الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ﴾ ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿فَأمّا الإنْسانُ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَبِالمِرْصادِ في الآخِرَةِ، فَلا يُرِيدُ إلّا السَّعْيَ لِلْآخِرَةِ، فَأمّا الإنْسانُ فَإنَّهُ لا يُهِمُّهُ إلّا الدُّنْيا ولَذّاتُها وشَهَواتُها، فَإنْ وجَدَ الرّاحَةَ في الدُّنْيا يَقُولُ: رَبِّي أكْرَمَنِي، وإنْ لَمْ يَجِدْ هَذِهِ الرّاحَةَ يَقُولُ: رَبِّي أهانَنِي، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في صِفَةِ الكُفّارِ: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ [الروم: ٧] وقالَ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ﴾ [الحج: ١١] وهَذا خَطَأٌ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ سَعادَةَ الدُّنْيا وشَقاوَتَها في مُقابَلَةِ ما في الآخِرَةِ مِنَ السَّعادَةِ والشَّقاوَةِ كالقَطْرَةِ في البَحْرِ، فالمُتَنَعِّمُ في الدُّنْيا لَوْ كانَ شَقِيًّا في الآخِرَةِ فَذاكَ التَّنَعُّمُ لَيْسَ بِسَعادَةٍ، والمُتَألِّمُ المُحْتاجُ في الدُّنْيا لَوْ كانَ سَعِيدًا في الآخِرَةِ فَذاكَ لَيْسَ بِإهانَةٍ ولا شَقاوَةٍ، إذِ المُتَنَعِّمُ في الدُّنْيا لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَحْكُمَ عَلى نَفْسِهِ بِالسَّعادَةِ والكَرامَةِ، والمُتَألِّمُ في الدُّنْيا لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَحْكُمَ عَلى نَفْسِهِ بِالشَّقاوَةِ والهَوانِ. وثانِيها: أنَّ حُصُولَ النِّعْمَةِ في الدُّنْيا وحُصُولَ الآلامِ في الدُّنْيا لا يَدُلُّ عَلى الِاسْتِحْقاقِ فَإنَّهُ تَعالى كَثِيرًا ما يُوَسِّعُ عَلى العُصاةِ والكَفَرَةِ، إمّا لِأنَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، وإمّا بِحُكْمِ المَصْلَحَةِ، وإمّا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِدْراجِ والمَكْرِ، وقَدْ يُضَيِّقُ عَلى الصِّدِّيقِينَ لِأضْدادِ ما ذَكَرْنا، فَلا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أنْ يَظُنَّ أنَّ ذَلِكَ لِمُجازاةٍ. وثالِثُها: أنَّ المُتَمِّمَ لا يَنْبَغِي أنْ يَغْفُلَ عَنِ العاقِبَةِ، فالأُمُورُ بِخَواتِيمِها، والفَقِيرُ والمُحْتاجُ لا يَنْبَغِي أنْ يَغْفُلَ عَمّا لِلَّهِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لا حَدَّ لَها مِن سَلامَةِ البَدَنِ والعَقْلِ والدِّينِ ودَفْعِ الآفاتِ والآلامِ الَّتِي لا حَدَّ لَها ولا حَصْرَ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يَقْضِيَ عَلى نَفْسِهِ بِالإهانَةِ مُطْلَقًا. ورابِعُها: أنَّ النَّفْسَ قَدْ ألِفَتْ هَذِهِ المَحْسُوساتِ، فَمَتى حَصَلَتْ هَذِهِ المُشْتَهَياتُ واللَّذّاتُ صَعُبَ عَلَيْها الِانْقِطاعُ عَنْها وعَدَمُ الِاسْتِغْراقِ فِيها، أمّا إذا لَمْ يَحْصُلْ لِلْإنْسانِ شَيْءٌ مِن هَذِهِ المَحْسُوساتِ رَجَعَتْ شاءَتْ أمْ أبَتْ إلى اللَّهِ، واشْتَغَلَتْ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ، فَكانَ وِجْدانُ الدُّنْيا سَبَبًا لِلْحِرْمانِ مِنَ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ القَضاءُ بِالشَّقاوَةِ والإهانَةِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّنْيا، مَعَ أنَّ ذَلِكَ أعْظَمُ الوَسائِلِ إلى أعْظَمِ السِّعاداتِ. وخامِسُها: أنَّ كَثْرَةَ المُمارَسَةِ سَبَبٌ لِتَأكُّدِ المَحَبَّةِ، وتَأكُّدَ المَحَبَّةِ سَبَبٌ لِتَأكُّدِ الألَمِ عِنْدَ الفِراقِ، فَكُلُّ مَن كانَ (p-١٥٥)وِجْدانُهُ الدُّنْيا أكْثَرَ وأدْوَمَ كانَتْ مَحَبَّتُهُ لَها أشَدَّ، فَكانَ تَألُّمُهُ بِمُفارَقَتِها عِنْدَ المَوْتِ أشَدَّ، والَّذِي بِالضِّدِّ فَبِالضِّدِّ، فَإذَنْ حُصُولُ لَذّاتِ الدُّنْيا سَبَبٌ لِلْألَمِ الشَّدِيدِ بَعْدَ المَوْتِ، وعَدَمُ حُصُولِها سَبَبٌ لِلسَّعادَةِ الشَّدِيدَةِ بَعْدَ المَوْتِ، فَكَيْفَ يُقالُ: إنَّ وِجْدانَ الدُّنْيا سَعادَةٌ وفِقْدانَها شَقاوَةٌ ؟ . واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ إنَّما تَصِحُّ مَعَ القَوْلِ بِإثْباتِ البَعْثِ رُوحانِيًّا كانَ أوْ جُسْمانِيًّا، فَأمّا مَن يُنْكِرُ البَعْثَ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ فَلا يَسْتَقِيمُ عَلى قَوْلِهِ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ، بَلْ يَلْزَمُهُ القَطْعُ بِأنَّ وِجْدانَ الدُّنْيا هو السَّعادَةُ وفِقْدانَها هو الشَّقاوَةُ، ولَكِنَّ فِيهِ دَقِيقَةً أُخْرى وهي أنَّهُ رُبَّما كانَ وِجْدانُ الدُّنْيا الكَثِيرَةِ سَبَبًا لِلْقَتْلِ والنَّهْبِ والوُقُوعِ في أنْواعِ العَذابِ، فَرُبَّما كانَ الحِرْمانُ سَبَبًا لِبَقاءِ السَّلامَةِ، فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَجُوزُ أيْضًا لِمُنْكِرِ البَعْثِ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ أنْ يَقْضِيَ عَلى صاحِبِ الدُّنْيا بِالسَّعادَةِ وعَلى فاقِدِها بِالهَوانِ، فَرُبَّما يَنْكَشِفُ لَهُ أنَّ الحالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالضِّدِّ. وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿فَأمّا الإنْسانُ﴾ المُرادُ مِنهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ أوِ الجِنْسُ ؟ الجَوابُ: فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وأبُو حُذَيْفَةَ بْنُ المُغِيرَةِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: هو أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وقالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِهَذا الوَصْفِ وهو الكافِرُ الجاحِدُ لِيَوْمِ الجَزاءِ. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ سَمّى بَسْطَ الرِّزْقِ وتَقْدِيرَهُ ابْتِلاءً ؟ الجَوابُ: لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما اخْتِبارٌ لِلْعَبْدِ، فَإذا بُسِطَ لَهُ فَقَدِ اخْتُبِرَ حالُهُ أيَشْكُرُ أمْ يَكْفُرُ، وإذا قُدِرَ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتُبِرَ حالُهُ أيَصْبِرُ أمْ يَجْزَعُ، فالحِكْمَةُ فِيهِما واحِدَةٌ، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] . السُّؤالُ الثّالِثُ: لَمّا قالَ: ﴿فَأكْرَمَهُ﴾ فَقَدْ صَحَّ أنَّهُ أكْرَمَهُ وأثْبَتَ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا حَكى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿رَبِّي أكْرَمَنِ﴾ ذَمَّهُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَهُما ؟ والجَوابُ: لِأنَّ كَلِمَةَ الإنْكارِ هي قَوْلُهُ: (كَلّا) فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّها مُخْتَصَّةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّي أهانَنِ﴾ سَلَّمْنا أنَّ الإنْكارَ عائِدٌ إلَيْهِما مَعًا ولَكِنْ فِيهِ وُجُوهٌ ثَلاثَةٌ: أحَدُها: أنَّهُ اعْتَقَدَ حُصُولَ الِاسْتِحْقاقِ في ذَلِكَ الإكْرامِ. الثّانِي: أنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى كانَتْ حاصِلَةً قَبْلَ وِجْدانِ المالِ، وهي نِعْمَةُ سَلامَةِ البَدَنِ والعَقْلِ والدِّينِ، فَلَمّا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالنِّعْمَةِ إلّا عِنْدَ وِجْدانِ المالِ، عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِن ذَلِكَ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، بَلِ التَّصَلُّفُ بِالدُّنْيا والتَّكَثُّرُ بِالأمْوالِ والأوْلادِ. الثّالِثُ: أنَّ تَصَلُّفَهُ بِنِعْمَةِ الدُّنْيا وإعْراضَهُ عَنْ ذِكْرِ نِعْمَةِ الآخِرَةِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ، فَلا جَرَمَ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ عَلى ما حَكى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ، فَقالَ: ﴿ودَخَلَ جَنَّتَهُ وهو ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أظُنُّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدًا﴾ ﴿وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ [الكهف: ٣٥- ٣٦] إلى قَوْلِهِ: ﴿أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ﴾ [الكهف: ٣٧] . السُّؤالُ الرّابِعُ: لِمَ قالَ في القِسْمِ الأوَّلِ: ﴿إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ﴾ وفي القِسْمِ الثّانِي: ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ فَذَكَرَ الأوَّلَ بِالفاءِ والثّانِيَ بِالواوِ ؟ والجَوابُ: لِأنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سابِقَةٌ عَلى غَضَبِهِ وابْتِلاءَهُ بِالنِّعَمِ سابِقٌ عَلى ابْتِلائِهِ بِإنْزالِ الآلامِ، فالفاءُ تَدُلُّ عَلى كَثْرَةِ ذَلِكَ القِسْمِ وقَبِلَهُ الثّانِي عَلى ما قالَ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [إبراهيم: ٣٤] . السُّؤالُ الخامِسُ: لَمّا قالَ في القِسْمِ الأوَّلِ: ﴿فَأكْرَمَهُ﴾، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ﴾ يَجِبُ أنْ يَقُولَ في القِسْمِ الثّانِي: ”فَأهانَهُ“ فَيَقُولُ: ﴿رَبِّي أهانَنِ﴾ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، والجَوابُ: لِأنَّهُ في قَوْلِهِ: (أكْرَمَنِ) (p-١٥٦)صادِقٌ وفي قَوْلِهِ: (أهانَنِ) غَيْرُ صادِقٍ فَهو ظَنَّ قِلَّةَ الدُّنْيا وتَقْتِيرَها إهانَةً، وهَذا جَهْلٌ واعْتِقادٌ فاسِدٌ، فَكَيْفَ يَحْكِي اللَّهُ سُبْحانَهُ ذَلِكَ عَنْهُ. السُّؤالُ السّادِسُ: ما مَعْنى قَوْلِهِ: ”فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ“ ؟ الجَوابُ: ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِأنْ جَعَلَهُ عَلى مِقْدارِ البُلْغَةِ، وقُرِئَ ”فَقَدَرَ“ عَلى التَّخْفِيفِ وبِالتَّشْدِيدِ أيْ قَتَّرَ، ”وأكْرَمَن“ ”وأهانَنْ“ بِسُكُونِ النُّونِ في الوَقْفِ فِيمَن تَرَكَ الياءَ في الدَّرَجِ مُكْتَفِيًا مِنها بِالكَسْرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب