الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقابِ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وأنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأهْلَكْناهم بِذُنُوبِهِمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ ما أنْزَلَهُ بِأهْلِ بَدْرٍ مِنَ الكُفّارِ عاجِلًا وآجِلًا كَما شَرَحْناهُ أتْبَعَهُ بِأنْ بَيَّنَ أنَّ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ وسُنَّتُهُ في الكُلِّ، فَقالَ: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ والمَعْنى: عادَةُ هَؤُلاءِ في كُفْرِهِمْ كَعادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ في كُفْرِهِمْ، فَجُوزِيَ هَؤُلاءِ بِالقَتْلِ والسَّبْيِ كَما جُوزِيَ أُولَئِكَ بِالإغْراقِ، وأصْلُ الدَّأْبِ في اللُّغَةِ إدامَةُ العَمَلِ يُقالُ: فُلانٌ يَدْأبُ في كَذا، أيْ يُداوِمُ عَلَيْهِ ويُواظِبُ ويُتْعِبُ نَفْسَهُ، ثُمَّ سُمِّيَتِ العادَةُ دَأْبًا؛ لِأنَّ الإنْسانَ مُداوِمٌ عَلى عادَتِهِ ومُواظِبٌ عَلَيْها. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقابِ﴾ والغَرَضُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ لَهم عَذابًا مُدَّخَرًا سِوى ما نَزَلَ بِهِمْ مِنَ العَذابِ العاجِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَجْرِي مَجْرى العِلَّةِ في العِقابِ الَّذِي أنْزَلَهُ بِهِمْ، فَقالَ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَكُ﴾ أكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ: إنَّما حُذِفَتِ النُّونُ؛ لِأنَّها لَمْ تُشْبِهِ الغُنَّةَ المَحْضَةَ، فَأشْبَهَتْ حُرُوفَ اللِّينِ ووَقَعَتْ طَرَفًا فَحُذِفَتْ تَشْبِيهًا بِها كَما تَقُولُ: لَمْ يَدْعُ ولَمْ يَرْمِ ولَمْ يَلِ، وقالَ الواحِدِيُّ: وهَذا يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِمْ: لَمْ يَزِنْ ولَمْ يَخُنْ فَلَمْ يُسْمَعْ حَذْفُ النُّونِ هَهُنا. وأجابَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى عَنْهُ فَقالَ: إنَّ كانَ ويَكُونُ أُمُّ الأفْعالِ مِن أجْلِ أنَّ كَلَّ فِعْلٍ قَدْ حَصَلَ فِيهِ مَعْنى كانَ فَقَوْلُنا: ضَرَبَ مَعْناهُ كانَ ضَرْبٌ، ويَضْرِبُ مَعْناهُ يَكُونُ ضَرْبٌ، وهَكَذا القَوْلُ في الكُلِّ فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ أُمُّ الأفْعالِ، فاحْتِيجَ إلى اسْتِعْمالِها في أكْثَرِ الأوْقاتِ، فاحْتَمَلَتْ هَذا الحَذْفَ بِخِلافِ قَوْلِنا: لَمْ يَخُنْ ولَمْ يَزِنْ، فَإنَّهُ لا حاجَةَ إلى ذِكْرِها كَثِيرًا فَظَهَرَ الفَرْقُ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ القاضِي: مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ تَعالى أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالعَقْلِ والقُدْرَةِ وإزالَةِ المَوانِعِ وتَسْهِيلِ السُّبُلِ، والمَقْصُودُ أنْ يَشْتَغِلُوا بِالعِبادَةِ والشُّكْرِ ويَعْدِلُوا عَنِ الكُفْرِ، فَإذا صَرَفُوا هَذِهِ الأحْوالَ إلى (p-١٤٥)الفِسْقِ والكُفْرِ، فَقَدْ غَيَّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعالى عَلى أنْفُسِهِمْ، فَلا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا تَبْدِيلَ النِّعَمِ بِالنِّقَمِ، والمَنحِ بِالمِحَنِ قالَ: وهَذا مِن أوْكَدِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يَبْتَدِئُ أحَدًا بِالعَذابِ والمَضَرَّةِ، والَّذِي يَفْعَلُهُ لا يَكُونُ إلّا جَزاءً عَلى مَعاصٍ سَلَفَتْ، ولَوْ كانَ تَعالى خَلَقَهم وخَلَقَ جُسْمانَهم وعُقُولَهُمُ ابْتِداءً لِلنّارِ كَما يَقُولُهُ القَوْمُ لَما صَحَّ ذَلِكَ، قالَ أصْحابُنا: ظاهِرُ الآيَةِ مُشْعِرٌ بِما قالَهُ القاضِي الإمامُ إلّا أنّا لَوْ حَمَلْنا عَلَيْهِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ صِفَةُ اللَّهِ تَعالى مُعَلَّلَةً بِفِعْلِ الإنْسانِ وذَلِكَ لَأنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ وإرادَتَهُ لِما كانَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ إتْيانِ الإنْسانِ بِذَلِكَ الفِعْلِ، فَلَوْ لَمْ يَصْدُرْ عِنْدَ ذَلِكَ الفِعْلِ لَمْ يَحْصُلْ لِلَّهِ تَعالى ذَلِكَ الحُكْمُ وتِلْكَ الإرادَةُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِعْلُ الإنْسانِ مُؤَثِّرًا في حُدُوثِ صِفَةٍ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى، ويَكُونُ الإنْسانُ مُغَيِّرًا صِفَةَ اللَّهِ ومُؤَثِّرًا فِيها، وذَلِكَ مُحالٌ في بَدِيهَةِ العَقْلِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذا الكَلامِ عَلى ظاهِرِهِ، بَلِ الحَقُّ أنَّ صِفَةَ اللَّهِ غالِبَةٌ عَلى صِفاتِ المُحْدَثاتِ، فَلَوْلا حُكْمُهُ وقَضاؤُهُ أوَّلًا لَما أمْكَنَ لِلْعَبْدِ أنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الأفْعالِ والأقْوالِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ مَرَّةً أُخْرى قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً: الأوَّلُ: أنَّ الكَلامَ الثّانِيَ يَجْرِي مَجْرى التَّفْصِيلِ لِلْكَلامِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ الكَلامَ الأوَّلَ فِيهِ ذِكْرُ أخْذِهِمْ، وفي الثّانِي ذِكْرُ إغْراقِهِمْ وذَلِكَ تَفْصِيلٌ. والثّانِي: أنَّهُ أُرِيدَ بِالأوَّلِ ما نَزَلَ بِهِمْ مِنَ العُقُوبَةِ في حالِ المَوْتِ، وبِالثّانِي ما يَنْزِلُ بِهِمْ في القَبْرِ في الآخِرَةِ. الثّالِثُ: أنَّ الكَلامَ الأوَّلَ هو قَوْلُهُ: ﴿كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ﴾، والكَلامَ الثّانِيَ هو قَوْلُهُ: ﴿كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ﴾ فالأوَّلُ إشارَةٌ إلى أنَّهم أنْكَرُوا الدَّلائِلَ الإلَهِيَّةَ، والثّانِي إشارَةٌ إلى أنَّهُ سُبْحانَهُ رَبّاهم وأنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالوُجُوهِ الكَثِيرَةِ، فَأنْكَرُوا دَلائِلَ التَّرْبِيَةِ والإحْسانِ مَعَ كَثْرَتِها وتَوالِيها عَلَيْهِمْ، فَكانَ الأثَرُ اللّازِمُ مِنَ الأوَّلِ هو الأخْذُ، والأثَرُ اللّازِمُ مِنَ الثّانِي هو الإهْلاكُ والإغْراقُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ لِكُفْرانِ النِّعْمَةِ أثَرًا عَظِيمًا في حُصُولِ الهَلاكِ والبَوارِ، ثُمَّ خَتَمَ تَعالى الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿وكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ﴾ والمُرادُ مِنهُ أنَّهم كانُوا ظالِمِي أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ والمَعْصِيَةِ، وظالِمِي سائِرِ النّاسِ بِسَبَبِ الإيذاءِ والإيحاشِ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما أهْلَكَهم بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وأقُولُ في هَذا المَقامِ: اللَّهُمَّ أهْلِكِ الظّالِمِينَ وطَهِّرْ وجْهَ الأرْضِ مِنهم، فَقَدْ عَظُمَتْ فِتْنَتُهم وكَثُرَ شَرُّهم، ولا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى دَفْعِهِمْ إلّا أنْتَ، فادْفَعْ يا قَهّارُ يا جَبّارُ يا مُنْتَقِمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب