الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإلى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ أيْ رَفْعًا بَعِيدَ المَدى بِلا إمْساكٍ وبِغَيْرِ عَمَدٍ. ﴿وإلى الجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ نَصْبًا ثابِتًا فَهي راسِخَةٌ لا تَمِيلُ ولا تَزُولُ. ﴿وإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ سَطْحًا بِتَمْهِيدٍ وتَوْطِئَةٍ، فَهي مِهادٌ لِلْمُتَقَلِّبِ عَلَيْها، ومِنَ النّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذا عَلى أنَّ الأرْضَ لَيْسَتْ بِكُرَةٍ وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الكُرَةَ إذا كانَتْ في غايَةِ العَظَمَةِ يَكُونُ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنها كالسَّطْحِ، وقَرَأ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ كَيْفَ خَلَقْتُ ورَفَعْتُ ونَصَبْتُ وسَطَحْتُ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ وتاءُ الضَّمِيرِ، والتَّقْدِيرُ: فَعَلْتُها، فَحُذِفَ المَفْعُولُ. المَقامُ الثّانِي: في بَيانِ ما بَيْنَ هَذِهِ الأشْياءِ مِنَ المُناسَبَةِ اعْلَمْ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن فَسَّرَ الإبِلَ بِالسَّحابِ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ولَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ أنَّ الإبِلَ مِن أسْماءِ السَّحابِ، كالغَمامِ والمُزْنِ والرَّبابِ والغَيْمِ والغَيْنِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وإنَّما رَأى السَّحابَ مُشَبَّهًا بِالإبِلِ في كَثِيرٍ مِن أشْعارِهِمْ، فَجَوَّزَ أنْ يُرادَ بِها السَّحابُ عَلى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ والمَجازِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالمُناسِبَةُ ظاهِرَةٌ. أمّا إذا حَمَلْنا الإبِلَ عَلى مَفْهُومِهِ المَشْهُورِ، فَوَجْهُ المُناسَبَةِ بَيْنَها وبَيْنَ السَّماءِ والجِبالِ والأرْضِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ عَلى لُغَةِ العَرَبِ وكانُوا يُسافِرُونَ كَثِيرًا، لِأنَّ بَلْدَتَهم بَلْدَةٌ خالِيَةٌ مِنَ الزَّرْعِ، وكانَتْ أسْفارُهم في أكْثَرِ الأمْرِ عَلى الإبِلِ، فَكانُوا كَثِيرًا ما يَسِيرُونَ عَلَيْها في المَهامِهِ والقِفارِ مُسْتَوْحِشِينَ مُنْفَرِدِينَ عَنِ النّاسِ، ومِن شَأْنِ الإنْسانِ إذا انْفَرَدَ أنْ يُقْبِلَ عَلى التَّفَكُّرِ في الأشْياءِ، لِأنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَن يُحادِثُهُ، ولَيْسَ هُناكَ شَيْءٌ يُشْغِلُ بِهِ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِن أنْ يُشْغِلَ بالَهُ بِالفِكْرَةِ، فَإذا فَكَّرَ في ذَلِكَ الحالِ وقَعَ بَصَرُهُ أوَّلَ الأمْرِ عَلى الجَمَلِ الَّذِي رَكِبَهُ، فَيَرى مَنظَرًا عَجِيبًا، وإذا نَظَرَ إلى فَوْقُ لَمْ يَرَ غَيْرَ السَّماءِ، وإذا نَظَرَ يَمِينًا وشِمالًا لَمْ يَرَ غَيْرَ الجِبالِ، وإذا نَظَرَ إلى ما تَحْتُ لَمْ يَرَ غَيْرَ الأرْضِ، فَكَأنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِالنَّظَرِ وقْتَ الخَلْوَةِ والِانْفِرادِ عَنِ الغَيْرِ حَتّى لا تَحْمِلَهُ داعِيَةُ الكِبْرِ والحَسَدِ عَلى تَرْكِ النَّظَرِ، ثُمَّ إنَّهُ في وقْتِ الخَلْوَةِ في المَفازَةِ البَعِيدَةِ لا يَرى شَيْئًا سِوى هَذِهِ الأشْياءِ، فَلا جَرَمَ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَها في هَذِهِ الآيَةِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ جَمِيعَ المَخْلُوقاتِ دالَّةٌ عَلى الصّانِعِ إلّا أنَّها عَلى قِسْمَيْنِ: مِنها ما يَكُونُ لِلْحِكْمَةِ ولِلشَّهْوَةِ فِيها نَصِيبٌ مَعًا، ومِنها ما يَكُونُ لِلْحِكْمَةِ فِيها نَصِيبٌ، ولَيْسَ لِلشَّهْوَةِ فِيها نَصِيبٌ. والقِسْمُ الأوَّلُ: كالإنْسانِ الحَسَنِ الوَجْهِ، وبَساتِينِ النُّزْهَةِ، والذَّهَبِ والفِضَّةِ وغَيْرِها، فَهَذِهِ الأشْياءُ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلالُ بِها عَلى الصّانِعِ الحَكِيمِ، إلّا أنَّها مُتَعَلَّقُ الشَّهْوَةِ ومَطْلُوبَةٌ لِلنَّفْسِ، فَلَمْ يَأْمُرْ تَعالى بِالنَّظَرِ فِيها؛ لِأنَّهُ لَمْ يُؤْمِن عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْها وفِيها أنْ تَصِيرَ داعِيَةُ الشَّهْوَةِ غالِبَةً عَلى داعِيَةِ الحِكْمَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مانِعًا عَنْ إتْمامِ النَّظَرِ والفِكْرِ وسَبَبًا لِاسْتِغْراقِ النَّفْسِ في مَحَبَّتِهِ. (p-١٤٥) أمّا القِسْمُ الثّانِي: فَهو كالحَيَواناتِ الَّتِي لا يَكُونُ في صُورَتِها حُسْنٌ، ولَكِنْ يَكُونُ في داعِيَةِ تَرْكِيبِها حِكَمٌ بِالِغَةٌ وهي مِثْلُ الإبِلِ وغَيْرِها، إلّا أنَّ ذِكْرَ الإبِلِ هَهُنا أوْلى لِأنَّ إلْفَ العَرَبِ بِها أكْثَرُ وكَذا السَّماءُ والجِبالُ والأرْضُ، فَإنَّ دَلائِلَ الحُدُوثِ والحاجَةِ فِيها ظاهِرَةٌ، ولَيْسَ فِيها ما يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّهْوَةِ، فَلَمّا كانَ هَذا القِسْمُ بِحَيْثُ يَكْمُلُ نَصِيبُ الحِكْمَةِ فِيهِ مَعَ الأمْنِ مِن زَحْمَةِ الشَّهْوَةِ لا جَرَمَ أمَرَ اللَّهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيها، فَهَذا ما يَحْضُرُنا في هَذا المَوْضِعِ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب