الباحث القرآني

وأمّا مَشْرُوبُهم فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُسْقى مِن عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ الآنِي الَّذِي قَدِ انْتَهى حَرُّهُ مِنَ الإيناءِ بِمَعْنى التَّأْخِيرِ. وفي الحَدِيثِ: ”«أنَّ رَجُلًا أخَّرَ حُضُورَ الجُمُعَةِ ثُمَّ تَخَطّى رِقابَ النّاسِ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: آنَيْتَ وآذَيْتَ» “ ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَها وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤] قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ حَرَّها بَلَغَ إلى حَيْثُ لَوْ وقَعَتْ مِنها قَطْرَةٌ عَلى جِبالِ الدُّنْيا لَذابَتْ. وأمّا مَطْعُومُهم فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ لَهم طَعامٌ إلّا مِن ضَرِيعٍ﴾ واخْتَلَفُوا في أنَّ الضَّرِيعَ. ما هو ؟ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: قالَ الحَسَنُ: لا أدْرِي ما الضَّرِيعُ ولَمْ أسْمَعْ فِيهِ مِنَ الصَّحابَةِ شَيْئًا. وثانِيها: رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أيْضًا أنَّهُ قالَ: الضَّرِيعُ بِمَعْنى المُضْرِعِ كالألِيمِ والسَّمِيعِ والبَدِيعِ بِمَعْنى المُؤْلِمِ والمُسْمِعِ والمُبْدِعِ، ومَعْناهُ إلّا مِن طَعامٍ يَحْمِلُهم عَلى أنْ يَضْرَعُوا ويَذِلُّوا عِنْدَ تَناوُلِهِ لِما فِيهِ مِنَ الخُشُونَةِ والمَرارَةِ والحَرارَةِ. وثالِثُها: أنَّ الضَّرِيعَ ما يَبِسَ مِنَ الشِّبْرِقِ، وهو جِنْسٌ مِنَ الشَّوْكِ تَرْعاهُ الإبِلُ ما دامَ رَطْبًا، فَإذا يَبِسَ تَحامَتْهُ وهو سُمٌّ قاتِلٌ، قالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎رَعى الشِّبْرِقَ الرَّيّانَ حَتّى إذا ذَوى وعادَ ضَرِيعًا عادَ عَنْهُ النَّحائِصُ جَمْعُ نُحُوصٍ وهي الحائِلُ مِنَ الإبِلِ، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ وأكْثَرِ أهْلِ اللُّغَةِ. ورابِعُها: قالَ الخَلِيلُ في كِتابِهِ: ويُقالُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي عَلى العَظْمِ تَحْتَ اللَّحْمِ هي الضَّرِيعُ، فَكَأنَّهُ تَعالى وصَفَهُ بِالقِلَّةِ، فَلا جَرَمَ لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ. وخامِسُها: قالَ أبُو الجَوْزاءِ: الضَّرِيعُ السَّلا، ويَقْرُبُ مِنهُ ما رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ شَجَرَةٌ ذاتُ شَوْكٍ، ثُمَّ قالَ أبُو الجَوْزاءِ: وكَيْفَ يَسْمَنُ مَن كانَ يَأْكُلُ الشَّوْكَ ! وفي الخَبَرِ: الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ في النّارِ شَبِيهُ الشَّوْكِ أمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وأنْتَنُ مِنَ الجِيفَةِ وأشَدُّ حَرًّا مِنَ النّارِ، قالَ القَفّالُ: والمَقْصِدُ مِن ذِكْرِ هَذا الشَّرابِ وهَذا الطَّعامِ بَيانُ نِهايَةِ ذُلِّهِمْ وذَلِكَ لِأنَّ القَوْمَ لَمّا أقامُوا في تِلْكَ السَّلاسِلِ والأغْلالِ تِلْكَ المُدَّةَ الطَّوِيلَةَ عِطاشًا جِياعًا، ثُمَّ أُلْقُوا في النّارِ فَرَأوْا فِيها ماءً وشَيْئًا مِنَ النَّباتِ، فَأحَبَّ أُولَئِكَ القَوْمُ تَسْكِينَ ما بِهِمْ مِنَ العَطَشِ والجُوعِ فَوَجَدُوا الماءَ حَمِيمًا لا يَرْوِي بَلْ يَشْوِي، ووَجَدُوا النَّباتَ مِمّا لا يُشْبِعُ ولا يُغْنِي مَن جُوعٍ، فَأيِسُوا وانْقَطَعَتْ أطْماعُهم في إزالَةِ ما بِهِمْ مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ، كَما قالَ: ﴿وإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كالمُهْلِ﴾ [الكهف: ٢٩] وبَيَّنَ أنَّ هَذِهِ الحالَةَ لا تَزُولُ ولا تَنْقَطِعُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنها، وهَهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: قالَ تَعالى في سُورَةِ الحاقَّةِ: ﴿فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ﴾ ﴿ولا طَعامٌ إلّا مِن غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة: ٣٦] وقالَ هَهُنا: ﴿لَيْسَ لَهم طَعامٌ إلّا مِن ضَرِيعٍ﴾ [الغاشية: ٦] والضَّرِيعُ غَيْرُ الغِسْلِينِ. والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ النّارَ دَرَكاتٌ فَمِن أهْلِ النّارِ مَن طَعامُهُ الزَّقُّومُ، ومِنهم مَن طَعامُهُ الغِسْلِينُ، (p-١٤٠)ومِنهم مَن طَعامُهُ الضَّرِيعُ، ومِنهم مَن شَرابُهُ الحَمِيمُ، ومِنهم مَن شَرابُهُ الصَّدِيدُ، لِكُلِّ بابٍ مِنهم جُزْءٌ مَقْسُومٌ. الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الغِسْلِينُ مِنَ الضَّرِيعِ ويَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: مالِي طَعامٌ إلّا مِنَ الشّاةِ، ثُمَّ يَقُولُ: مالِي طَعامٌ إلّا مِنَ اللَّبَنِ، ولا تَناقُضَ لِأنَّ اللَّبَنَ مِنَ الشّاةِ. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ يُوجَدُ النَّبْتُ في النّارِ ؟ الجَوابُ: مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: لَيْسَ المُرادُ أنَّ الضَّرِيعَ نَبْتٌ في النّارِ يَأْكُلُونَهُ، ولَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِثْلُهُ، أيْ: أنَّهم يَقْتاتُونَ بِما لا يُشْبِعُهم أوْ يُعَذَّبُونَ بِالجُوعِ كَما يُعَذَّبُ مَن قُوتُهُ الضَّرِيعُ. الثّانِي: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ النَّبْتَ يُوجَدُ في النّارِ ؟ فَإنَّهُ لَمّا لَمْ يُسْتَبْعَدْ بَقاءُ بَدَنِ الإنْسانِ مَعَ كَوْنِهِ لَحْمًا ودَمًا في النّارِ أبَدَ الآبادِ، فَكَذا هَهُنا وكَذا القَوْلُ في سَلاسِلِ النّارِ وأغْلالِها وعَقارِبِها وحَيّاتِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب