الصِّفَةِ، بَلْ في الذّاتِ، فَصَحَّ في المُجَسِّمِ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، أمّا المَسائِلُ الَّتِي حَكَيْتُمُوها فَهي اخْتِلافاتٌ في الصِّفَةِ، فَظَهَرَ الفَرْقُ، وأمّا إلْزامُ مَذْهَبِ الحُلُولِيَّةِ والحُرُوفِيَّةِ، فَنَحْنُ نُكَفِّرُهم قَطْعًا، فَإنَّهُ تَعالى كَفَّرَ النَّصارى بِسَبَبِ أنَّهُمُ اعْتَقَدُوا حُلُولَ كَلِمَةِ(اللَّهِ) في عِيسى، وهَؤُلاءِ اعْتَقَدُوا حُلُولَ كَلِمَةِ(اللَّهِ) في ألْسِنَةِ جَمِيعِ مَن قَرَأ القُرْآنَ، وفي جَمِيعِ الأجْسامِ الَّتِي كُتِبَ فِيها القُرْآنُ، فَإذا كانَ القَوْلُ بِالحُلُولِ في حَقِّ الذّاتِ الواحِدَةِ يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، فَلِأنْ يَكُونَ القَوْلُ بِالحُلُولِ في حَقِّ جَمِيعِ الأشْخاصِ والأجْسامِ مُوجِبًا لِلْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ كانَ أوْلى.
والصِّفَةُ الثّانِيَةُ: مِن صِفاتِهِمْ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِاليَوْمِ الآخِرِ.
واعْلَمْ أنَّ المَنقُولَ عَنِ اليَهُودِ والنَّصارى: إنْكارُ البَعْثِ الجُسْمانِيِّ، فَكَأنَّهم يَمِيلُونَ إلى البَعْثِ الرُّوحانِيِّ.
واعْلَمْ أنّا بَيَّنّا في هَذا الكِتابِ أنْواعَ السَّعاداتِ والشَّقّاواتِ الرُّوحانِيَّةِ، ودَلَّلْنا عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِها وبَيَّنّا دَلالَةَ الآياتِ الكَثِيرَةِ عَلَيْها، إلّا أنّا مَعَ ذَلِكَ نُثْبِتُ السَّعاداتِ والشَّقّاواتِ الجُسْمانِيَّةَ، ونَعْتَرِفُ بِأنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أهْلَ الجَنَّةِ، بِحَيْثُ يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ، وبِالجَوارِي يَتَمَتَّعُونَ، ولا شَكَّ أنَّ مَن أنْكَرَ الحَشْرَ والبَعْثَ الجُسْمانِيَّ، فَقَدْ أنْكَرَ صَرِيحَ القُرْآنِ، ولَمّا كانَ اليَهُودُ والنَّصارى مُنْكِرِينَ لِهَذا المَعْنى، ثَبَتَ كَوْنُهم مُنْكِرِينَ لِلْيَوْمِ الآخِرِ.
الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: مِن صِفاتِهِمْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهم لا يُحَرِّمُونَ ما حُرِّمَ في القُرْآنِ وسُنَّةِ الرَّسُولِ.
والثّانِي: قالَ أبُو رَوْقٍ: لا يَعْمَلُونَ بِما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، بَلْ حَرَّفُوهُما وأتَوْا بِأحْكامٍ كَثِيرَةٍ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ.
(p-٢٥)الصِّفَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ يُقالُ: فُلانٌ يَدِينُ بِكَذا، إذا اتَّخَذَهُ دِينًا فَهو مُعْتَقَدُهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ﴾ أيْ: لا يَعْتَقِدُونَ في صِحَّةِ دِينِ الإسْلامِ الَّذِي هو الدِّينُ الحَقُّ، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى هَذِهِ الصِّفاتِ الأرْبَعَةَ قالَ: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ فَبَيَّنَ بِهَذا أنَّ المُرادَ مِنَ المَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الأرْبَعَةِ مَن كانَ مِن أهْلِ الكِتابِ، والمَقْصُودُ تَمْيِيزُهم مِنَ المُشْرِكِينَ في الحُكْمِ؛ لِأنَّ الواجِبَ في المُشْرِكِينَ القِتالُ أوِ الإسْلامُ، والواجِبُ في أهْلِ الكِتابِ القِتالُ أوِ الإسْلامُ أوِ الجِزْيَةُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ: الجِزْيَةُ هي ما يُعْطِي المَعاهَدُ عَلى عَهْدِهِ، وهي فِعْلَةٌ مِن جَزى يَجْزِي إذا قَضى ما عَلَيْهِ، واخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ قَوْلُهُ: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ إمّا أنْ يُرادَ بِهِ يَدُ المُعْطِي أوْ يَدُ الآخِذِ، فَإنْ كانَ المُرادُ بِهِ المُعْطِيَ، فَفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ﴿عَنْ يَدٍ﴾ مُؤاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ؛ لِأنَّ مَن أبى وامْتَنَعَ لَمْ يُعْطِ يَدَهُ بِخِلافِ المُطِيعِ المُنْقادِ، ولِذَلِكَ يُقالُ: أعْطى يَدَهُ إذا انْقادَ وأطاعَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ: نَزَعَ يَدَهُ عَنِ الطّاعَةِ، كَما يُقالُ: خَلَعَ رِبْقَةَ الطّاعَةِ مِن عُنُقِهِ.
وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ المُرادُ حَتّى يُعْطُوها عَنْ يَدٍ إلى يَدٍ نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ ولا مَبْعُوثًا عَلى يَدِ أحَدٍ، بَلْ عَلى يَدِ المُعْطِي إلى يَدِ الآخِذِ.
وأمّا إذا كانَ المُرادُ يَدَ الآخِذِ فَفِيهِ أيْضًا وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ قاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ كَما تَقُولُ: اليَدُ في هَذا لِفُلانٍ.
وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ المُرادُ عَنْ إنْعامٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ قَبُولَ الجِزْيَةِ مِنهم وتَرْكَ أرْواحِهِمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وهم صاغِرُونَ﴾ فالمَعْنى أنَّ الجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنهم عَلى الصَّغارِ والذُّلِّ والهَوانِ بِأنْ يَأْتِيَ بِها بِنَفْسِهِ ماشِيًا غَيْرَ راكِبٍ، ويُسَلِّمَها وهو قائِمٌ والمُتَسَلِّمُ جالِسٌ، ويُؤْخَذُ بِلِحْيَتِهِ، فَيُقالُ لَهُ: أدِّ الجِزْيَةَ وإنْ كانَ يُؤَدِّيها ويُزَجُّ في قَفاهُ، فَهَذا مَعْنى الصَّغارِ، وقِيلَ: مَعْنى الصَّغارِ هَهُنا هو نَفْسُ إعْطاءِ الجِزْيَةِ، ولِلْفُقَهاءِ أحْكامٌ كَثِيرَةٌ مِن تَوابِعِ الذُّلِّ والصَّغارِ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في شَيْءٍ مِن أحْكامِ هَذِهِ الآيَةِ.
الحُكْمُ الأوَّلُ
اسْتَدْلَلْتُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المُسْلِمَ لا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ والوَجْهُ في تَقْرِيرِهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قاتِلُوهُمْ﴾ يَقْتَضِي إيجابَ مُقاتَلَتِهِمْ، وذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلى إباحَةِ قَتْلِهِمْ، وعَلى عَدَمِ وُجُوبِ القِصاصِ بِسَبَبِ قَتْلِهِمْ، فَلَمّا قالَ: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ عَلِمْنا أنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الأحْكامِ قَدِ انْتَهَتْ عِنْدَ إعْطاءِ الجِزْيَةِ، ويَكْفِي في انْتِهاءِ المَجْمُوعِ ارْتِفاعُ أحَدِ أجْزائِهِ، فَإذا ارْتَفَعَ وُجُوبُ قَتْلِهِ وإباحَةُ دَمِهِ، فَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ المَجْمُوعُ، ولا حاجَةَ في ارْتِفاعِ المَجْمُوعِ إلى ارْتِفاعِ جَمِيعِ أجْزاءِ المَجْمُوعِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: (قاتِلُوا طائِفَةً مِن أهْلِ الكِتابِ) يَدُلُّ عَلى عَدَمِ وُجُوبِ القِصاصِ بِقَتْلِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ﴾ لا يُوجِبُ ارْتِفاعَ ذَلِكَ الحُكْمِ؛ لِأنَّهُ كَفى في انْتِهاءِ ذَلِكَ المَجْمُوعِ انْتِهاءُ أحَدِ أجْزائِهِ وهو وُجُوبُ قَتْلِهِمْ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى بَعْدَ أداءِ الجِزْيَةِ عَدَمُ وُجُوبِ القِصاصِ كَما كانَ.
* * *
(p-٢٦)الحُكْمُ الثّانِي
الكُفّارُ فَرِيقانِ، فَرِيقٌ عَبْدَةُ الأوْثانِ وعَبَدَةُ ما اسْتَحْسَنُوا، فَهَؤُلاءِ لا يُقَرُّونَ عَلى دِينِهِمْ بِأخْذِ الجِزْيَةِ، ويَجِبُ قِتالُهم حَتّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وفَرِيقٌ هم أهْلُ الكِتابِ، وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى والسّامِرَةُ والصّابِئُونَ، وهَذانَ الصِّنْفانِ سَبِيلُهم في أهْلِ الكِتابِ سَبِيلُ أهْلِ البِدَعِ فِينا، والمَجُوسُ أيْضًا سَبِيلُهم سَبِيلُ أهْلِ الكِتابِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ» “ ورُوِيَ أنَّهُ ﷺ أخَذَ الجِزْيَةَ مِن مَجُوسِ هَجَرَ، فَهَؤُلاءِ يَجِبُ قِتالُهم حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ، ويُعاهِدُوا المُسْلِمِينَ عَلى أداءِ الجِزْيَةِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ لا تُؤْخَذُ الجِزْيَةُ إلّا مِن أهْلِ الكِتابِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الصِّفاتِ الأرْبَعَةَ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ قَيَّدَهم بِكَوْنِهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ وهو قَوْلُهُ: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ وإثْباتُ ذَلِكَ الحُكْمِ في غَيْرِهِمْ يَقْتَضِي إلْغاءَ هَذا القَيْدِ المَنصُوصِ عَلَيْهِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ.
* * *
الحُكْمُ الثّالِثُ: في قَدْرِ الجِزْيَةِ، قالَ أنَسٌ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينارًا، وقَسَمَ عُمَرُ عَلى الفُقَراءِ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وعَلى الأوْساطِ أرْبَعَةً وعِشْرِينَ، وعَلى أهْلِ الثَّرْوَةِ ثَمانِيَةً وأرْبَعِينَ، قالَ أصْحابُنا: وأقَلُّ الجِزْيَةِ دِينارٌ، ولا يُزادُ عَلى الدِّينارِ إلّا بِالتَّراضِي، فَإذا رَضُوا والتَزَمُوا الزِّيادَةَ ضَرَبْنا عَلى المُتَوَسِّطِ دِينارَيْنِ، وعَلى الغَنِيِّ أرْبَعَةَ دَنانِيرَ، والدَّلِيلُ عَلى ما ذَكَرْنا: أنَّ الأصْلَ تَحْرِيمُ أخْذِ مالِ المُكَلَّفِ إلّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ﴾ يَدُلُّ عَلى أخْذِ شَيْءٍ، فَهَذا الَّذِي قُلْناهُ هو القَدْرُ الأقَلُّ، فَيَجُوزُ أخْذُهُ والزّائِدُ عَلَيْهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الجِزْيَةِ والأصْلُ فِيهِ الحُرْمَةُ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى عَلَيْها.
* * *
الحُكْمُ الرّابِعُ:
تُؤْخَذُ الجِزْيَةُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في أوَّلِ السَّنَةِ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في آخِرِها.
الحُكْمُ الخامِسُ:
تَسْقُطُ الجِزْيَةُ بِالإسْلامِ والمَوْتِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«لَيْسَ عَلى المُسْلِمِ جِزْيَةٌ» “ وعِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لا تَسْقُطُ.
الحُكْمُ السّادِسُ:
قالَ أصْحابُنا: هَؤُلاءِ إنَّما أُقِرُّوا عَلى دِينِهِمُ الباطِلِ بِأخْذِ الجِزْيَةِ حُرْمَةً لِآبائِهِمُ الَّذِينَ انْقَرَضُوا عَلى الحَقِّ مِن شَرِيعَةِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وأيْضًا مَكَّنّاهم مِن أيْدِيهِمْ، فَرُبَّما يَتَفَكَّرُونَ فَيَعْرِفُونَ صِدْقَ مُحَمَّدٍ ﷺ ونُبُوَّتِهِ، فَأُمْهِلُوا لِهَذا المَعْنى، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
وبَقِيَ هَهُنا سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: كانَ ابْنُ الرّاوِنْدِيِّ يَطْعَنُ في القُرْآنِ ويَقُولُ: إنَّهُ ذَكَرَ في تَعْظِيمِ كُفْرِ النَّصارى قَوْلَهُ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ ﴿أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا﴾ ﴿وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ (p-٢٧)[مَرْيَمَ: ٩٠] فَبَيَّنَ أنَّ إظْهارَهم لِهَذا القَوْلِ بَلَغَ إلى هَذا الحَدِّ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا أخَذَ مِنهم دِينارًا واحِدًا قَرَّرَهم عَلَيْهِ وما مَنَعَهم مِنهُ.
والجَوابُ: لَيْسَ المَقْصُودُ مِن أخْذِ الجِزْيَةِ تَقْرِيرُهُ عَلى الكُفْرِ، بَلِ المَقْصُودُ مِنها حَقْنُ دَمِهِ وإمْهالُهُ مُدَّةً، رَجاءَ أنَّهُ رُبَّما وقَفَ في هَذِهِ المُدَّةِ عَلى مَحاسِنِ الإسْلامِ وقُوَّةِ دَلائِلِهِ، فَيَنْتَقِلُ مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ.
السُّؤالُ الثّانِي: هَلْ يَكْفِي في حَقْنِ الدَّمِ دَفْعُ الجِزْيَةِ أمْ لا ؟
والجَوابُ: أنَّهُ لا بُدَّ مَعَهُ مِن إلْحاقِ الذُّلِّ والصَّغارِ لِلْكُفْرِ، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ طَبْعَ العاقِلِ يَنْفِرُ عَنْ تَحَمُّلِ الذُّلِّ والصَّغارِ، فَإذا أُمْهِلَ الكافِرُ مُدَّةً وهو يُشاهِدُ عِزَّ الإسْلامِ ويَسْمَعُ دَلائِلَ صِحَّتِهِ، ويُشاهِدُ الذُّلَّ والصَّغارَ في الكُفْرِ، فالظّاهِرُ أنَّهُ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلى الِانْتِقالِ إلى الإسْلامِ، فَهَذا هو المَقْصُودُ مِن شَرْعِ الجِزْيَةِ.
{"ayah":"قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدࣲ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق