الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلّا إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: (كَلّا) رَدْعٌ لَهم عَنْ ذَلِكَ وإنْكارٌ لِفِعْلِهِمْ أيْ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الأمْرُ هَكَذا في الحِرْصِ عَلى الدُّنْيا وقَصْرِ الهِمَّةِ والجِهادِ عَلى تَحْصِيلِها والِاتِّكالِ عَلَيْها وتَرْكِ المُواساةِ مِنها وجَمْعِها مِن حَيْثُ تَتَهَيَّأُ مِن حِلٍّ أوْ حَرامٍ، وتَوَهَّمَ أنْ لا حِسابَ ولا جَزاءَ. فَإنَّ مَن كانَ هَذا حالَهُ يَنْدَمُ حِينَ لا تَنْفَعُهُ النَّدامَةُ ويَتَمَنّى أنْ لَوْ كانَ أفْنى عُمْرَهُ في التَّقَرُّبِ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ والمُواساةِ مِنَ المالِ إلى اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ إذا جاءَ يَوْمٌ مَوْصُوفٌ بِصِفاتٍ ثَلاثَةٍ فَإنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ التَّمَنِّي وتِلْكَ النَّدامَةُ. الصِّفَةُ الأُولى: مِن صِفاتِ ذَلِكَ اليَوْمِ قَوْلُهُ: ﴿إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ قالَ الخَلِيلُ: الدَّكُّ كَسْرُ الحائِطِ والجَبَلِ، والدَّكْداكُ رَمْلٌ مُتَلَبِّدٌ، ورَجُلٌ مِدَكٌّ شَدِيدُ الوَطْءِ عَلى الأرْضِ، وقالَ المُبَرِّدُ: الدَّكُّ حَطُّ المُرْتَفِعِ بِالبَسْطِ، وانْدَكَّ سَنامُ البَعِيرِ إذا انْفَرَشَ في ظَهْرِهِ، وناقَةٌ دَكّاءُ إذا كانَتْ كَذَلِكَ ومِنهُ الدُّكّانُ لِاسْتِوائِهِ في الِانْفِراشِ، فَمَعْنى الدَّكِّ عَلى قَوْلِ الخَلِيلِ: كَسْرُ كُلِّ شَيْءٍ عَلى وجْهِ الأرْضِ مِن جَبَلٍ أوْ شَجَرٍ حِينَ زُلْزِلَتْ فَلَمْ (p-١٥٨)يَبْقَ عَلى ظَهْرِها شَيْءٌ، وعَلى قَوْلِ المُبَرِّدِ: مَعْناهُ أنَّها اسْتَوَتْ في الِانْفِراشِ فَذَهَبَتْ دُورُها وقُصُورُها وسائِرُ أبْنِيَتِها حَتّى تَصِيرَ كالصَّخْرَةِ المَلْساءِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: تُمَدُّ الأرْضُ يَوْمَ القِيامَةِ. واعْلَمْ أنَّ التَّكْرارَ في قَوْلِهِ: ﴿دَكًّا دَكًّا﴾ مَعْناهُ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ كَقَوْلِكَ حَسِبْتُهُ بابًا بابًا وعَلِمْتُهُ حَرْفًا حَرْفًا أيْ: كُرِّرَ عَلَيْها الدَّكُّ حَتّى صارَتْ هَباءً مَنثُورًا. واعْلَمْ أنَّ هَذا التَّدَكْدُكَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُتَأخِّرًا عَنِ الزَّلْزَلَةِ، فَإذا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زَلْزَلَةً بَعْدَ زَلْزَلَةٍ وحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا بَعْدَ تَحْرِيكٍ انْكَسَرَتِ الجِبالُ الَّتِي عَلَيْها وانْهَدَمَتِ التِّلالُ وامْتَلَأتِ الأغْوارُ وصارَتْ مَلْساءَ، وذَلِكَ عِنْدَ انْقِضاضِ الدُّنْيا وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ﴾ ﴿تَتْبَعُها الرّادِفَةُ﴾ [النازعات: ٦] وقالَ: ﴿وحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً﴾ [الحاقة: ١٤] وقالَ: ﴿إذا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا﴾ ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ [الواقعة: ٤] . الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: مِن صِفاتِ ذَلِكَ اليَوْمِ قَوْلُهُ: ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ أنَّ الحَرَكَةَ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، لِأنَّ كُلَّ ما كانَ كَذَلِكَ كانَ جِسْمًا والجِسْمُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ أزَلِيًّا فَلا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وهو أنَّ هَذا مِن بابِ حَذْفِ المُضافِ وإقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ، ثُمَّ ذَلِكَ المُضافُ ما هو ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: وجاءَ أمْرُ رَبِّكَ بِالمُحاسَبَةِ والمُجازاةِ. وثانِيها: وجاءَ قَهْرُ رَبِّكَ كَما يُقالُ جاءَتْنا بَنُو أُمَيَّةَ أيْ: قَهْرُهم. وثالِثُها: وجاءَ جَلائِلُ آياتِ رَبِّكَ لِأنَّ هَذا يَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ، وفي ذَلِكَ اليَوْمِ تَظْهَرُ العَظائِمُ وجَلائِلُ الآياتِ، فَجُعِلَ مَجِيئُها مَجِيئًا لَهُ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ تِلْكَ الآياتِ. ورابِعُها: وجاءَ ظُهُورُ رَبِّكَ، وذَلِكَ لِأنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَصِيرُ في ذَلِكَ اليَوْمِ ضَرُورِيَّةً فَصارَ ذَلِكَ كَظُهُورِهِ وتَجَلِّيهِ لِلْخَلْقِ، فَقِيلَ: ﴿وجاءَ رَبُّكَ﴾ أيْ زالَتِ الشُّبْهَةُ وارْتَفَعَتِ الشُّكُوكُ. خامِسُها: أنَّ هَذا تَمْثِيلٌ لِظُهُورِ آياتِ اللَّهِ وتَبْيِينِ آثارِ قَهْرِهِ وسُلْطانِهِ، مُثِّلَتْ حالُهُ في ذَلِكَ بِحالِ المَلِكِ إذا حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَإنَّهُ يَظْهَرُ بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ مِن آثارِ الهَيْبَةِ والسِّياسَةِ ما لا يَظْهَرُ بِحُضُورِ عَساكِرِهِ كُلِّها. وسادِسُها: أنَّ الرَّبَّ هو المُرَبِّي، ولَعَلَّ مَلَكًا هو أعْظَمُ المَلائِكَةِ هو مُرَبِّي لِلنَّبِيِّ ﷺ جاءَ فَكانَ هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وجاءَ رَبُّكَ﴾ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ فالمَعْنى أنَّهُ تَنَزَّلَ مَلائِكَةُ كُلِّ سَماءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحَدِّقِينَ بِالجِنِّ والإنْسِ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: مِن صِفاتِ ذَلِكَ اليَوْمِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ [الشعراء: ٩١] قالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: جِيءَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ مَزْمُومَةً بِسَبْعِينَ ألْفَ زِمامٍ مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها حَتّى تَنْصَبَّ عَنْ يَسارِ العَرْشِ فَتَشْرُدُ شَرْدَةً لَوْ تُرِكَتْ لَأحْرَقَتْ أهْلَ الجَمْعِ، قالَ الأُصُولِيُّونَ: ومَعْلُومٌ أنَّها لا تَنْفَكُّ عَنْ مَكانِها، فالمُرادُ ﴿وبُرِّزَتِ﴾ أيْ ظَهَرَتْ حَتّى رَآها الخَلْقُ، وعَلِمَ الكافِرُ أنَّ مَصِيرَهُ إلَيْها، ثُمَّ قالَ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾ واعْلَمْ أنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ: إذا دُكَّتِ الأرْضُ وحَصَلَ كَذا وكَذا فَيَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ، وفي تَذَكُّرِهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ يَتَذَكَّرُ ما فَرَّطَ فِيهِ لِأنَّهُ حِينَ كانَ في الدُّنْيا كانَتْ هِمَّتُهُ تَحْصِيلَ الدُّنْيا، ثُمَّ إنَّهُ في الآخِرَةِ يَتَذَكَّرُ أنَّ ذَلِكَ كانَ ضَلالًا، وكانَ الواجِبُ عَلَيْهِ أنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ تَحْصِيلَ الآخِرَةِ. الثّانِي: يَتَذَكَّرُ أيْ: يَتَّعِظُ، والمَعْنى أنَّهُ ما كانَ يَتَّعِظُ في الدُّنْيا فَيَصِيرُ في الآخِرَةِ مُتَّعِظًا فَيَقُولُ: ﴿يالَيْتَنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا﴾ [الأنعام: ٢٧] . الثّالِثُ: يَتَذَكَّرُ يَتُوبُ وهو مَرْوِيٌّ عَنِ الحَسَنِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أنّى لَهُمُ الذِّكْرى وقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ١٣]: (p-١٥٩) واعْلَمْ أنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ: (يَتَذَكَّرُ) وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ تَناقُضًا فَلا بُدَّ مِن إضْمارِ المُضافِ والمَعْنى ومِن أيْنَ لَهُ مَنفَعَةُ الذِّكْرى. ويَتَفَرَّعُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ مَسْألَةٌ أُصُولِيَّهٌ، وهي أنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَنا غَيْرُ واجِبٍ عَلى اللَّهِ عَقْلًا، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هو واجِبٌ. فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلى قَوْلِنا أنَّ الآيَةَ دَلَّتْ هَهُنا عَلى أنَّ الإنْسانَ يَعْلَمُ في الآخِرَةِ أنَّ الَّذِي يَعْمَلُهُ في الدُّنْيا لَمْ يَكُنْ أصْلَحَ لَهُ وإنَّ الَّذِي تَرَكَهُ كانَ أصْلَحَ لَهُ، ومَهْما عَرَفَ ذَلِكَ لا بُدَّ وأنْ يَنْدَمَ عَلَيْهِ، وإذا حَصَلَ النَّدَمُ فَقَدْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَفى كَوْنَ تِلْكَ التَّوْبَةِ نافِعَةً بِقَوْلِهِ: ﴿وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ فَعَلِمْنا أنَّ التَّوْبَةَ لا يَجِبُ عَقْلًا قَبُولُها، فَإنْ قِيلَ: القَوْمُ إنَّما نَدِمُوا عَلى أفْعالِهِمْ لا لِوَجْهِ قُبْحِها بَلْ لِتُرَتِّبِ العِقابِ عَلَيْها، فَلا جَرَمَ ما كانَتِ التَّوْبَةُ صَحِيحَةً ؟ قُلْنا: القَوْمُ لَمّا عَلِمُوا أنَّ النَّدَمَ عَلى القَبِيحِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِوَجْهِ قُبْحِهِ حَتّى يَكُونَ نافِعًا وجَبَ أنْ يَكُونَ نَدَمُهم واقِعًا عَلى هَذا الوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ آتِينَ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ عَدَمِ القَبُولِ، فَصَحَّ قَوْلُنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب