الباحث القرآني

(p-١٤٩) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكم ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ جامِعٌ لِلتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، وذَلِكَ لِأنَّ المَعْبُودَ إذا كانَ لا يَعْلَمُ أفْعالَ العِبادِ لَمْ يَنْتَفِعِ العَبْدُ بِفِعْلِهِ، ولِهَذا قالَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِأبِيهِ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ (مَرْيَمَ: ٤٢) وقُلْتُ في بَعْضِ المَجالِسِ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَها إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - القَدْحَ في إلَهِيَّةِ الصَّنَمِ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ حَجَرٌ وخَشَبٌ وأنَّهُ مُعَرَّضٌ لِتَصَرُّفِ المُتَصَرِّفِينَ، فَمَن شاءَ أحْرَقَهُ، ومَن شاءَ كَسَرَهُ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَتَوَهَّمُ العاقِلُ كَوْنَهُ إلَهًا ؟ بَلِ المَقْصُودُ أنَّ أكْثَرَ عَبْدَةِ الأصْنامِ كانُوا في زَمانِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أتْباعَ الفَلاسِفَةِ القائِلِينَ بِأنَّ إلَهَ العالَمِ مُوجَبٌ بِالذّاتِ، ولَيْسَ بِمُوجَدٍ بِالمَشِيئَةِ والِاخْتِيارِ، فَقالَ: المُوجَبُ بِالذّاتِ إذا لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِالخَيْراتِ ولَمْ يَكُنْ قادِرًا عَلى الإنْفاعِ والإضْرارِ، ولا يَسْمَعُ دُعاءَ المُحْتاجِينَ ولا يَرى تَضَرُّعَ المَساكِينِ، فَأيُّ فائِدَةٍ في عِبادَتِهِ ؟ فَكانَ المَقْصُودُ مِن دَلِيلِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - الطَّعْنَ في قَوْلِ مَن يَقُولُ: إلَهُ العالَمِ مُوجَبٌ بِالذّاتِ. أمّا إذا كانَ فاعِلًا مُخْتارًا وكانَ عالِمًا بِالجُزْئِيّاتِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْعِبادِ الفَوائِدُ العَظِيمَةُ، وذَلِكَ لِأنَّ العَبْدَ إذا أطاعَ عَلِمَ المَعْبُودُ طاعَتَهُ وقَدَرَ عَلى إيصالِ الثَّوابِ إلَيْهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ عَصاهُ عَلِمَ المَعْبُودُ ذَلِكَ، وقَدَرَ عَلى إيصالِ العِقابِ إلَيْهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ لِلْمُطِيعِينَ، وتَرْهِيبٌ عَظِيمٌ لِلْمُذْنِبِينَ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: اجْتَهَدُوا في المُسْتَقْبَلِ، فَإنَّ لِعَمَلِكم في الدُّنْيا حُكْمًا وفي الآخِرَةِ حُكْمًا. أمّا حُكْمُهُ في الدُّنْيا فَهو أنَّهُ يَراهُ اللَّهُ ويَراهُ الرَّسُولُ ويَراهُ المُسْلِمُونَ، فَإنْ كانَ طاعَةً حَصَلَ مِنهُ الثَّناءُ العَظِيمُ والثَّوابُ العَظِيمُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ كانَ مَعْصِيَةً حَصَلَ مِنهُ الذَّمُّ العَظِيمُ في الدُّنْيا والعِقابُ الشَّدِيدُ في الآخِرَةِ. فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الواحِدَةَ جامِعَةٌ لِجَمِيعِ ما يَحْتاجُ المَرْءُ إلَيْهِ في دِينِهِ ودُنْياهُ ومَعاشِهِ ومَعادِهِ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى مَسائِلَ أُصُولِيَّةٍ. الحُكْمُ الأوَّلُ أنَّها تَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى رائِيًا لِلْمَرْئِيّاتِ؛ لِأنَّ الرُّؤْيَةَ المُعَدّاةَ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، هي الإبْصارُ، والمُعَدّاةَ إلى مَفْعُولَيْنِ هي العِلْمُ، كَما تَقُولُ رَأيْتُ زَيْدًا فَقِيهًا، وهَهُنا الرُّؤْيَةُ مُعَدّاةٌ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ فَتَكُونُ بِمَعْنى الإبْصارِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُبْصِرًا لِلْأشْياءِ كَما أنَّ قَوْلَ إبْراهِيمِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ (مَرْيَمَ: ٤٢) يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى مُبْصِرًا ورائِيًا لِلْأشْياءِ، ومِمّا يُقَوِّي أنَّ الرُّؤْيَةَ لا يُمْكِنُ حَمْلُها هَهُنا عَلى العِلْمِ أنَّهُ تَعالى وصَفَ نَفْسَهُ بِالعِلْمِ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: ﴿وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ ولَوْ كانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ هي العِلْمُ لَزِمَ حُصُولُ التَّكْرِيرِ الخالِي عَنِ الفائِدَةِ وهو باطِلٌ. الحُكْمُ الثّانِي مَذْهَبُ أصْحابِنا أنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإنَّهُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ وقالُوا: قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ الرُّؤْيَةَ المَذْكُورَةَ في هَذِهِ الآيَةِ مُعَدّاةٌ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، والقَوانِينُ اللُّغَوِيَّةُ شاهِدَةٌ أنَّ الرُّؤْيَةَ المُعَدّاةَ إلى (p-١٥٠)المَفْعُولِ الواحِدِ مَعْناها الإبْصارُ. فَكانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مَعْناها الإبْصارُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَدّى هَذِهِ الرُّؤْيَةَ إلى عَمَلِهِمْ والعَمَلُ يَنْقَسِمُ إلى أعْمالِ القُلُوبِ، كالإراداتِ والكَراهاتِ والأنْظارِ. وإلى أعْمالِ الجَوارِحِ، كالحَرَكاتِ والسَّكَناتِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعالى رائِيًا لِلْكُلِّ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ كُلَّها مَرْئِيَّةٌ لِلَّهِ تَعالى، وأمّا الجُبّائِيُّ فَإنَّهُ كانَ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى كَوْنِهِ تَعالى رائِيًا لِلْحَرَكاتِ والسَّكَناتِ والِاجْتِماعاتِ والاِفْتِراقاتِ، فَلَمّا قِيلَ لَهُ: إنْ صَحَّ هَذا الِاسْتِدْلالُ، فَيَلْزَمُكَ كَوْنُهُ تَعالى رائِيًا لِأعْمالِ القُلُوبِ، فَأجابَ عَنْهُ أنَّهُ تَعالى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ﴾ وهم إنَّما يَرَوْنَ أفْعالَ الجَوارِحِ، فَلَمّا تَقَيَّدَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بِأعْمالِ الجَوارِحِ في حَقِّ المَعْطُوفِ وجَبَ تَقْيِيدُها بِهَذا القَيْدِ في حَقِّ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وهَذا بِعِيدٌ لِأنَّ العَطْفَ لا يُفِيدُ إلّا أصْلَ التَّشْرِيكِ. فَأمّا التَّسْوِيَةُ في كُلِّ الأُمُورِ فَغَيْرُ واجِبٍ، فَدُخُولُ التَّخْصِيصِ في المَعْطُوفِ، لا يُوجِبُ دُخُولَ التَّخْصِيصَ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنْ أصْلِ الِاسْتِدْلالِ فَيُقالُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى حاصِلَةٌ في الحالِ. والمَعْنى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الآيَةِ هو قَوْلُهُ: ﴿فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ أمْرٌ غَيْرُ حاصِلٍ في الحالِ؛ لِأنَّ السِّينَ تَخْتَصُّ بِالِاسْتِقْبالِ. فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ مِنهُ الجَزاءُ عَلى الأعْمالِ. فَقَوْلُهُ: ﴿فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ أيْ: فَسَيُوصِلُ لَكم جَزاءَ أعْمالِكم. ولِمُجِيبٍ أنْ يُجِيبَ عَنْهُ، بِأنَّ إيصالَ الجَزاءِ إلَيْهِمْ مَذْكُورٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فَلَوْ حَمَلْنا هَذِهِ الرُّؤْيَةَ عَلى إيصالِ الجَزاءِ لَزِمَ التَّكْرارُ، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكم ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ﴾ سُؤالٌ: وهو أنَّ عَمَلَهم لا يَراهُ كُلُّ أحَدٍ، فَما مَعْنى هَذا الكَلامِ ؟ والجَوابُ: مَعْناهُ وصُولُ خَبَرِ ذَلِكَ العَمَلِ إلى الكُلِّ. قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ ”«لَوْ أنَّ رَجُلًا عَمِلَ عَمَلًا في صَخْرَةٍ لا بابَ لَها ولا كُوَّةَ لَخَرَجَ عَمَلُهُ إلى النّاسِ كائِنًا ما كانَ» “ . فَإنْ قِيلَ: فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ في أنَّهم يَرَوْنَ أعْمالَ هَؤُلاءِ التّائِبِينَ ؟ قُلْنا: فِيهِ وجْهانِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ أجْدَرَ ما يَدْعُو المَرْءَ إلى العَمَلِ الصّالِحِ ما يَحْصُلُ لَهُ مِنَ المَدْحِ والتَّعْظِيمِ والعِزِّ الَّذِي يَلْحَقُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإذا عَلِمَ أنَّهُ إذا فَعَلَ ذَلِكَ الفِعْلَ عَظَّمَهُ الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ، عَظُمَ فَرَحُهُ بِذَلِكَ وقَوِيَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ، ومِمّا يُنَبِّهُ عَلى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ أنَّهُ ذَكَرَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى أوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَها رُؤْيَةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والمُؤْمِنِينَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنْ كُنْتَ مِنَ المُحِقِّينَ المُحَقِّقِينَ في عُبُودِيَّةِ الحَقِّ، فاعْمَلِ الأعْمالَ الصّالِحَةَ لِلَّهِ تَعالى، وإنْ كُنْتَ مِنَ الضُّعَفاءِ المَشْغُولِينَ بِثَناءِ الخَلْقِ فاعْمَلِ الأعْمالَ الصّالِحَةَ لِتَفُوزَ بِثَناءِ الخَلْقِ، وهو الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ. الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: ما ذَكَرَهُ أبُو مُسْلِمٍ: أنَّ المُؤْمِنِينَ شُهَداءُ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ كَما قالَ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ (البَقَرَةِ: ١٤٣) الآيَةَ، والرَّسُولُ شَهِيدُ الأُمَّةِ، كَما قالَ: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ (النِّساءِ: ٤١) فَثَبَتَ أنَّ الرَّسُولَ والمُؤْمِنِينَ شُهَداءُ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ، والشَّهادَةُ لا تَصِحُّ إلّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، فَذَكَرَ اللَّهُ أنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ أعْمالَهم، والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهم يَشْهَدُونَ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ حُضُورِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، بِأنَّهم أهْلُ الصِّدْقِ والسَّدادِ والعَفافِ والرَّشادِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:(p-١٥١) المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: الغَيْبُ ما يُسِرُّونَهُ، والشَّهادَةُ ما يُظْهِرُونَهُ. وأقُولُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ الغَيْبُ ما حَصَلَ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الدَّواعِي والصَّوارِفِ، والشَّهادَةُ الأعْمالُ الَّتِي تَظْهَرُ عَلى جَوارِحِهِمْ، وأقُولُ أيْضًا مَذْهَبُ حُكَماءِ الإسْلامِ أنَّ المَوْجُوداتِ الغائِبَةَ عَنِ الحَواسِّ عِلَلٌ أوْ كالعِلَلِ لِلْمَوْجُوداتِ المَحْسُوساتِ، وعِنْدَهم أنَّ العِلْمَ بِالعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعَلَمِ بِالمَعْلُولِ. فَوَجَبَ كَوْنُ العِلْمِ بِالغَيْبِ سابِقًا عَلى العِلْمِ بِالشَّهادَةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ أيْنَما جاءَ هَذا الكَلامُ في القُرْآنِ كانَ الغَيْبُ مُقَدَّمًا عَلى الشَّهادَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنْ حَمَلْنا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ عَلى الرُّؤْيَةِ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أنَّ مَعْناهُ مُغايِرٌ لِمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ وإنْ حَمَلْنا تِلْكَ الرُّؤْيَةَ عَلى العِلْمِ أوْ عَلى إيصالِ الثَّوابِ جَعَلْنا قَوْلَهُ: ﴿وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ جارِيًا مَجْرى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ مَعْناهُ: بِإظْهارِ المَدْحِ والثَّناءِ والإعْزازِ في الدُّنْيا، أوْ بِإظْهارِ أضْدادِها. وقَوْلُهُ: ﴿وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ مَعْناهُ: ما يَظْهَرُ في القِيامَةِ مِن حالِ الثَّوابِ والعِقابِ. ثُمَّ قالَ: ﴿فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ والمَعْنى يُعَرِّفُكم أحْوالَ أعْمالِكم ثُمَّ يُجازِيكم عَلَيْها، لِأنَّ المُجازاةَ مِنَ اللَّهِ تَعالى لا تَحْصُلُ في الآخِرَةِ إلّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ؛ لِيَعْرِفَ كُلُّ أحَدٍ أنَّ الَّذِي وصَلَ إلَيْهِ عَدْلٌ لا ظُلْمٌ، فَإنْ كانَ مِن أهْلِ الثَّوابِ كانَ فَرَحُهُ وسَعادَتُهُ أكْثَرَ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ العِقابِ كانَ غَمُّهُ وخُسْرانُهُ أكْثَرَ. وقالَ حُكَماءُ الإسْلامِ، المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ الإشارَةُ إلى الثَّوابِ الرُّوحانِيِّ، وذَلِكَ لِأنَّ العَبْدَ إذا تَحَمَّلَ أنْواعًا مِنَ المَشاقِّ في الأُمُورِ الَّتِي أمَرَهُ بِها مَوْلاهُ، فَإذا عَلِمَ العَبْدُ أنَّ مَوْلاهُ يَرى كَوْنَهُ مُتَحَمِّلًا لِتِلْكَ المَشاقِّ، عَظُمَ فَرَحُهُ وقَوِيَ ابْتِهاجُهُ بِها، وكانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ألَذَّ مِنَ الخِلَعِ النَّفِيسَةِ والأمْوالِ العَظِيمَةِ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ فالمُرادُ مِنهُ تَعْرِيفُ عِقابِ الخِزْيِ والفَضِيحَةِ. ومِثالُهُ أنَّ العَبْدَ الَّذِي خَصَّهُ السُّلْطانُ بِالوُجُوهِ الكَثِيرَةِ مِنَ الإحْسانِ إذا أتى بِأنْواعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ المَعاصِي، فَإذا حَضَرَ ذَلِكَ العَبْدُ عِنْدَ ذَلِكَ السُّلْطانِ وعَدَّدَ عَلَيْهِ أنْواعَ قَبائِحِهِ وفَضائِحِهِ، قَوِيَ حُزْنُهُ وعَظُمَ غَمُّهُ وكَمُلَتْ فَضِيحَتُهُ، وهَذا نَوْعٌ مِنَ العَذابِ الرُّوحانِيِّ، ورُبَّما رَضِيَ العاقِلُ بِأشَدِّ أنْواعِ العَذابِ الجُسْمانِيِّ حَذَرًا مِنهُ. والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَعْرِيفُ هَذا النَّوْعِ مِنَ العِقابِ الرُّوحانِيِّ، نَسْألُ اللَّهَ العِصْمَةَ مِنهُ ومِن سائِرِ العَذابِ. * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأمْرِ اللَّهِ إمّا يُعَذِّبُهم وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ ونافِعٌ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ مُرْجَوْنَ بِغَيْرِ هَمْزٍ والباقُونَ بِالهَمْزِ وهُما لُغَتانِ. أرْجَأتُ الأمْرَ وأرْجَيْتُهُ، بِالهَمْزِ وتَرْكِهِ، إذا أخَّرْتَهُ. وسُمِّيَتِ المُرْجِئَةُ بِهَذا الِاسْمِ لِأنَّهم لا يُجْزِمُونَ القَوْلَ بِمَغْفِرَةِ التّائِبِ ولَكِنْ يُؤَخِّرُونَها إلى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى. وقالَ الأوْزاعِيُّ: لِأنَّهم يُؤَخِّرُونَ العَمَلَ عَنِ الإيمانِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى قَسَّمَ المُتَخَلِّفِينَ عَنِ الجِهادِ ثَلاثَةَ أقْسامٍ: القِسْمُ الأوَّلُ: المُنافِقُونَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ.(p-١٥٢) القِسْمُ الثّانِي: التّائِبُونَ وهُمُ المُرادُونَ بِقَوْلِهِ: ﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ وبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهم. والقِسْمُ الثّالِثُ: الَّذِينَ بَقُوا مَوْقُوفِينَ وهُمُ المَذْكُورُونَ في هَذِهِ الآيَةِ، والفَرْقُ بَيْنَ القِسْمِ الثّانِي وبَيْنَ هَذا الثّالِثِ، أنَّ أُولَئِكَ سارَعُوا إلى التَّوْبَةِ وهَؤُلاءِ لَمْ يُسارِعُوا إلَيْها. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في كَعْبِ بْنِ مالِكٍ ومُرارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقالَ كَعْبٌ: أنا أفْرَهُ أهْلِ المَدِينَةِ جَمَلًا، فَمَتى شِئْتُ لَحِقْتُ الرَّسُولَ، فَتَأخَّرَ أيّامًا وأيِسَ بَعْدَها مِنَ اللُّحُوقِ بِهِ فَنَدِمَ عَلى صَنِيعِهِ وكَذَلِكَ صاحِباهُ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ لِكَعْبٍ اعْتَذِرْ إلَيْهِ مِن صَنِيعِكَ، فَقالَ: لا واللَّهِ حَتّى تَنْزِلَ تَوْبَتِي، وأمّا صاحِباهُ فاعْتَذَرا إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: ”ما خَلَّفَكُما عَنِّي“ فَقالا: لا عُذْرَ لَنا إلّا الخَطِيئَةُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأمْرِ اللَّهِ﴾ فَوَقَفَهُمُ الرَّسُولُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ونَهى النّاسَ عَنْ مُجالَسَتِهِمْ، وأمَرَهم بِاعْتِزالِ نِسائِهِمْ وإرْسالِهِنَّ إلى أهالِيهِنَّ، فَجاءَتِ امْرَأةُ هِلالٍ تَسْألُ أنْ تَأْتِيَهُ بِطَعامٍ فَإنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَأذِنَ لَها في ذَلِكَ خاصَّةً، وجاءَ رَسُولٌ مِنَ الشّامِ إلى كَعْبٍ يُرَغِّبُهُ في اللَّحاقِ بِهِمْ، فَقالَ كَعْبٌ: بَلَغَ مِن خَطِيئَتِي أنْ طَمِعَ فِيَّ المُشْرِكُونَ، قالَ: فَضاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ. وبَكى هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ حَتّى خِيفَ عَلى بَصَرِهِ، فَلَمّا مَضى خَمْسُونَ يَوْمًا نَزَلَتْ تَوْبَتُهم بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ﴾ (التَّوْبَةِ: ١١٧) وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ﴾ (التَّوْبَةِ: ١١٨) الآيَةَ» . وقالَ الحَسَنُ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأمْرِ اللَّهِ﴾ قَوْمًا مِنَ المُنافِقِينَ أرْجَأهم رَسُولُ اللَّهِ عَنْ حَضْرَتِهِ. وقالَ الأصَمُّ: يَعْنِي المُنافِقِينَ وهو مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿ومِمَّنْ حَوْلَكم مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ﴾ أرْجَأهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهم ما عَلِمَهُ مِنهم وحَذَّرَهم بِهَذِهِ الآيَةِ إنْ لَمْ يَتُوبُوا أنْ يُنَزِّلَ فِيهِمْ قُرْآنًا. * * * فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إمّا يُعَذِّبُهم وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ كَلِمَةَ (إمّا) و(إمّا) لِلشَّكِّ، واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وجَوابُهُ المُرادُ مِنهُ لِيَكُنْ أمْرُهم عَلى الخَوْفِ والرَّجاءِ، فَجَعَلَ أُناسٌ يَقُولُونَ هَلَكُوا إذا لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ تَعالى لَهم عُذْرًا، وآخَرُونَ يَقُولُونَ عَسى اللَّهُ أنْ يَغْفِرَ لَهم. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لا شَكَّ أنَّ القَوْمَ كانُوا نادِمِينَ عَلى تَأخُّرِهِمْ عَنِ الغَزْوِ وتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمْ يَحْكم بِكَوْنِهِمْ تائِبِينَ بَلْ قالَ: ﴿إمّا يُعَذِّبُهم وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّدَمَ وحْدَهُ لا يَكُونُ كافِيًا في صِحَّةِ التَّوْبَةِ. فَإنْ قِيلَ: فَما تِلْكَ الشَّرائِطُ ؟ قُلْنا: لَعَلَّهم خافُوا مِن أمْرِ الرَّسُولِ بِإيذائِهِمْ أوْ خافُوا مِنَ الخَجْلَةِ والفَضِيحَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَتَوْبَتُهم غَيْرُ صَحِيحَةٍ ولا مَقْبُولَةٍ، فاسْتَمَرَّ عَدَمُ قَبُولِ التَّوْبَةِ إلى أنْ سَهُلَ أحْوالُ الخَلْقِ في قَدْحِهِمْ ومَدْحِهِمْ عِنْدَهم، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدِمُوا عَلى المَعْصِيَةِ لِنَفْسِ كَوْنِها مَعْصِيَةً، وعِنْدَ ذَلِكَ صَحَّتْ تَوْبَتُهم. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ الجُبّائِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يَعْفُو عَنْ غَيْرِ التّائِبِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ قالَ في حَقِّ هَؤُلاءِ المُذْنِبِينَ﴿إمّا يُعَذِّبُهم وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا حُكْمَ إلّا أحَدُ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، وهو إمّا التَّعْذِيبُ وإمّا التَّوْبَةُ، وأمّا العَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ مِن غَيْرِ التَّوْبَةِ، فَهو قِسْمٌ ثالِثٌ. فَلَمّا أهْمَلَ اللَّهُ تَعالى ذِكْرَهُ دَلَّ عَلى أنَّهُ باطِلٌ وغَيْرُ مُعْتَبَرٍ.(p-١٥٣) والجَوابُ: أنّا لا نَقْطَعُ بِحُصُولِ العَفْوِ عَنْ جَمِيعِ المُذْنِبِينَ، بَلْ نَقْطَعُ بِحُصُولِ العَفْوِ في الجُمْلَةِ، وأمّا في حَقِّ كُلِّ واحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَذَلِكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. ألا تَرى أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] فَقَطَعَ بِغُفْرانِ ما سِوى الشِّرْكِ، لَكِنْ لا في حَقِّ كُلِّ أحَدٍ، بَلْ في حَقِّ مَن يَشاءُ. فَلَمْ يَلْزَمْ مِن عَدَمِ العَفْوِ في حَقِّ هَؤُلاءِ، عَدَمُ العَفْوِ عَلى الإطْلاقِ. وأيْضًا فَعَدَمُ الذِّكْرِ لا يَدُلُّ عَلى العَدَمِ، ألا تَرى أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ (عَبَسَ: ٣٩) وهُمُ المُؤْمِنُونَ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ (عَبَسَ: ٤٠) فَهَهُنا المَذْكُورُونَ، إمّا المُؤْمِنُونَ، وإمّا الكافِرُونَ، ثُمَّ إنَّ عَدَمَ ذِكْرِ القِسْمِ الثّالِثِ، لَمْ يَدُلَّ عِنْدَ الجُبّائِيِّ عَلى نَفْيِهِ، فَكَذا هَهُنا. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أيْ﴿عَلِيمٌ﴾ بِما في قُلُوبِ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ﴿حَكِيمٌ﴾ فِيما يَحْكُمُ فِيهِمْ ويَقْضِي عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب