الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ ﴿وإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ﴾ ﴿وإذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ ﴿وإذا رَأوْهم قالُوا إنَّ هَؤُلاءِ لَضالُّونَ﴾ ﴿وما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ﴾ ﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ﴾ ﴿عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ ﴿هَلْ ثُوِّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا وصَفَ كَرامَةَ الأبْرارِ في الآخِرَةِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قُبْحَ مُعامَلَةِ الكُفّارِ مَعَهم في الدُّنْيا في اسْتِهْزائِهِمْ وضَحِكِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ سَيَنْقَلِبُ عَلى الكُفّارِ في الآخِرَةِ، والمَقْصُودُ مِنهُ تَسْلِيَةُ المُؤْمِنِينَ وتَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في سَبَبِ النُّزُولِ وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا﴾ أكابِرُ المُشْرِكِينَ كَأبِي جَهْلٍ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ والعاصِي بْنِ وائِلٍ السَّهْمِيِّ كانُوا يَضْحَكُونَ مِن عَمّارٍ وصُهَيْبٍ وبِلالٍ وغَيْرِهِمْ مِن فُقَراءِ المُسْلِمِينَ ويَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ.
الثّانِي: جاءَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ في نَفَرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَسَخِرَ مِنهُمُ المُنافِقُونَ وضَحِكُوا وتَغامَزُوا ثُمَّ رَجَعُوا إلى أصْحابِهِمْ فَقالُوا: رَأيْنا اليَوْمَ الأصْلَعَ فَضَحِكُوا مِنهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَبْلَ أنْ يَصِلَ عَلِيٌّ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أرْبَعَةَ أشْياءَ مِنَ المُعامَلاتِ القَبِيحَةِ.
فَأوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ أيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وبِدِينِهِمْ.
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿وإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ﴾ أيْ يَتَفاعَلُونَ مِنَ الغَمْزِ، وهو الإشارَةُ بِالجَفْنِ والحاجِبِ ويَكُونُ الغَمْزُ أيْضًا بِمَعْنى العَيْبِ وغَمَزَهُ إذا عابَهُ، وما في فُلانٍ غَمِيزَةٌ أيْ ما يُعابُ بِهِ، والمَعْنى أنَّهم يُشِيرُونَ إلَيْهِمْ بِالأعْيُنِ اسْتِهْزاءً ويَعِيبُونَهم، ويَقُولُونَ: انْظُرُوا إلى هَؤُلاءِ يُتْعِبُونَ أنْفُسَهم ويَحْرِمُونَها لَذّاتِها ويُخاطِرُونَ بِأنْفُسِهِمْ في طَلَبِ ثَوابٍ لا يَتَيَقَّنُونَهُ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ مُعْجَبِينَ بِما هم فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ والمَعْصِيَةِ والتَّنَعُّمِ بِالدُّنْيا، أوْ يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِ المُسْلِمِينَ بِالسُّوءِ، قَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ: ”فَكِهِينَ“ بِغَيْرِ ألِفٍ في هَذا المَوْضِعِ وحْدَهُ، وفي سائِرِ القُرْآنِ: (فاكِهِينَ) بِالألِفِ وقَرَأ الباقُونَ فاكِهِينَ بِالألِفِ، فَقِيلَ: هُما لُغَتانِ، وقِيلَ: فاكِهِينَ أيْ مُتَنَعِّمِينَ مَشْغُولِينَ بِما هم فِيهِ مِنَ الكُفْرِ والتَّنَعُّمِ بِالدُّنْيا وفَكِهِينَ مُعْجَبِينَ.
ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا رَأوْهم قالُوا إنَّ هَؤُلاءِ لَضالُّونَ﴾ أيْ هم عَلى ضَلالٍ في تَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الحاضِرَ بِسَبَبِ طَلَبِ ثَوابٍ لا يُدْرى هَلْ لَهُ وُجُودٌ أمْ لا، وهَذا آخِرُ ما حَكاهُ تَعالى عَنِ الكُفّارِ.
(p-٩٣)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ﴾ يَعْنِي أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَبْعَثْ هَؤُلاءِ الكُفّارَ رُقَباءَ عَلى المُؤْمِنِينَ، يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أحْوالَهم ويَتَفَقَّدُونَ ما يَصْنَعُونَهُ مِن حَقٍّ أوْ باطِلٍ، فَيَعِيبُونَ عَلَيْهِمْ ما يَعْتَقِدُونَهُ ضَلالًا، بَلْ إنَّما أُمِرُوا بِإصْلاحِ أنْفُسِهِمْ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: المَعْنى أنَّ في هَذا اليَوْمِ الَّذِي هو يَوْمُ تَصْقَعُ الأعْمالُ والمُحاسَبَةُ يَضْحَكُ المُؤْمِنُ مِنَ الكافِرِ، وفي سَبَبِ هَذا الضَّحِكِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّ الكُفّارَ كانُوا يَضْحَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا بِسَبَبِ ما هم فِيهِ مِنَ الضُّرِّ والبُؤْسِ، وفي الآخِرَةِ يَضْحَكُ المُؤْمِنُونَ عَلى الكافِرِينَ بِسَبَبِ ما هم فِيهِ مِن أنْواعِ العَذابِ والبَلاءِ، ولِأنَّهم عَلِمُوا أنَّهم كانُوا في الدُّنْيا عَلى غَيْرِ شَيْءٍ، وأنَّهم قَدْ باعُوا باقِيًا بِفانٍ ويَرَوْنَ أنْفُسَهم قَدْ فازُوا بِالنَّعِيمِ المُقِيمِ ونالُوا بِالتَّعَبِ اليَسِيرِ راحَةَ الأبَدِ، ودَخَلُوا الجَنَّةَ فَأُجْلِسُوا عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ في النّارِ وكَيْفَ يَصْطَرِخُونَ فِيها ويَدْعُونَ بِالوَيْلِ والثُّبُورِ ويَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا.
الثّانِي: قالَ أبُو صالِحٍ: يُقالُ لِأهْلِ النّارِ وهم فِيها اخْرُجُوا وتُفْتَحُ لَهم أبْوابُها، فَإذا رَأوْها قَدْ فُتِحَتْ أقْبَلُوا إلَيْها يُرِيدُونَ الخُرُوجَ، والمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ عَلى الأرائِكِ، فَإذا انْتَهَوْا إلى أبْوابِها غُلِّقَتْ دُونَهم، فَذاكَ هو سَبَبُ الضَّحِكِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ حالٌ مِن يَضْحَكُونَ أيْ يَضْحَكُونَ مِنهم ناظِرِينَ إلَيْهِمْ وإلى ما هم فِيهِ مِنَ الهَوانِ والصَّغارِ بَعْدَ العِزَّةِ والكِبْرِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ثُوِّبَ بِمَعْنى أُثِيبَ أيِ اللَّهُ المُثِيبُ، قالَ أوْسٌ:
؎سَأجْزِيكِ أوْ يَجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ وحَسْبُكِ أنْ يُثْنى عَلَيْكِ وتُحْمَدِي
قالَ المُبَرِّدُ: وهو فُعِّلَ مِنَ الثَّوابِ، وهو ما يَثُوبُ أيْ يَرْجِعُ إلى فاعِلِهِ جَزاءَ ما عَمِلَهُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، والثَّوابُ يُسْتَعْمَلُ في المُكافَأةِ بِالشَّرِّ، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ:
؎ألا أبْلِغْ أبا حَسَنٍ رَسُولًا ∗∗∗ فَما لَكَ لا تَجِيءُ إلى الثَّوابِ
والأوْلى أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ: ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] والمَعْنى كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ جازَيْنا الكُفّارَ عَلى عَمَلِهِمُ الَّذِي كانَ مِن جُمْلَتِهِ ضَحِكُهم بِكم واسْتِهْزاؤُهم بِطَرِيقَتِكم، كَما جازَيْناكم عَلى أعْمالِكُمُ الصّالِحَةِ ؟ فَيَكُونُ هَذا القَوْلُ زائِدًا في سُرُورِهِمْ، لِأنَّهُ يَقْتَضِي زِيادَةً في تَعْظِيمِهِمْ والِاسْتِخْفافَ بِأعْدائِهِمْ، والمَقْصُودُ مِنها أحْوالُ القِيامَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":29,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُوا۟ كَانُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یَضۡحَكُونَ","وَإِذَا مَرُّوا۟ بِهِمۡ یَتَغَامَزُونَ","وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُوا۟ فَكِهِینَ","وَإِذَا رَأَوۡهُمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ لَضَاۤلُّونَ","وَمَاۤ أُرۡسِلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ حَـٰفِظِینَ","فَٱلۡیَوۡمَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ یَضۡحَكُونَ","عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِ یَنظُرُونَ","هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ"],"ayah":"وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُوا۟ فَكِهِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











