الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أيْمانَهم وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ وهم بَدَءُوكم أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْنَهم فاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي يَبْعَثُهم عَلى مُقاتَلَتِهِمْ فَقالَ: ﴿ألا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا﴾ .
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ثَلاثَةَ أسْبابٍ كُلُّ واحِدٍ مِنها يُوجِبُ مُقاتَلَتَهم لَوِ انْفَرَدَ، فَكَيْفَ بِها حالَ الِاجْتِماعِ:
أحَدُها: نَكْثُهُمُ العَهْدَ، وكُلُّ المُفَسِّرِينَ حَمَلَهُ عَلى نَقْضِ العَهْدِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ والكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ في كُفّارِ مَكَّةَ نَكَثُوا أيْمانَهم بَعْدَ عَهْدِ الحُدَيْبِيَةِ، وأعانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلى خُزاعَةَ وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ قِتالَ النّاكِثِينَ أوْلى مِن قِتالِ غَيْرِهِمْ مِنَ الكُفّارِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ.
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ﴾ فَإنَّ هَذا مِن أوْكَدِ ما يَجِبُ القِتالُ لِأجْلِهِ، واخْتَلَفُوا فِيهِ فَقالَ بَعْضُهم: المُرادُ إخْراجُهُ مِن مَكَّةَ حِينَ هاجَرَ، وقالَ بَعْضُهم: بَلِ المُرادُ مِنَ المَدِينَةِ لِما أقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ المَشُورَةِ والِاجْتِماعِ عَلى قَصْدِهِ بِالقَتْلِ، وقالَ آخَرُونَ: بَلْ هَمُّوا بِإخْراجِهِ مِن حَيْثُ أقْدَمُوا عَلى ما يَدْعُوهُ إلى الخُرُوجِ وهو نَقْضُ العَهْدِ، وإعانَةُ أعْدائِهِ، فَأُضِيفَ الإخْراجُ إلَيْهِمْ تَوَسُّعًا لِما وقَعَ مِنهم مِنَ الأُمُورِ الدّاعِيَةِ إلَيْهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ﴾ إمّا (p-١٨٨)بِالفِعْلِ وإمّا بِالعَزْمِ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الفِعْلُ بِتَمامِهِ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وهم بَدَءُوكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يَعْنِي بِالقِتالِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ لِأنَّهم حِينَ سَلِمَ العِيرُ قالُوا: لا نَنْصَرِفُ حَتّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا ومَن مَعَهُ.
والقَوْلُ الثّانِي: أرادَ أنَّهم قاتَلُوا حُلَفاءَ خُزاعَةَ فَبَدَءُوا بِنَقْضِ العَهْدِ، وهَذا قَوْلُ الأكْثَرِينَ، وإنَّما قالَ: ﴿بَدَءُوكُمْ﴾ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ البادِئَ أظْلَمُ، ولَمّا شَرَحَ تَعالى هَذِهِ المُوجِباتِ الثَّلاثَةَ زادَ فِيها، فَقالَ: ﴿أتَخْشَوْنَهم فاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وهَذا الكَلامُ يُقَوِّي داعِيَةَ القِتالِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ تَعْدِيدَ المُوجِباتِ القَوِيَّةِ وتَفْصِيلَها مِمّا يُقَوِّي هَذِهِ الدّاعِيَةَ.
والثّانِي: أنَّكَ إذا قُلْتَ لِلرَّجُلِ: أتَخْشى خَصْمَكَ ؟ كانَ ذَلِكَ تَحْرِيكًا مِنهُ لِأنْ يَسْتَنْكِفَ أنْ يُنْسَبَ إلى كَوْنِهِ خائِفًا مِن خَصْمِهِ.
والثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ﴾ يُفِيدُ ذَلِكَ كَأنَّهُ قِيلَ: إنْ كُنْتَ تَخْشى أحَدًا فاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ لِكَوْنِهِ في غايَةِ القُدْرَةِ والكِبْرِياءِ والجَلالَةِ، والضَّرَرُ المُتَوَقَّعُ مِنهم غايَتُهُ القَتْلُ، أمّا المُتَوَقَّعُ مِنَ اللَّهِ فالعِقابُ الشَّدِيدُ في القِيامَةِ، والذَّمُّ اللّازِمُ في الدُّنْيا.
والرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مَعْناهُ: أنَّكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالأيْمانِ وجَبَ عَلَيْكم أنْ تُقْدِمُوا عَلى هَذِهِ المُقاتَلَةِ، ومَعْناهُ أنَّكم إنْ لَمْ تُقْدِمُوا عَلَيْها وجَبَ أنْ لا تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَثَبَتَ أنَّ هَذا كَلامٌ مُشْتَمِلٌ عَلى سَبْعَةِ أنْواعٍ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تَحْمِلُهم عَلى مُقاتَلَةِ أُولَئِكَ الكُفّارِ النّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ.
بَقِيَ في الآيَةِ أبْحاثٌ:
البَحْثُ الأوَّلُ: حَكى الواحِدِيُّ عَنْ أهْلِ المَعانِي أنَّهم قالُوا: إذا قُلْتَ: لا تَفْعَلْ كَذا، فَإنَّما يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ في فِعْلٍ مُقَدَّرٍ وُجُودُهُ، وإذا قُلْتَ: ألَسْتَ تَفْعَلُ، فَإنَّما تَقُولُ ذَلِكَ في فِعْلٍ تَحَقَّقَ وُجُودُهُ، والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ لا يُنْفى بِها المُسْتَقْبَلُ، فَإذا دَخَلَتْ عَلَيْها الألِفُ صارَ تَحْضِيضًا عَلى فِعْلِ ما يُسْتَقْبَلُ، ولَيْسَ إنَّما تُسْتَعْمَلُ لِنَفْيِ الحالِ. فَإذا دَخَلَتْ عَلَيْها الألِفُ صارَ لِتَحْقِيقِ الحالِ.
البَحْثُ الثّانِي: نُقِلَ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا تُقاتِلُونَ قَوْمًا﴾ تَرْغِيبٌ في فَتْحِ مَكَّةَ وقَوْلُهُ: ﴿قَوْمًا نَكَثُوا أيْمانَهُمْ﴾ أيْ عَهْدَهم، يَعْنِي قُرَيْشًا حِينَ أعانُوا بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ عَلى خُزاعَةَ خُلَفاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَأمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أنْ يَسِيرَ إلَيْهِمْ فَيَنْصُرَ خُزاعَةَ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ، وأمَرَ النّاسَ أنْ يَتَجَهَّزُوا إلى مَكَّةَ، وأبُو سُفْيانَ عِنْدَ هِرَقْلَ بِالرُّومِ، فَرَجَعَ وقَدِمَ المَدِينَةَ ودَخَلَ عَلى فاطِمَةَ بِنْتِ الرَّسُولِ ﷺ يَسْتَجِيرُ بِها فَأبَتْ، وقالَ ذَلِكَ لِابْنَيْها الحَسَنِ والحُسَيْنِ فَأبَيا، فَخاطَبَ أبا بَكْرٍ فَأبى، ثُمَّ خاطَبَ عُمَرَ فَتَشَدَّدَ، ثُمَّ خاطَبَ عَلِيًّا فَلَمْ يُجِبْهُ، فاسْتَجارَ بِالعَبّاسِ وكانَ مُصافِيًا لَهُ فَأجارَهُ، وأجارَهُ الرَّسُولُ لِإجارَتِهِ وخَلّى سَبِيلَهُ. فَقالَ العَبّاسُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أبا سُفْيانَ فِيهِ أُبَّهَةٌ فاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا ! فَقالَ: مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفْيانَ فَهو آمِنٌ، فَعادَ إلى مَكَّةَ ونادى مَن دَخَلَ دارِي فَهو آمِنٌ، فَقامُوا إلَيْهِ وضَرَبُوهُ ضَرْبًا شَدِيدًا وحَصَلَ الفَتْحُ عِنْدَ ذَلِكَ»، فَهَذا ما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقالَ الحَسَنُ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ سُورَةَ بَراءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ، وتَمْيِيزُ حَقِّ هَذا البابِ مِن باطِلِهِ لا يُعْرَفُ إلّا بِالأخْبارِ.
البَحْثُ الثّالِثُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهم كَرِهُوا هَذا القِتالَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١٦] فَآمَنَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الآياتِ.
قالَ القاضِي: إنَّهُ تَعالى قَدْ يَحُثُّ عَلى فِعْلِ الواجِبِ مَن لا يَكُونُ كارِهًا لَهُ ولا مُقَصِّرًا فِيهِ، فَإنْ أرادَ أنَّ مِثْلَ هَذا التَّحْرِيضِ عَلىَ الجِهادِ لا يَنْفَعُ إلّا (p-١٨٩)وهُناكَ كُرْهٌ لِلْقِتالِ لَمْ يَصِحَّ أيْضًا؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَحُثَّ اللَّهُ تَعالى بِهَذا الجِنْسِ عَلى الجِهادِ لِكَيْ لا يَحْصُلَ الكُرْهُ الَّذِي لَوْلا هَذا التَّحْرِيضُ كانَ يَقَعُ.
البَحْثُ الرّابِعُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ يَنْبَغِي أنْ يَخْشى رَبَّهُ، وأنْ لا يَخْشى أحَدًا سِواهُ.
{"ayah":"أَلَا تُقَـٰتِلُونَ قَوۡمࣰا نَّكَثُوۤا۟ أَیۡمَـٰنَهُمۡ وَهَمُّوا۟ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق