الباحث القرآني

(p-١٧٢)(سُورَةُ التَّوْبَةِ) مَدَنِيَّةٌ، إلّا الآيَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ فَمَكِّيَّتانِ وآياتُها ”١٢٩“ نَزَلَتْ بَعْدَ المائِدَةِ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: لَها عِدَّةُ أسْماءٍ: بَراءَةُ، والتَّوْبَةُ، والمُقَشْقِشَةُ، والمُبَعْثِرَةُ، والمُشَرِّدَةُ، والمُخْزِيَةُ، والفاضِحَةُ، والمُثِيرَةُ، والحافِرَةُ، والمُنَكِّلَةُ، والمُدَمْدِمَةُ، وسُورَةُ العَذابِ، قالَ: لِأنَّ فِيها التَّوْبَةَ عَلى المُؤْمِنِينَ، وهي تُقَشْقِشُ مِنَ النِّفاقِ أيْ تُبَرِّئُ مِنهُ، وتُبَعْثِرُ عَنْ أسْرارِ المُنافِقِينَ، وتَبْحَثُ عَنْها، وتُثِيرُها، وتَحْفِرُ عَنْها، وتَفْضَحُهم، وتُنَكِّلُ بِهِمْ، وتُشَرِّدُهم وتُخْزِيهِمْ، وتُدَمْدِمُ عَلَيْهِمْ، وعَنْ حُذَيْفَةَ: إنَّكم تُسَمُّونَها سُورَةَ التَّوْبَةِ، واللَّهِ ما تَرَكَتْ أحَدًا إلّا نالَتْ مِنهُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في هَذِهِ السُّورَةِ قالَ: إنَّها الفاضِحَةُ ما زالَتْ تَنْزِلُ فِيهِمْ وتَنالُ مِنهم حَتّى خَشِينا أنْ لا تَدَعَ أحَدًا، وسُورَةُ الأنْفالِ نَزَلَتْ في بَدْرٍ، وسُورَةُ الحَشْرِ نَزَلَتْ في بَنِي النَّضِيرِ. فَإنْ قِيلَ: ما السَّبَبُ في إسْقاطِ التَّسْمِيَةِ مِن أوَّلِها ؟ قُلْنا: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الوَجْهُ الأوَّلُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قُلْتُ لِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، ما حَمَلَكم عَلى أنْ عَمَدْتُمْ إلى سُورَةِ بَراءَةَ وهي مِنَ المِئِينَ، وإلى سُورَةِ الأنْفالِ وهي مِنَ المَثانِي، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُما وما فَصَلْتُمْ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؟ فَقالَ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّما نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةٌ يَقُولُ: ”ضَعُوها في مَوْضِعِ كَذا» “ وكانَتْ بَراءَةُ مِن آخِرِ القُرْآنِ نُزُولًا، فَتُوُفِّيَ ﷺ ولَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَها، وكانَتْ قِصَّتُها شَبِيهَةً بِقِصَّتِها فَقُرِنَ بَيْنَهُما، قالَ القاضِي: يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يُبَيِّنْ كَوْنَ هَذِهِ السُّورَةِ تالِيَةً لِسُورَةِ الأنْفالِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ مُرَتَّبٌ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى ومِن قِبَلِ رَسُولِهِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ، ولَوْ جَوَّزْنا في بَعْضِ السُّوَرِ أنْ لا يَكُونَ تَرْتِيبُها مِنَ اللَّهِ عَلى سَبِيلِ الوَحْيِ، لَجَوَّزْنا مِثْلَهُ في سائِرِ السُّوَرِ وفي آياتِ السُّورَةِ الواحِدَةِ، وتَجْوِيزُهُ يُطَرِّفُ ما يَقُولُهُ الإمامِيَّةُ مِن تَجْوِيزِ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ في القُرْآنِ. وذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِن كَوْنِهِ حُجَّةً، بَلِ الصَّحِيحُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَ بِوَضْعِ هَذِهِ السُّورَةِ، بَعْدَ سُورَةِ الأنْفالِ وحْيًا، وأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَذَفَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وحْيًا. الوَجْهُ الثّانِي: في هَذا البابِ ما يُرْوى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّهُ قالَ: إنَّما تَوَهَّمُوا ذَلِكَ؛ لِأنَّ في الأنْفالِ ذِكْرَ العُهُودِ، وفي بَراءَةَ نَبْذَ العُهُودِ، فَوُضِعَتْ إحْداهُما بِجَنْبِ الأُخْرى، والسُّؤالُ المَذْكُورُ عائِدٌ هَهُنا؛ لِأنَّ هَذا الوَجْهَ إنَّما يَتِمُّ إذا قُلْنا: إنَّهم إنَّما وضَعُوا هَذِهِ السُّورَةَ بَعْدَ الأنْفالِ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ لِهَذِهِ العِلَّةِ. (p-١٧٣)والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ الصَّحابَةَ اخْتَلَفُوا في أنَّ سُورَةَ الأنْفالِ وسُورَةَ التَّوْبَةِ سُورَةٌ واحِدَةٌ أمْ سُورَتانِ ؟ فَقالَ بَعْضُهم: هُما سُورَةٌ واحِدَةٌ؛ لِأنَّ كِلْتَيْهِما نَزَلَتْ في القِتالِ ومَجْمُوعُهُما هَذِهِ السُّورَةُ السّابِعَةُ مِنَ الطِّوالِ وهي سَبْعٌ، وما بَعْدَها المِئُونَ. وهَذا قَوْلٌ ظاهِرٌ لِأنَّهُما مَعًا مِائَتانِ وسِتُّ آياتٍ، فَهُما بِمَنزِلَةِ سُورَةٍ واحِدَةٍ. ومِنهم مَن قالَ: هُما سُورَتانِ، فَلَمّا ظَهَرَ الِاخْتِلافُ بَيْنَ الصَّحابَةِ في هَذا البابِ تَرَكُوا بَيْنَهُما فُرْجَةً تَنْبِيهًا عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ هُما سُورَتانِ، وما كَتَبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُما تَنْبِيهًا عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ هُما سُورَةٌ واحِدَةٌ، وعَلى هَذا القَوْلِ لا يَلْزَمُنا تَجْوِيزُ مَذْهَبِ الإمامِيَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا وقَعَ الِاشْتِباهُ في هَذا المَعْنى بَيْنَ الصَّحابَةِ لَمْ يَقْطَعُوا بِأحَدِ القَوْلَيْنِ، وعَمِلُوا عَمَلًا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الِاشْتِباهَ كانَ حاصِلًا، فَلَمّا لَمْ يَتَسامَحُوا بِهَذا القَدْرِ مِنَ الشُّبْهَةِ دَلَّ عَلى أنَّهم كانُوا مُشَدِّدِينَ في ضَبْطِ القُرْآنِ عَنِ التَّحْرِيفِ والتَّغْيِيرِ، وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ الإمامِيَّةِ. الوَجْهُ الرّابِعُ: في هَذا البابِ: أنَّهُ تَعالى خَتَمَ سُورَةَ الأنْفالِ بِإيجابِ أنْ يُوالِيَ المُؤْمِنُونَ بَعْضُهم بَعْضًا وأنْ يَكُونُوا مُنْقَطِعِينَ عَنِ الكُفّارِ بِالكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى صَرَّحَ بِهَذا المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ فَلَمّا كانَ هَذا عَيْنَ ذَلِكَ الكَلامِ وتَأْكِيدًا لَهُ وتَقْرِيرًا لَهُ، لَزِمَ وُقُوعُ الفاصِلِ بَيْنَهُما، فَكانَ إيقاعُ الفَصْلِ بَيْنَهُما تَنْبِيهًا عَلى كَوْنِهِما سُورَتَيْنِ مُتَغايِرَتَيْنِ، وتُرِكَ كَتْبُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُما تَنْبِيهًا عَلى أنَّ هَذا المَعْنى هو عَيْنُ ذَلِكَ المَعْنى. الوَجْهُ الخامِسُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: سَألْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِمَ لَمْ يُكْتَبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُما ؟ قالَ: لِأنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمانٌ، وهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ ونَبْذِ العُهُودِ ولَيْسَ فِيها أمانٌ، ويُرْوى أنَّ سُفْيانَ بْنَ عُيَيْنَةَ ذَكَرَ هَذا المَعْنى، وأكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [ النِّساءِ: ٩٤] فَقِيلَ لَهُ: ألَيْسَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إلى أهْلِ الحَرْبِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَأجابَ عَنْهُ: بِأنَّ ذَلِكَ ابْتِداءٌ مِنهُ بِدَعْوَتِهِمْ إلى اللَّهِ، ولَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ عَهْدَهم، ألا تَراهُ قالَ في آخِرِ الكِتابِ: ”«والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى» “ وأمّا في هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى المُقاتَلَةِ ونَبْذِ العُهُودِ فَظَهَرَ الفَرْقُ. والوَجْهُ السّادِسُ: قالَ أصْحابُنا: لَعَلَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا عَلِمَ مِن بَعْضِ النّاسِ أنَّهم يَتَنازَعُونَ في كَوْنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ القُرْآنِ، أمَرَ بِأنْ لا تُكْتَبَ هَهُنا، تَنْبِيهًا عَلى كَوْنِها آيَةً مِن أوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وأنَّها لَمّا لَمْ تَكُنْ آيَةً مِن هَذِهِ السُّورَةِ، لا جَرَمَ لَمْ تُكْتَبْ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّها لَمّا كُتِبَتْ في أوَّلِ سائِرِ السُّوَرِ وجَبَ كَوْنُها آيَةً مِن كُلِّ سُورَةٍ. ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ واعْلَمُوا أنَّكم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ واعْلَمُوا أنَّكم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ﴾ . (p-١٧٤)وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: مَعْنى البَراءَةِ انْقِطاعُ العِصْمَةِ، يُقالُ: بَرِئْتُ مِن فُلانٍ أبْرَأُ بَراءَةً، أيِ انْقَطَعَتْ بَيْنَنا العِصْمَةُ ولَمْ يَبْقَ بَيْنَنا عُلْقَةٌ، ومِن هُنا يُقالُ: بَرِئْتُ مِنَ الدِّينِ، وفي رَفْعِ قَوْلِهِ: ﴿بَراءَةٌ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هَذِهِ بَراءَةٌ، قالَ الفَرّاءُ: ونَظِيرُهُ قَوْلُكَ إذا نَظَرْتَ إلى رَجُلٍ جَمِيلٍ: جَمِيلٌ واللَّهِ، أيْ هَذا جَمِيلٌ واللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ﴾ لِابْتِداءِ الغايَةِ، والمَعْنى: هَذِهِ بَراءَةٌ واصِلَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ، كَما تَقُولُ كِتابٌ مِن فُلانٍ إلى فُلانٍ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿بَراءَةٌ﴾ مُبْتَدَأً وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ صِفَتُها وقَوْلُهُ: ﴿إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ﴾ هو الخَبَرُ كَما تَقُولُ: رَجُلٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ في الدّارِ. فَإنْ قالُوا: ما السَّبَبُ في أنْ نَسَبَ البَراءَةَ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، ونَسَبَ المُعاهَدَةَ إلى المُشْرِكِينَ ؟ قُلْنا: قَدْ أذِنَ اللَّهُ في مُعاهَدَةِ المُشْرِكِينَ، فاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعاهَدَهم، ثُمَّ إنَّ المُشْرِكِينَ نَقَضُوا العَهْدَ فَأوْجَبَ اللَّهُ النَّبْذَ إلَيْهِمْ، فَخُوطِبَ المُسْلِمُونَ بِما يُحَذِّرُهم مِن ذَلِكَ، وقِيلَ: اعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ قَدْ بَرِئا مِمّا عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا خَرَجَ إلى غَزْوَةِ تَبُوكَ وتَخَلَّفَ المُنافِقُونَ وأرْجَفُوا بِالأراجِيفِ، جَعَلَ المُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ العَهْدَ، فَنَبَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ العَهْدَ إلَيْهِمْ» . فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَنْقُضَ النَّبِيُّ ﷺ العَهْدَ ؟ قُلْنا: لا يَجُوزُ أنْ يَنْقُضَ العَهْدَ إلّا عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنْ يَظْهَرَ لَهُ مِنهم خِيانَةٌ مَسْتُورَةٌ، ويَخافَ ضَرَرَهم فَيَنْبِذَ العَهْدَ إلَيْهِمْ، حَتّى يَسْتَوُوا في مَعْرِفَةِ نَقْضِ العَهْدِ لِقَوْلِهِ: ﴿وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ﴾ [الأنْفالِ: ٥٨] وقالَ أيْضًا: ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنهم ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهم في كُلِّ مَرَّةٍ﴾ [الأنْفالِ: ٥٦] . والثّانِي: أنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ لِبَعْضِهِمْ في وقْتِ العَهْدِ أنْ يُقِرَّهم عَلى العَهْدِ فِيما ذُكِرَ مِنَ المُدَّةِ إلى أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعالى بِقَطْعِهِ، فَلَمّا أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِقَطْعِ العَهْدِ بَيْنَهم قَطَعَ لِأجْلِ الشَّرْطِ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا فَتَنْقَضِيَ المُدَّةُ ويَنْقَضِيَ العَهْدُ، ويَكُونَ الغَرَضُ مِن إظْهارِ هَذِهِ البَراءَةِ أنْ يُظْهِرَ لَهم أنَّهُ لا يَعُودُ إلى العَهْدِ، وأنَّهُ عَلى عَزْمِ المُحارَبَةِ والمُقاتَلَةِ، فَأمّا فِيما وراءَ هَذِهِ الأحْوالِ الثَّلاثَةِ لا يَجُوزُ نَقْضُ العَهْدِ البَتَّةَ؛ لِأنَّهُ يَجْرِي مَجْرى الغَدْرِ وخُلْفِ القَوْلِ، واللَّهُ ورَسُولُهُ مِنهُ بَرِيئانِ، ولِهَذا المَعْنى قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إلّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكم شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكم أحَدًا فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ٤] وقِيلَ: إنَّ أكْثَرَ المُشْرِكِينَ نَقَضُوا العَهْدَ إلّا أُناسًا مِنهم وهم بَنُو ضَمْرَةَ وبَنُو كِنانَةَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: رُوِيَ أنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كانَ سَنَةَ ثَمانٍ وكانَ الأمِيرَ فِيها عَتّابُ بْنُ أسِيدٍ، ونُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، «وأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ أنْ يَكُونَ عَلى المَوْسِمِ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أمَرَ عَلِيًّا أنْ يَذْهَبَ إلى أهْلِ المَوْسِمِ لِيَقْرَأها عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ بَعَثْتَ بِها إلى أبِي بَكْرٍ، فَقالَ: لا يُؤَدِّي عَنِّي إلّا رَجُلٌ مِنِّي، فَلَمّا دَنا عَلِيٌّ سَمِعَ أبُو بَكْرٍ الرُّغاءَ، فَوَقَفَ وقالَ: هَذا رُغاءُ ناقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمّا لَحِقَهُ قالَ: أمِيرٌ أوْ مَأْمُورٌ ؟ قالَ: مَأْمُورٌ، ثُمَّ سارُوا، فَلَمّا كانَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ خَطَبَ أبُو بَكْرٍ وحَدَّثَهم عَنْ مَناسِكِهِمْ، وقامَ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إلَيْكم، فَقالُوا: بِماذا ؟ فَقَرَأ عَلَيْهِمْ (p-١٧٥)ثَلاثِينَ أوْ أرْبَعِينَ آيَةً، وعَنْ مُجاهِدٍ ثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةً، ثُمَّ قالَ: أُمِرْتُ بِأرْبَعٍ: أنْ لا يَقْرَبَ هَذا البَيْتَ بَعْدَ هَذا العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، ولا يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا كُلُّ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وأنْ يَتِمَّ إلى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ، فَقالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: يا عَلِيُّ أبْلِغِ ابْنَ عَمِّكَ أنّا قَدْ نَبَذْنا العَهْدَ وراءَ ظُهُورِنا، وأنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنا وبَيْنَهُ عَهْدٌ إلّا طَعْنٌ بِالرِّماحِ وضَرْبٌ بِالسُّيُوفِ»، واخْتَلَفُوا في السَّبَبِ الَّذِي لِأجْلِهِ أمَرَ عَلِيًّا بِقِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَيْهِمْ وتَبْلِيغِ هَذِهِ الرِّسالَةِ إلَيْهِمْ، فَقالُوا: السَّبَبُ فِيهِ أنَّ عادَةَ العَرَبِ أنْ لا يَتَوَلّى تَقْرِيرَ العَهْدِ ونَقْضَهُ إلّا رَجُلٌ مِنَ الأقارِبِ، فَلَوْ تَوَلّاهُ أبُو بَكْرٍ لَجازَ أنْ يَقُولُوا هَذا خِلافُ ما نَعْرِفُ فِينا مِن نَقْضِ العُهُودِ فَرُبَّما لَمْ يَقْبَلُوا، فَأُزِيحَتْ عِلَّتُهم بِتَوْلِيَةِ ذَلِكَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقِيلَ: لَمّا خَصَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَوْلِيَتِهِ أمِيرَ المَوْسِمِ خَصَّ عَلِيًّا بِهَذا التَّبْلِيغِ تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ ورِعايَةً لِلْجَوانِبِ، وقِيلَ: قَرَّرَ أبا بَكْرٍ عَلى المَوْسِمِ وبَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ لِتَبْلِيغِ هَذِهِ الرِّسالَةِ، حَتّى يُصَلِّيَ عَلِيٌّ خَلْفَ أبِي بَكْرٍ ويَكُونَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى التَّنْبِيهِ عَلى إمامَةِ أبِي بَكْرٍ، واللَّهُ أعْلَمُ. وقَرَّرَ الجاحِظُ هَذا المَعْنى فَقالَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ أبا بَكْرٍ أمِيرًا عَلى الحَجِّ ووَلّاهُ المَوْسِمَ، وبَعَثَ عَلِيًّا يَقْرَأُ عَلى النّاسِ آياتٍ مِن سُورَةِ بَراءَةَ فَكانَ أبُو بَكْرٍ الإمامَ وعَلِيٌّ المُؤْتَمَّ وكانَ أبُو بَكْرٍ الخَطِيبَ وعَلِيٌّ المُسْتَمِعَ، وكانَ أبُو بَكْرٍ الرّافِعَ بِالمَوْسِمِ والسّابِقَ لَهم والآمِرَ لَهم، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأمّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«لا يُبَلِّغُ عَنِّي إلّا رَجُلٌ مِنِّي» “ فَهَذا لا يَدُلُّ عَلى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلى أبِي بَكْرٍ، ولَكِنَّهُ عامَلَ العَرَبَ بِما يَتَعارَفُونَهُ فِيما بَيْنَهم، وكانَ السَّيِّدُ الكَبِيرُ مِنهم إذا عَقَدَ لِقَوْمٍ حِلْفًا أوْ عاهَدَ عَهْدًا لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ العَهْدَ والعَقْدَ إلّا هو أوْ رَجُلٌ مِن أقارِبِهِ القَرِيبِينَ مِنهُ كَأخٍ أوْ عَمٍّ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ القَوْلَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب