الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلّا بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ ﴿ولا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ أكْلًا لَمًّا﴾ ﴿وتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا جَمًّا﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم تِلْكَ الشُّبْهَةَ قالَ: (كَلّا) وهو رَدْعٌ لِلْإنْسانِ عَنْ تِلْكَ المَقالَةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْنى لَمْ أبْتَلِهِ بِالغِنى لِكَرامَتِهِ عَلَيَّ، ولَمْ أبْتَلِهِ بِالفَقْرِ لِهَوانِهِ عَلَيَّ، بَلْ ذَلِكَ إمّا عَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ فَمِن مَحْضِ القَضاءِ أوِ القَدَرِ والمَشِيئَةِ، والحُكْمُ الَّذِي تَنَزَّهَ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالعِلَلِ، وإمّا عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ فَبِسَبَبِ مَصالِحٍ خَفِيَّةٍ لا يَطَّلِعُ عَلَيْها إلّا هو، فَقَدْ يُوَسِّعُ عَلى الكافِرِ لا لِكَرامَتِهِ، ويُقَتِّرُ عَلى المُؤْمِنِ لا لِهَوانِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى مِن أقْوالِهِمْ تِلْكَ الشُّبْهَةَ فَكَأنَّهُ قالَ: بَلْ لَهم فِعْلٌ هو شَرٌّ مِن هَذا القَوْلِ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى يُكْرِمُهم بِكَثْرَةِ المالِ، فَلا يُؤَدُّونَ ما يَلْزَمُهم فِيهِ مِن إكْرامِ اليَتِيمِ، فَقالَ: ﴿بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو عَمْرٍو: (يُكْرِمُونَ) وما بَعْدَهُ بِالياءِ المَنقُوطَةِ مِن تَحْتُ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الإنْسانِ وكانَ يُرادُ بِهِ الجِنْسُ والكَثْرَةُ، وهو عَلى لَفْظَةِ الغَيْبَةِ حُمِلَ ”يُكْرِمُونَ“ و”يُحِبُّونَ“ عَلَيْهِ، ومَن قَرَأ بِالتّاءِ فالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ ذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ مُقاتِلٌ: كانَ قُدامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ يَتِيمًا في حَجْرِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَكانَ يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ. واعْلَمْ أنَّ تَرْكَ إكْرامِ اليَتِيمِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: تَرْكُ بِرِّهِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ . والثّانِي: دَفْعُهُ عَنْ حَقِّهِ الثّابِتِ لَهُ في المِيراثِ وأكْلُ مالِهِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ أكْلًا لَمًّا﴾ . والثّالِثُ: أخْذُ مالِهِ مِنهُ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا جَمًّا﴾ أيْ تَأْخُذُونَ أمْوالَ اليَتامى وتَضُمُّونَها إلى أمْوالِكم، أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: ولا تُطْعِمُونَ مِسْكِينًا، والمَعْنى لا تَأْمُرُونَ بِإطْعامِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ﴾ ﴿ولا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ [الحاقة: ٣٤] ومَن قَرَأ ولا ”تَحاضُّونَ“ أرادَ تَتَحاضُّونَ فَحُذِفَ تاءُ تَتَفاعَلُونَ، والمَعْنى: ”يَحُضُّ بَعْضُكم بَعْضًا“ وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ”ولا تُحاضُّونَ“ بِضَمِّ التّاءِ مِنَ المُحاضَّةِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ أكْلًا لَمًّا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: (p-١٥٧) المَسْألَةُ الأُولى: قالُوا: أصْلُ التُّراثِ وُراثٌ، والتّاءُ تُبَدَّلُ مِنَ الواوِ المَضْمُومَةِ نَحْوَ تُجاهٍ ووُجاهٍ مِن واجَهْتُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ اللَّيْثُ: اللَّمُّ الجَمْعُ الشَّدِيدُ، ومِنهُ كَتِيبَةٌ مَلْمُومَةٌ وحَجَرٌ مَلْمُومٌ، والآكِلُ يَلُمُّ الثَّرِيدَ فَيَجْعَلُهُ لُقَمًا ثُمَّ يَأْكُلُهُ ويُقالُ لَمَمْتُ ما عَلى الخُوانِ ألُمُّهُ أيْ أكَلْتُهُ أجْمَعَ، فَمَعْنى اللَّمِّ في اللُّغَةِ الجَمْعُ، وأمّا التَّفْسِيرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: قالَ الواحِدِيُّ: والمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ في قَوْلِهِ: ﴿أكْلًا لَمًّا﴾ أيْ شَدِيدًا وهو حَلُّ مَعْنًى ولَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وتَفْسِيرُهُ أنَّ اللَّمَّ مَصْدَرٌ جُعِلَ نَعْتًا لِلْأكْلِ، والمُرادُ بِهِ الفاعِلُ أيْ: آكِلًا لامًا أيْ جائِعًا كَأنَّهم يَسْتَوْعِبُونَهُ بِالأكْلِ، قالَ الزَّجّاجُ: كانُوا يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى إسْرافًا وبِدارًا، فَقالَ اللَّهُ: ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ أكْلًا لَمًّا﴾ أيْ: تُراثَ اليَتامى ”لَمًّا“ أيْ تَلُمُّونَ جَمِيعَهُ، وقالَ الحَسَنُ: أيْ يَأْكُلُونَ نَصِيبَهم ونَصِيبَ صاحِبِهِمْ، فَيَجْمَعُونَ نَصِيبَ غَيْرِهِمْ إلى نَصِيبِهِمْ. وثانِيها: أنَّ المالَ الَّذِي يَبْقى مِنَ المَيِّتِ بَعْضُهُ حَلالٌ، وبَعْضُهُ شُبْهَةٌ وبَعْضُهُ حَرامٌ، فالوارِثُ يَلُمُّ الكُلَّ أيْ: يَضُمُّ البَعْضَ إلى البَعْضِ ويَأْخُذُ الكُلَّ ويَأْكُلُهُ. وثالِثُها: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا إلى الوارِثِ الَّذِي ظَفِرَ بِالمالِ سَهْلًا مَهْلًا مِن غَيْرِ أنْ يَعْرَقَ فِيهِ جَبِينُهُ فَيُسْرِفَ في إنْفاقِهِ ويَأْكُلَهُ أكْلًا لَمًّا واسِعًا جامِعًا بَيْنَ ألْوانِ المُشْتَهَياتِ مِنَ الأطْعِمَةِ والأشْرِبَةِ والفَواكِهِ، كَما يَفْعَلُهُ الوُرّاثُ الباطِلُونَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا جَمًّا﴾ فاعْلَمْ أنَّ الجَمَّ هو الكَثْرَةُ يُقالُ: جَمَّ الشَّيْءُ يَجُمُّ جُمُومًا يُقالُ ذَلِكَ في المالِ وغَيْرِهِ فَهو شَيْءٌ جَمٌّ وجامٌّ وقالَ أبُو عَمْرٍو جَمَّ يَجُمُ أيْ يَكْثُرُ، والمَعْنى: ويُحِبُّونَ المالَ حُبًّا كَثِيرًا شَدِيدًا، فَبَيَّنَ أنَّ حِرْصَهم عَلى الدُّنْيا فَقَطْ وأنَّهم عادِلُونَ عَنْ أمْرِ الآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب