الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِمَن في أيْدِيكم مِنَ الأسْرى إنْ يَعْلَمِ اللَّهُ في قُلُوبِكم خَيْرًا يُؤْتِكم خَيْرًا مِمّا أُخِذَ مِنكم ويَغْفِرْ لَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأمْكَنَ مِنهم واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّ الرَّسُولَ لَمّا أخَذَ الفِداءَ مِنَ الأُسارى وشَقَّ عَلَيْهِمْ أخْذُ أمْوالِهِمْ مِنهم، ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ اسْتِمالَةً لَهم فَقالَ:( «﴿يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِمَن في أيْدِيكم مِنَ الأسْرى﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: نَزَلَتْ في العَبّاسِ، وعَقِيلِ بْنِ أبِي طالِبٍ، ونَوْفَلِ بْنِ الحارِثِ، كانَ العَبّاسُ أسِيرًا يَوْمَ بَدْرٍ ومَعَهُ عِشْرُونَ أُوقِيَّةً مِنَ الذَّهَبِ أخْرَجَها لِيُطْعِمَ النّاسَ، وكانَ أحَدَ العَشَرَةِ الَّذِينَ ضَمِنُوا الطَّعامَ لِأهْلِ بَدْرٍ فَلَمْ تَبْلُغْهُ التَّوْبَةُ حَتّى أُسِرَ، فَقالَ العَبّاسُ: كُنْتُ مُسْلِمًا إلّا أنَّهم أكْرَهُونِي، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”إنْ يَكُنْ ما تَذْكُرُهُ حَقًّا فاللَّهُ يَجْزِيكَ“ فَأمّا ظاهِرُ أمْرِكَ فَقَدْ كانَ عَلَيْنا، قالَ العَبّاسُ: فَكَلَّمْتُ رَسُولَ اللَّهِ أنْ يَرُدَّ ذَلِكَ الذَّهَبَ عَلَيَّ، فَقالَ: ”أمّا شَيْءٌ خَرَجْتَ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَيْنا فَلا“ قالَ: وكَلَّفَنِي الرَّسُولُ فِداءَ ابْنِ أخِي عَقِيلِ بْنِ أبِي طالِبٍ عِشْرِينَ أُوقِيَّةً، وفِداءَ نَوْفَلِ بْنِ (p-١٦٣)الحارِثِ»، فَقالَ العَبّاسُ: تَرَكْتَنِي يا مُحَمَّدُ أتَكَفَّفُ قُرَيْشًا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”أيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي دَفَعْتَهُ إلى أُمِّ الفَضْلِ وقْتَ خُرُوجِكَ مِن مَكَّةَ وقُلْتَ لَها: لا أدْرِي ما يُصِيبُنِي، فَإنْ حَدَثَ بِي حادِثٌ فَهو لَكِ ولِعَبْدِ اللَّهِ وعُبَيْدِ اللَّهِ والفَضْلِ“ فَقالَ العَبّاسُ: وما يُدْرِيكَ ؟ قالَ: ”أخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي“ قالَ العَبّاسُ: فَأنا أشْهَدُ أنَّكَ صادِقٌ وأنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّكَ عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، واللَّهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أحَدٌ إلّا اللَّهُ، ولَقَدْ دَفَعْتُهُ إلَيْها في سَوادِ اللَّيْلِ، ولَقَدْ كُنْتُ مُرْتابًا في أمْرِكَ، فَأمّا إذْ أخْبَرْتَنِي بِذَلِكَ فَلا رَيْبَ، قالَ العَبّاسُ: فَأبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِن ذَلِكَ، لِي الآنَ عِشْرُونَ عَبْدًا، وإنَّ أدْناهم لَيَضْرِبُ في عِشْرِينَ ألْفًا، وأعْطانِي زَمْزَمَ، وما أُحِبُّ أنَّ لِيَ بِها جَمِيعَ أمْوالِ أهْلِ مَكَّةَ، وأنا أنْتَظِرُ المَغْفِرَةَ مِن رَبِّي، ورُوِيَ أنَّهُ «قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ مالُ البَحْرَيْنِ ثَمانُونَ ألْفًا، فَتَوَضَّأ لِصَلاةِ الظُّهْرِ وما صَلّى حَتّى فَرَّقَهُ، وأمَرَ العَبّاسَ أنْ يَأْخُذَ مِنهُ، فَأخَذَ ما قَدَرَ عَلى حَمْلِهِ، وكانَ يَقُولُ: هَذا خَيْرٌ مِمّا أُخِذَ مِنِّي، وأنا أرْجُو المَغْفِرَةَ»، واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في أنَّ الآيَةَ نازِلَةٌ في العَبّاسِ خاصَّةً، أوْ في جُمْلَةِ الأُسارى، قالَ قَوْمٌ: إنَّها في العَبّاسِ خاصَّةً، وقالَ آخَرُونَ: إنَّها نَزَلَتْ في الكُلِّ، وهَذا أوْلى؛ لِأنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي العُمُومَ مِن سِتَّةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ لِمَن في أيْدِيكُمْ﴾ . وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿مِنَ الأسْرى﴾ . وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾ . ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿يُؤْتِكم خَيْرًا﴾ . وخامِسُها: قَوْلُهُ: ﴿مِمّا أُخِذَ مِنكُمْ﴾ . وسادِسُها: قَوْلُهُ: ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ . فَلَمّا دَلَّتْ هَذِهِ الألْفاظُ السِّتَّةُ عَلى العُمُومِ، فَما المُوجِبُ لِلتَّخْصِيصِ ؟ أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ هو العَبّاسُ، إلّا أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ يَعْلَمِ اللَّهُ في قُلُوبِكم خَيْرًا﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذا الخَيْرِ: الإيمانُ والعَزْمُ عَلى طاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ في جَمِيعِ التَّكالِيفِ، والتَّوْبَةُ عَنِ الكُفْرِ وعَنْ جَمِيعِ المَعاصِي، ويَدْخُلُ فِيهِ العَزْمُ عَلى نُصْرَةِ الرَّسُولِ، والتَّوْبَةُ عَنْ مُحارَبَتِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ هِشامُ بْنُ الحَكَمِ عَلى قَوْلِهِ: إنَّهُ تَعالى لا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إلّا عِنْدَ حُدُوثِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنْ يَعْلَمِ اللَّهُ في قُلُوبِكم خَيْرًا﴾ فَعَلَ كَذا، وكَذا شَرْطٌ وجَزاءٌ، والشَّرْطُ هو حُصُولُ هَذا العِلْمِ، والشَّرْطُ والجَزاءُ لا يَصِحُّ وُجُودُهُما إلّا في المُسْتَقْبَلِ، وذَلِكَ يُوجِبُ حُدُوثَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى. والجَوابُ: أنَّ ظاهِرَ اللَّفْظِ وإنْ كانَ يَقْتَضِي ما ذَكَرَهُ هِشامٌ، إلّا أنَّهُ لَمّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُحْدَثًا وجَبَ أنْ يُقالَ: ذَكَرَ العِلْمَ وأرادَ بِهِ المَعْلُومَ مِن حَيْثُ إنَّهُ يَدُلُّ حُصُولُ العِلْمِ عَلى حُصُولِ المَعْلُومِ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿يُؤْتِكم خَيْرًا مِمّا أُخِذَ مِنكم ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَرَأ الحَسَنُ ”مِمّا أخَذَ مِنكم“ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ في هَذا الخَيْرِ أقْوالٌ: القَوْلُ الأوَّلُ: المُرادُ: الخُلْفُ مِمّا أُخِذَ مِنهم في الدُّنْيا، قالَ القاضِي: لِأنَّهُ تَعالى عَطَفَ عَلَيْهِ أمْرَ الآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ فَما تَقَدَّمَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ مَنافِعَ الدُّنْيا. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ المُرادُ مِنهُ إزالَةُ العِقابِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: لَمْ يَبْعُدْ أنْ (p-١٦٤)يَكُونَ المُرادُ مِن هَذا الخَيْرِ المَذْكُورِ أيْضًا الثَّوابَ والتَّفَضُّلَ في الآخِرَةِ. والقَوْلُ الثّانِي: المُرادُ مِن هَذا الخَيْرِ ثَوابُ الآخِرَةِ، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ المُرادُ مِنهُ في الآخِرَةِ، فالخَيْرُ الَّذِي تُقَدِّمُهُ يَجِبُ أيْضًا أنْ يَكُونَ في الدُّنْيا. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى الكُلِّ. فَإنْ قِيلَ: إذا حَمَلْتُمُ الخَيْرَ عَلى خَيْراتِ الدُّنْيا، فَهَلْ تَقُولُونَ إنَّ كُلَّ مَن أخْلَصَ مِنَ الأُسارى قَدْ آتاهُ اللَّهُ خَيْرًا مِمّا أُخِذَ مِنهُ ؟ قُلْنا: هَكَذا يَجِبُ أنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الآيَةِ، إلّا أنّا لا نَعْلَمُ مَنِ المُخْلِصُ بِقَلْبِهِ حَتّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْنا فِيهِ السُّؤالُ، ولا نَعْلَمُ أيْضًا مَنِ الَّذِي آتاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وقَدْ عَلِمْنا أنَّ قَلِيلَ الدُّنْيا مَعَ الإيمانِ أعْظَمُ مِن كَثِيرِ الدُّنْيا مَعَ الكُفْرِ. ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وهو تَأْكِيدٌ لِما مَضى ذِكْرُهُ مِن قَوْلِهُ: ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ والمَعْنى: كَيْفَ لا يَفِي بِوَعْدِ المَغْفِرَةِ وأنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب