الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: (p-١٢)﴿الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وأُولَئِكَ﴾ ( هُمُ الفائِزُونَ ﴿يُبَشِّرُهم رَبُّهم بِرَحْمَةٍ مِنهُ ورِضْوانٍ وجَنّاتٍ لَهم فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ تَرْجِيحَ الإيمانِ والجِهادِ عَلى السِّقايَةِ وعِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ، عَلى طَرِيقِ الرَّمْزِ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ هَذا التَّرْجِيحِ عَلى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: إنَّ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفاتِ الأرْبَعَةِ كانَ أعْظَمَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِالسِّقايَةِ والعِمارَةِ، وتِلْكَ الصِّفاتُ الأرْبَعَةُ هي هَذِهِ: فَأوَّلُها: الإيمانُ. وثانِيها: الهِجْرَةُ. وثالِثُها: الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ بِالمالِ. ورابِعُها: الجِهادُ بِالنَّفْسِ. وإنَّما قُلْنا: إنَّ المَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الأرْبَعَةِ في غايَةِ الجَلالَةِ والرِّفْعَةِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ لَيْسَ لَهُ إلّا مَجْمُوعَ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ: الرُّوحُ، والبَدَنُ، والمالُ، أمّا الرُّوحُ فَلَمّا زالَ عَنْهُ الكُفْرُ وحَصَلَ فِيهِ الإيمانُ، فَقَدْ وصَلَ إلى مَراتِبِ السَّعاداتِ اللّائِقَةِ بِها. وأمّا البَدَنُ والمالُ فَبِسَبَبِ الهِجْرَةِ وقَعا في النُّقْصانِ، وبِسَبَبِ الِاشْتِغالِ بِالجِهادِ صارا مُعَرَّضَيْنِ لِلْهَلاكِ والبُطْلانِ، ولا شَكَّ أنَّ النَّفْسَ والمالَ مَحْبُوبُ الإنْسانِ، والإنْسانُ لا يُعْرِضُ عَنْ مَحْبُوبِهِ إلّا لِلْفَوْزِ بِمَحْبُوبٍ أكْمَلَ مِنَ الأوَّلِ، فَلَوْلا أنَّ طَلَبَ الرِّضْوانِ أتَمُّ عِنْدَهم مِنَ النَّفْسِ والمالِ، وإلّا لَما رَجَّحُوا جانِبَ الآخِرَةِ عَلى جانِبِ النَّفْسِ والمالِ، ولَما رَضُوا بِإهْدارِ النَّفْسِ والمالِ لِطَلَبِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، فَثَبَتَ أنَّ عِنْدَ حُصُولِ الصِّفاتِ الأرْبَعَةِ صارَ الإنْسانُ واصِلًا إلى آخِرِ دَرَجاتِ البَشَرِيَّةِ، وأوَّلِ مَراتِبِ دَرَجاتِ المَلائِكَةِ، وأيُّ مُناسَبَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وبَيْنَ الإقْدامِ عَلى السِّقايَةِ والعِمارَةِ لِمُجَرَّدِ الِاقْتِداءِ بِالآباءِ والأسْلافِ، ولِطَلَبِ الرِّياسَةِ والسُّمْعَةِ ؟ فَثَبَتَ بِهَذا البُرْهانِ اليَقِينِيِّ صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الفائِزُونَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ: أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ المُشْتَغِلِينَ بِالسِّقايَةِ والعِمارَةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ عَيَّنَ ذِكْرَهم لَأوْهَمَ أنَّ فَضِيلَتَهم إنَّما حَصَلَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ، ولَمّا تَرَكَ ذِكْرَ المَرْجُوحِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم أفْضَلُ مِن كُلِّ مَن سِواهم عَلى الإطْلاقِ؛ لِأنَّهُ لا يُعْقَلُ حُصُولُ سَعادَةٍ وفَضِيلَةٍ لِلْإنْسانِ أعْلى وأكْمَلَ مِن هَذا الصِّفاتِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن كَوْنِ العَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ الِاسْتِغْراقُ في عُبُودِيَّتِهِ وطاعَتِهِ، ولَيْسَ المُرادُ مِنهُ العِنْدِيَّةَ بِحَسَبِ الجِهَةِ والمَكانِ، وعِنْدَ هَذا يَلُوحُ أنَّ المَلائِكَةَ كَما حَصَلَتْ لَهم مَنقَبَةُ العِنْدِيَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٩] فَكَذَلِكَ الأرْواحُ القُدُسِيَّةُ البَشَرِيَّةُ إذا تَطَهَّرَتْ عَنْ دَنَسِ الأوْصافِ البَدَنِيَّةِ والقاذُوراتِ الجَسَدانِيَّةِ، أشْرَقَتْ بِأنْوارِ الجَلالَةِ وتَجَلّى فِيها أضْواءُ عالَمِ الكَمالِ، وتَرَقَّتْ مِنَ العَبْدِيَّةِ إلى العِنْدِيَّةِ، بَلْ كَأنَّهُ لا كَمالَ في العَبْدِيَّةِ إلّا مُشاهَدَةَ حَقِيقَةِ العِنْدِيَّةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسْراءِ: ١] . فَإنْ قِيلَ: لَمّا أخْبَرْتُمْ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ كانَتْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ والكافِرِينَ، فَكَيْفَ قالَ في وصْفِهِمْ: ﴿أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً﴾ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ لِلْكُفّارِ دَرَجَةٌ ؟ قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا ورَدَ عَلى حَسَبِ ما كانُوا يُقَدِّرُونَ لِأنْفُسِهِمْ مِنَ الدَّرَجَةِ والفَضِيلَةِ عِنْدَ اللَّهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أمْ ما يُشْرِكُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٥٩] وقَوْلُهُ: ﴿أذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ [الصّافّاتِ: ٦٢] . الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ: أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِن كُلِّ مَن لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ (p-١٣)الصِّفاتِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّهم لَمّا كانُوا أفْضَلَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ما كانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ فَبِأنْ لا يُقاسُوا إلى الكُفّارِ أوْلى. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ المُؤْمِنَ المُجاهِدَ المُهاجِرَ أفْضَلُ مِمَّنْ عَلى السِّقايَةِ والعِمارَةِ، والمُرادُ مِنهُ تَرْجِيحُ تِلْكَ الأعْمالِ عَلى هَذِهِ الأعْمالِ، ولا شَكَّ أنَّ السِّقايَةَ والعِمارَةَ مِن أعْمالِ الخَيْرِ، وإنَّما بَطَلَ إيجابُهُما لِلثَّوابِ في حَقِّ الكُفّارِ؛ لِأنَّ قِيامَ الكُفْرِ وهو أعْظَمُ الجِناياتِ يَمْنَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ الأثَرِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ المَوْصُوفِينَ بِالإيمانِ والهِجْرَةِ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم هُمُ الفائِزُونَ وهَذا لِلْحَصْرِ، والمَعْنى أنَّهم هُمُ الفائِزُونَ بِالدَّرَجَةِ العالِيَةِ الشَّرِيفَةِ المُقَدَّسَةِ الَّتِي وقَعَتِ الإشارَةُ إلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ وهي دَرَجَةُ العِنْدِيَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وعَرَفَهُ فَقَلَّ أنْ يَبْقى قَلْبُهُ مُلْتَفِتًا إلى الدُّنْيا، ثُمَّ عِنْدَ هَذا يَحْتالُ إلى إزالَةِ هَذِهِ العُقْدَةِ عَنْ جَوْهَرِ الرُّوحِ، وإزالَةُ حُبِّ الدُّنْيا لا يَتِمُّ لَهُ إلّا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّفْسِ وبَيْنَ لَذّاتِ الدُّنْيا، فَإذا دامَ ذَلِكَ التَّفْرِيقُ، وانْتَقَصَ تَعَلُّقُهُ بِحُبِّ الدُّنْيا، فَهَذا التَّفْرِيقُ والنَّقْصُ يَحْصُلانِ بِالهِجْرَةِ، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَهُ لا بُدَّ مِنَ اسْتِحْقارِ الدُّنْيا والوُقُوفِ عَلى مَعايِبِها وصَيْرُورَتِها في عَيْنِ العاقِلِ بِحَيْثُ يُوجِبُ عَلى نَفْسِهِ تَرْكَها ورَفْضَها، وذَلِكَ إنَّما يَتِمُّ بِالجِهادِ؛ لِأنَّهُ تَعْرِيضُ النَّفْسِ والمالِ لِلْهَلاكِ والبَوارِ، ولَوْلا أنَّهُ اسْتَحْقَرَ الدُّنْيا وإلّا لَما فَعَلَ ذَلِكَ، وعِنْدَ هَذا يَتِمُّ ما قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وهو أنَّ العِرْفانَ مُبْتَدَأٌ مِن تَفْرِيقٍ ونَقْصٍ وتَرْكٍ ورَفْضٍ، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الحالَةِ يَصِيرُ القَلْبُ مُشْتَغِلًا بِالنَّظَرِ إلى صِفاتِ الجَلالِ والإكْرامِ، وفي مُشاهَدَتِها يَحْصُلُ بَذْلُ النَّفْسِ والمالِ، فَيَصِيرُ الإنْسانُ شَهِيدًا مُشاهِدًا لِعالَمِ الجَلالِ مُكاشِفًا بِنُورِ الجَلالَةِ مَشْهُودًا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُبَشِّرُهم رَبُّهم بِرَحْمَةٍ مِنهُ ورِضْوانٍ وجَنّاتٍ لَهم فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ وعِنْدَ هَذا يَحْصُلُ الِانْتِهاءُ إلى حَضْرَةِ الأحَدِ الصَّمَدِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ وهُنا يَحِقُّ الوُقُوفُ في الوُصُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب