الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكم شَيْئًا وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ ﴿ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ وأنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْها وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذَلِكَ جَزاءُ الكافِرِينَ﴾ ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلى مَن يَشاءُ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وفِي هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهُ يَجِبُ الإعْراضُ عَنْ مُخالَطَةِ الآباءِ والأبْناءِ والإخَوانِ، والعَشائِرِ وعَنِ الأمْوالِ والتِّجاراتِ والمَساكِنِ، رِعايَةً لِمَصالِحِ الدِّينِ، ولَمّا عَلِمَ اللَّهُ تَعالى أنَّ هَذا يَشُقُّ جِدًّا عَلى النُّفُوسِ والقُلُوبِ، ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن تَرَكَ الدُّنْيا لِأجْلِ الدِّينِ فَإنَّهُ يُوصِلُهُ إلى مَطْلُوبِهِ مِنَ الدُّنْيا أيْضًا، وضَرَبَ تَعالى لِهَذا مَثَلًا، وذَلِكَ أنَّ عَسْكَرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في واقِعَةِ حُنَيْنٍ كانُوا في غايَةِ الكَثْرَةِ والقُوَّةِ، فَلَمّا أُعْجِبُوا بِكَثْرَتِهِمْ صارُوا مُنْهَزِمِينَ، ثُمَّ في حالِ الِانْهِزامِ لَمّا تَضَّرَّعُوا إلى اللَّهِ قَوّاهم حَتّى هَزَمُوا عَسْكَرَ الكُفّارِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ مَتى اعْتَمَدَ عَلى الدُّنْيا فاتَهُ الدِّينُ والدُّنْيا، ومَتى أطاعَ اللَّهَ ورَجَّحَ الدِّينَ عَلى الدُّنْيا آتاهُ اللَّهُ الدِّينَ والدُّنْيا عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، فَكانَ ذِكْرُ هَذا تَسْلِيَةً لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أمَرَهُمُ اللَّهُ بِمُقاطَعَةِ الآباءِ والأبْناءِ والأمْوالِ والمَساكِنِ، لِأجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وتَصْبِيرًا لَهم عَلَيْها، ووَعْدًا لَهم عَلى سَبِيلِ الرَّمْزِ، بِأنَّهم إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فاللَّهُ تَعالى يُوصِلُهم إلى أقارِبِهِمْ وأمْوالِهِمْ ومَساكِنِهِمْ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، هَذا تَقْرِيرُ النَّظْمِ وهو في غايَةِ الحُسْنِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: النَّصْرُ: المَعُونَةُ عَلى العَدُوِّ خاصَّةً، والمُواطِنُ جَمْعُ مَوْطِنٍ، وهو كُلُّ مَوْضِعٍ أقامَ بِهِ الإنْسانُ لِأمْرٍ، فَعَلى هَذا: مَواطِنُ الحَرْبِ مَقاماتُها ومَواقِفُها، وامْتِناعُها مِنَ الصَّرْفِ؛ لِأنَّهُ جَمْعٌ (p-١٨)عَلى صِيغَةٍ لَمْ يَأْتِ عَلَيْها واحِدٌ، والمَواطِنُ الكَثِيرَةُ غَزَواتُ رَسُولِ اللَّهِ، ويُقالُ: إنَّها ثَمانُونَ مَوْطِنًا، فَأعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ هو الَّذِي نَصَرَ المُؤْمِنِينَ، ومَن نَصَرَهُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَهُ. ثُمَّ قالَ: ﴿ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكُمْ﴾ أيْ: واذْكُرُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ مِن جُمْلَةِ تِلْكَ المَواطِنِ حالَ ما أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكم. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ، وقَدْ بَقِيَتْ أيّامٌ مِن شَهْرِ رَمَضانَ، خَرَجَ مُتَوَجِّهًا إلى حُنَيْنٍ لِقِتالِ هَوازِنَ وثَقِيفٍ، واخْتَلَفُوا في عَدَدِ عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانُوا سِتَّةَ عَشَرَ ألْفًا، وقالَ قَتادَةُ: كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا عَشَرَةُ آلافٍ الَّذِينَ حَضَرُوا مَكَّةَ، وألْفانِ مِنَ الطُّلَقاءِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: كانُوا عَشَرَةَ آلافٍ، وبِالجُمْلَةِ فَكانُوا عَدَدًا كَثِيرِينَ، وكانَ هَوازِنُ وثَقِيفٌ أرْبَعَةَ آلافٍ، فَلَمّا التَقَوْا قالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِن قِلَّةٍ، فَهَذِهِ الكَلِمَةُ ساءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهي المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكُمْ﴾ وقِيلَ: إنَّهُ قالَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وقِيلَ: قالَها أبُو بَكْرٍ، وإسْنادُ هَذِهِ الكَلِمَةِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ كانَ في أكْثَرِ الأحْوالِ مُتَوَكِّلًا عَلى اللَّهِ مُنْقَطِعَ القَلْبِ عَنِ الدُّنْيا وأسْبابِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب