الباحث القرآني

٥٠ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ وإنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ . (p-١٣٠)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ صَلاتَهم في عِباداتِهِمُ البَدَنِيَّةِ، وعِباداتِهِمُ المالِيَّةِ، أرْشَدَهم إلى طَرِيقِ الصَّوابِ وقالَ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا﴾، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ قُلْ لِأجْلِهِمْ هَذا القَوْلَ، وهو: ﴿إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ﴾ ولَوْ كانَ بِمَعْنى خاطِبْهم بِهِ لَقِيلَ: إنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَكَذا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَعْنى: أنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ إنِ انْتَهَوْا عَنِ الكُفْرِ وعَداوَةِ الرَّسُولِ، ودَخَلُوا الإسْلامَ والتَزَمُوا شَرائِعَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهم ما قَدْ سَلَفَ مِن كُفْرِهِمْ وعَداوَتِهِمْ لِلرَّسُولِ، وإنْ عادُوا إلَيْهِ وأصَرُّوا عَلَيْهِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: المُرادُ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ مِنهُمُ الَّذِينَ حاقَ بِهِمْ مَكْرُهم يَوْمَ بَدْرٍ. الثّانِي: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلى أنْبِيائِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَدْ مَرُّوا فَلْيَتَوَقَّعُوا مِثْلَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْتَهُوا. الثّالِثُ: أنَّ مَعْناهُ أنَّ الكُفّارَ إذا انْتَهَوْا عَنِ الكُفْرِ وأسْلَمُوا غُفِرَ لَهم ما قَدْ سَلَفَ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي وإنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ وهي قَوْلُهُ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المُجادَلَةِ: ٢١]،﴿ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا﴾ [الصّافّاتِ: ١٧١]،﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٠٥] . * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في أنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ هَلْ تُقْبَلُ أمْ لا ؟ والصَّحِيحُ أنَّها مَقْبُولَةٌ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: هَذِهِ الآيَةُ، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ أنْواعِ الكُفْرِ. فَإنْ قِيلَ: الزِّنْدِيقُ لا يُعْلَمُ مِن حالِهِ أنَّهُ هَلِ انْتَهى مِن زَنْدَقَتِهِ أمْ لا ؟ قُلْنا: أحْكامُ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلى الظَّواهِرِ، كَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظّاهِرِ» “ فَلَمّا رَجَعَ وجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ. الثّانِي: لا شَكَّ أنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالرُّجُوعِ ولا طَرِيقَ لَهُ إلَيْهِ إلّا بِهَذِهِ التَّوْبَةِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَزِمَ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ [الشُّورى: ٢٥] . * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الكُفّارَ لَيْسُوا مُخاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرائِعِ، قالُوا: لِأنَّهم لَوْ كانُوا مُخاطَبِينَ بِها، لَكانَ إمّا أنْ يَكُونُوا مُخاطَبِينَ بِها مَعَ الكُفْرِ أوْ بَعْدَ زَوالِ الكُفْرِ، والأوَّلُ باطِلٌ بِالإجْماعِ، والثّانِي باطِلٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الكافِرَ بَعْدَ الإسْلامِ لا يُؤاخَذُ بِشَيْءٍ مِمّا مَرَّ عَلَيْهِ في زَمانِ الكُفْرِ، وإيجابُ قَضاءِ تِلْكَ العِباداتِ يُنافِي ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المُرْتَدَّ إذا أسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضاءُ العِباداتِ الَّتِي تَرَكَها في حالَةِ الرِّدَّةِ وقَبْلَها، ووَجْهُ الدَّلالَةِ ظاهِرٌ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الإسْلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ» “ فَإذا أسْلَمَ الكافِرُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضاءُ شَيْءٍ مِنَ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ والمالِيَّةِ، وما كانَ لَهُ مِن جِنايَةٍ عَلى نَفْسٍ أوْ مالٍ فَهو مَعْفُوٌّ عَنْهُ وهو ساعَةَ إسْلامِهِ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ، وقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ الرّازِيُّ في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّ تَوْحِيدَ ساعَةٍ يَهْدِمُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً، وتَوْحِيدُ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ لا يَقْوى عَلى هَدْمِ ذَنْبِ ساعَةٍ ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب