الباحث القرآني

(p-٨٠)[ سُورَةُ المُطَفِّفِينَ ] ثَلاثُونَ وسِتُّ آياتٍ مَكِّيَّةٍ ﷽ ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ ﷽ ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ اتِّصالَ أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ ظاهِرٌ، لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَوْمٌ مِن صِفَتِهِ أنَّهُ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا والأمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي تَهْدِيدًا عَظِيمًا لِلْعُصاةِ، فَلِهَذا أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ والمُرادُ الزَّجْرُ عَنِ التَّطْفِيفِ، وهو البَخْسُ في المِكْيالِ والمِيزانِ بِالشَّيْءِ القَلِيلِ عَلى سَبِيلِ الخُفْيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الكَثِيرَ يَظْهَرُ فَيُمْنَعُ مِنهُ، وذَلِكَ القَلِيلُ إنْ ظَهَرَ أيْضًا مُنِعَ مِنهُ، فَعَلِمْنا أنَّ التَّطْفِيفَ هو البَخْسُ في المِكْيالِ والمِيزانِ بِالشَّيْءِ القَلِيلِ عَلى سَبِيلِ الخُفْيَةِ، وهاهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الوَيْلُ، كَلِمَةٌ تُذْكَرُ عِنْدَ وُقُوعِ البَلاءِ، يُقالُ: ويْلٌ لَكَ، ووَيْلٌ عَلَيْكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في اشْتِقاقِ لَفْظِ المُطَفِّفِ قَوْلانِ. الأوَّلُ: أنَّ طَفَّ الشَّيْءِ هو جانِبُهُ وحَرْفُهُ، يُقالُ: طَفَّ الوادِي والإناءُ، إذا بَلَغَ الشَّيْءُ الَّذِي فِيهِ حَرْفَهُ ولَمْ يَمْتَلِئْ فَهو طِفافُهُ وطَفافُهُ وطَفَفُهُ، ويُقالُ: هَذا طَفُّ المِكْيالِ وطَفافُهُ، إذا قارَبَ مَلْأُهُ لَكِنَّهُ بَعْدُ لَمْ يَمْتَلِئْ، ولِهَذا قِيلَ: لِلَّذِي يُسِيءُ الكَيْلَ ولا يُوَفِّيهِ مُطَفِّفٌ، يَعْنِي أنَّهُ إنَّما يَبْلُغُ الطِّفافَ. والثّانِي: وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ: أنَّهُ إنَّما قِيلَ لِلَّذِي يَنْقُصُ المِكْيالَ والمِيزانَ مُطَفِّفٌ، لِأنَّهُ يَكُونُ الَّذِي لا يَسْرِقُ في المِكْيالِ والمِيزانِ إلّا الشَّيْءَ اليَسِيرَ الطَّفِيفَ، وهاهُنا سُؤالاتٌ: الأوَّلُ: وهو أنَّ الِاكْتِيالَ الأخْذُ بِالكَيْلِ، كالِاتِّزانِ الأخْذُ بِالوَزْنِ، ثُمَّ إنَّ اللُّغَةَ المُعْتادَةَ أنْ يُقالَ: اكْتَلْتُ مِن فُلانٍ، ولا يُقالُ: اكْتَلْتُ عَلى فُلانٍ، فَما الوَجْهُ فِيهِ هاهُنا ؟ . الجَوابُ: مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: لَمّا كانَ اكْتِيالُهم مِنَ النّاسِ اكْتِيالًا فِيهِ إضْرارٌ بِهِمْ وتَحامُلٌ عَلَيْهِمْ، أُقِيمَ عَلى مُقامٍ مِنَ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ. الثّانِي: قالَ الفَرّاءُ: المُرادُ اكْتالُوا مِنَ النّاسِ، وعَلى ومِن في هَذا المَوْضِعِ (p-٨١)يَعْتَقِبانِ لِأنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَإذا قالَ اكْتَلْتُ عَلَيْكَ، فَكَأنَّهُ قالَ أخَذْتُ ما عَلَيْكَ، وإذا قالَ اكْتَلْتُ مِنكَ، فَهو كَقَوْلِهِ اسْتَوْفَيْتُ مِنكَ. السُّؤالُ الثّانِي: هو أنَّ اللُّغَةَ المُعْتادَةَ أنْ يُقالَ كالُوا لَهم، أوْ وزَنُوا لَهم، ولا يُقالُ كِلْتُهُ ووَزَنْتُهُ فَما وجْهُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهُمْ﴾ ؟ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ ﴿كالُوهم أوْ وزَنُوهُمْ﴾ كالُوا لَهم أوْ وزَنُوا لَهم، فَحُذِفَ الجارُّ وأُوصِلَ الفِعْلُ. قالَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ: وهَذا مِن كَلامِ أهْلِ الحِجازِ، ومَن جاوَرَهم يَقُولُونَ: زِنِي كَذا، كِلِي كَذا، ويَقُولُونَ صِدْتُكَ وصِدْتُ لَكَ، وكَسَبْتُكَ وكَسَبْتُ لَكَ، فَعَلى هَذا: الكِنايَةُ في كالُوهم ووَزَنُوهم في مَوْضِعِ نَصْبٍ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ المُضافِ، وإقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ، والتَّقْدِيرُ: وإذا كالُوا مَكِيلَهم، أوْ وزَنُوا مَوْزُونَهم. الثّالِثُ: يُرْوى عَنْ عِيسى بْنِ عُمَرَ وحَمْزَةَ أنَّهُما كانا يَجْعَلانِ الضَّمِيرَيْنِ تَوْكِيدًا لِما في كالُوا ويَقِفانِ عِنْدَ الواوَيْنِ وُقَيْفَةً يُبَيِّنانِ بِها ما أرادا، وزَعَمالفَرّاءُ والزَّجّاجُ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ بِمَعْنى كالُوهم لَكانَ في المُصْحَفِ ألِفٌ مُثْبَتَةٌ قَبْلَ هم، واعْتَرَضَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَلى هَذِهِ الحُجَّةِ، فَقالَ إنَّ خَطَّ المُصْحَفِ لَمْ يُراعِ في كَثِيرٍ مِنهُ حَدَّ المُصْطَلَحِ عَلَيْهِ في عِلْمِ الخَطِّ. والجَوابُ: أنَّ إثْباتَ هَذِهِ الألِفِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْتادًا في زَمانِ الصَّحابَةِ فَكانَ يَجِبُ إثْباتُها في سائِرِ الأعْصارِ، لِما أنّا نَعْلَمُ مُبالَغَتَهم في ذَلِكَ، فَثَبَتَ أنَّ إثْباتَ هَذِهِ الألِفِ كانَ مُعْتادًا في زَمانِ الصَّحابَةِ فَكانَ يَجِبُ إثْباتُهُ هاهُنا. السُّؤالُ الثّالِثُ: ما السَّبَبُ في أنَّهُ قالَ: ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا﴾ ولَمْ يَقُلْ إذا اتَّزَنُوا، ثُمَّ قالَ: ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهُمْ﴾ فَجَمَعَ بَيْنَهُما ؟ أنَّ الكَيْلَ والوَزْنَ بِهِما الشِّراءُ والبَيْعُ فَأحَدُهُما يَدُلُّ عَلى الآخَرِ. السُّؤالُ الرّابِعُ: اللُّغَةُ المُعْتادَةُ أنْ يُقالَ خَسَرْتُهُ، فَما الوَجْهُ في أخْسَرْتُهُ ؟ الجَوابُ قالَ الزَّجّاجُ: أخْسَرْتُ المِيزانَ وخَسَرْتُهُ سَواءٌ أيْ نَقَصْتُهُ، وعَنِ المُؤَرِّجِ يُخْسِرُونَ يَنْقُصُونَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ المَدِينَةَ كانُوا مِن أبْخَسِ النّاسِ كَيْلًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، فَأحْسَنُوا الكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وقِيلَ كانَ أهْلُ المَدِينَةِ تُجّارًا يُطَفِّفُونَ وكانَتْ بِياعاتُهُمُ المُنابَذَةَ والمُلامَسَةَ والمُخاطَرَةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَرَأها عَلَيْهِمْ، وقالَ ”خَمْسٌ بِخَمْسٍ“، قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ، وما خَمْسٌ بِخَمْسٍ ؟ قالَ ما نَقَضَ قَوْمٌ العَهْدَ إلّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهم، وما حَكَمُوا بِغَيْرِ ما أنْزَلَ اللَّهُ إلّا فَشا فِيهِمُ الفَقْرُ، وما ظَهَرَتْ فِيهِمُ الفاحِشَةُ إلّا فَشا فِيهِمُ المَوْتُ، ولا طَفَّفُوا الكَيْلَ إلّا مُنِعُوا النَّباتَ وأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، ولا مَنَعُوا الزَّكاةَ إلّا حُبِسَ عَنْهُمُ المَطَرُ ”. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الذَّمُّ إنَّما لَحِقَهم بِمَجْمُوعِ أنَّهم يَأْخُذُونَ زائِدًا، ويَدْفَعُونَ ناقِصًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ العُلَماءُ، فَقالَ بَعْضُهم: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى الوَعِيدِ، فَلا تَتَناوَلُ إلّا إذا بَلَغَ التَّطْفِيفُ حَدَّ الكَثِيرِ، وهو نِصابُ السَّرِقَةِ، وقالَ آخَرُونَ: بَلْ ما يَصْغُرُ ويَكْبُرُ دَخَلَ تَحْتَ الوَعِيدِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أنْ لا يَكُونَ مَعَهُ تَوْبَةٌ ولا طاعَةٌ أعْظَمُ مِنها، وهَذا هو الأصَحُّ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ أصْحابُ الوَعِيدِ بِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ، قالُوا: وهَذِهِ الآيَةُ وارِدَةٌ في أهْلِ الصَّلاةِ لا في الكُفّارِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ. الأوَلُ: أنَّهُ لَوْ كانَ كافِرًا لَكانَ ذَلِكَ الكُفْرُ أوْلى بِاقْتِضاءِ هَذا الوَيْلِ مِنَ (p-٨٢)التَّطَفِيفِ، فَلَمْ يَكُنْ حِينَئْذٍ لِلتَّطْفِيفِ أثَرٌ في هَذا الوَيْلِ، لَكِنَّ الآيَةَ دالَةٌ عَلى أنَّ المُوجِبَ لِهَذا الوَيْلِ هو التَّطْفِيفُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: لِلْمُخاطَبِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿ألا يَظُنُّ أُولَئِكَ أنَّهم مَبْعُوثُونَ﴾ ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [المطففين: ٥، ٤] فَكَأنَّهُ تَعالى هَدَّدَ المُطَّفِفِينَ بِعَذابِ يَوْمِ القِيامَةِ، والتَّهْدِيدُ بِهَذا لا يَحْصُلُ إلّا مَعَ المُؤْمِنِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الوَجْهَيْنِ أنَّ هَذا الوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِأهْلِ الصَّلاةِ، والجَوابُ: عَنْهُ ما تَقَدَّمَ مِرارًا، ومِن لَواحِقِ هَذِهِ المَسْألَةِ أنَّ هَذا الوَعِيدَ يَتَناوَلُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ ومَن يَعْزِمُ عَلَيْهِ إذِ العَزْمُ عَلَيْهِ أيْضًا مِنَ الكَبائِرِ. واعْلَمْ أنَّ أمْرَ المِكْيالِ والمِيزانِ عَظِيمٌ، وذَلِكَ لِأنَّ عامَّةَ الخَلْقِ يَحْتاجُونَ إلى المُعامَلاتِ وهي مَبْنِيَّةٌ عَلى أمْرِ المِكْيالِ والمِيزانِ، فَلِهَذا السَّبَبِ عَظَّمَ اللَّهُ أمْرَهُ فَقالَ: ﴿والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٧] ﴿ألّا تَطْغَوْا في المِيزانِ﴾ [الرحمن: ٨] ﴿وأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٩] وقالَ: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] وعَنْ قَتادَةَ:“ أوْفِ يا ابْنَ آدَمَ الكَيْلَ كَما تُحِبُّ أنْ يُوَفّى لَكَ، واعْدِلْ كَما تُحِبُّ أنْ يُعْدَلَ لَكَ " وعَنِ الفُضَيْلِ: بَخْسُ المِيزانِ سَوادُ الوَجْهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وقالَ أعْرابِيٌّ لِعَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ: قَدْ سَمِعْتَ ما قالَ اللَّهُ تَعالى في المُطَفِّفِينَ ! أرادَ بِذَلِكَ أنَّ المُطَفِّفَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الوَعِيدُ العَظِيمُ في أخْذِ القَلِيلِ، فَما ظَنُّكَ بِنَفْسِكَ وأنْتَ تَأْخُذُ الكَثِيرَ، وتَأْخُذُ أمْوالَ المُسْلِمِينَ بِلا كَيْلٍ ولا وزْنٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب