الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ﴾ ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ ﴿مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ تِلْكَ التَّذْكِرَةَ بِأمْرَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ﴾ أيْ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ بَيِّنَةٌ ظاهِرَةٌ بِحَيْثُ لَوْ أرادُوا فَهْمَها والِاتِّعاظَ بِها والعَمَلَ بِمُوجِبِها لَقَدَرُوا عَلَيْهِ. والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ أيْ تِلْكَ التَّذْكِرَةُ مُعَدَّةٌ في هَذِهِ الصُّحُفِ المُكَرَّمَةِ، والمُرادُ مِن ذَلِكَ تَعْظِيمُ حالِ القُرْآنِ والتَّنْوِيهُ بِذِكْرِهِ، والمَعْنى أنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ في صُحُفٍ، والمُرادُ مِنَ الصُّحُفِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّها صُحُفٌ مُنْتَسَخَةٌ (p-٥٤)مِنَ اللَّوْحِ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مَرْفُوعَةٌ في السَّماءِ السّابِعَةِ أوْ مَرْفُوعَةُ المِقْدارِ مُطَهَّرَةٌ عَنْ أيْدِي الشَّياطِينِ، أوِ المُرادُ مُطَهَّرَةٌ بِسَبَبِ أنَّها لا يَمَسُّها إلّا المُطَهَّرُونَ وهُمُ المَلائِكَةُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿بِأيْدِي سَفَرَةٍ﴾ ﴿كِرامٍ بَرَرَةٍ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ المَلائِكَةَ بِثَلاثَةِ أنْواعٍ مِنَ الصِّفاتِ: أوَّلُها: أنَّهم سَفَرَةٌ، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ ومُقاتِلٌ وقَتادَةُ: هُمُ الكَتَبَةُ مِنَ المَلائِكَةِ، قالَ الزَّجّاجُ: السَّفَرَةُ الكَتَبَةُ واحِدُها سافِرٌ مِثْلُ: كَتَبَةٌ وكاتِبٌ، وإنَّما قِيلَ لِلْكَتَبَةِ سَفَرَةٌ ولِلْكاتِبِ سافِرٌ، لِأنَّ مَعْناهُ أنَّهُ الَّذِي يُبَيِّنُ الشَّيْءَ ويُوَضِّحُهُ، يُقالُ: سَفَرَتِ المَرْأةُ إذا كَشَفَتْ عَنْ وجْهِها. القَوْلُ الثّانِي: وهو اخْتِيارُ الفَرّاءِ أنَّ السَّفَرَةَ هاهُنا هُمُ المَلائِكَةُ الَّذِينَ يَسْفَرُونَ بِالوَحْيِ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ رُسُلِهِ، واحِدُها سافِرٌ، والعَرَبُ تَقُولُ: سَفَرْتُ بَيْنَ القَوْمِ إذا أصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، فَجُعِلَتِ المَلائِكَةُ إذا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وتَأْدِيَتِهِ، كالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلَحُ بِهِ بَيْنَ القَوْمِ، وأنْشَدُوا: ؎وما أدَعُ السِّفارَةَ بَيْنَ قَوْمِي وما أمْشِي بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ واعْلَمْ أنَّ أصْلَ السِّفارَةِ مِنَ الكَشْفِ، والكاتِبُ إنَّما يُسَمّى سافِرًا لِأنَّهُ يَكْشِفُ، والسَّفِيرُ إنَّما سُمِّيَ سَفِيرًا أيْضًا لِأنَّهُ يَكْشِفُ، وهَؤُلاءِ المَلائِكَةُ لَمّا كانُوا وسائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ البَشَرِ في البَيانِ والهِدايَةِ والعِلْمِ، لا جَرَمَ سُمُّوا سَفَرَةً. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ لِهَؤُلاءِ المَلائِكَةِ أنَّهم كِرامٌ. قالَ مُقاتِلٌ: كِرامٌ عَلى رَبِّهِمْ، وقالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ أنَّهم يَتَكَرَّمُونَ أنْ يَكُونُوا مَعَ ابْنِ آدَمَ إذا خَلا مَعَ زَوْجَتِهِ لِلْجِماعِ وعِنْدَ قَضاءِ الحاجَةِ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهم: ﴿بَرَرَةٍ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: مُطِيعِينَ، وبَرَرَةٌ جَمْعُ بارٍّ، وقالَ الفَرّاءُ: لا يَقُولُونَ فَعَلَةٌ لِلْجَمْعِ إلّا والواحِدُ مِنهُ فاعِلٌ مِثْلُ: كافِرٌ وكَفَرَةٌ، وفاجِرٌ وفَجَرَةٌ. القَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ الصُّحُفِ: أنَّها هي صُحُفُ الأنْبِياءِ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذا لَفي الصُّحُفِ الأُولى﴾ [الأعْلى: ١٨] يَعْنِي أنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ في صُحُفِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، والسَّفَرَةُ الكِرامُ البَرَرَةُ هم أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ-، وقِيلَ هُمُ القُرّاءُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾ ﴿بِأيْدِي سَفَرَةٍ﴾ يَقْتَضِي أنَّ طَهارَةَ تِلْكَ الصُّحُفِ إنَّما حَصَلَتْ بِأيْدِي هَؤُلاءِ السَّفَرَةِ، فَقالَ القَفّالُ في تَقْرِيرِهِ: لَمّا كانَ لا يَمَسُّها إلّا المَلائِكَةُ المُطَهَّرُونَ أُضِيفَ التَّطْهِيرُ إلَيْها لِطَهارَةِ مَن يَمَسُّها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب