الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وإذْ قالُوا اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ﴿وما لَهم ألّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وهم يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلّا المُتَّقُونَ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ . (p-١٢٦)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى مَكْرَهم في ذاتِ مُحَمَّدٍ حَكى مَكْرَهم في دِينِ مُحَمَّدٍ، رُوِيَ أنَّ النَّضْرَ بْنَ الحارِثِ خَرَجَ إلى الحَيْرَةِ تاجِرًا، واشْتَرى أحادِيثَ كَلِيلَةَ ودِمْنَةَ، وكانَ يَقْعُدُ مَعَ المُسْتَهْزِئِينَ والمُقْتَسِمِينَ وهو مِنهم، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أساطِيرَ الأوَّلِينَ، وكانَ يَزْعُمُ أنَّها مِثْلُ ما يَذْكُرُهُ مُحَمَّدٌ مِن قِصَصِ الأوَّلِينَ، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ وهَهُنا مَوْضِعُ بَحْثٍ، وذَلِكَ لِأنَّ الِاعْتِمادَ في كَوْنِ القُرْآنِ مُعْجِزًا عَنْ أنَّهُ ﷺ تَحَدّى العَرَبَ بِالمُعارَضَةِ، فَلَمْ يَأْتُوا بِها، وهَذا إشارَةٌ إلى أنَّهم أتَوْا بِتِلْكَ المُعارَضَةِ، وذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّلِيلِ المُعَوَّلِ عَلَيْهِ. والجَوابُ: أنَّ كَلِمَةَ﴿لَوْ﴾ تُفِيدُ انْتِفاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفاءِ غَيْرِهِ. فَقَوْلُهُ: ﴿لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما شاءَ ذَلِكَ القَوْلَ، وما قالَ. فَثَبَتَ أنَّ النَّضْرَ بْنَ الحارِثِ أقَرَّ أنَّهُ ما أتى بِالمُعارَضَةِ، وإنَّما أخْبَرَ أنَّهُ لَوْ شاءَها لَأتى بِها، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لَأنَّ المَقْصُودَ إنَّما يَحْصُلُ لَوْ أتى بِالمُعارَضَةِ، أمّا مُجَرَّدُ هَذا القَوْلِ فَلا فائِدَةَ فِيهِ. والشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ لَهم: قَوْلُهم: ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ أيْ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ العَذابِ أشَدَّ مِن ذَلِكَ وأشَقَّ مِنهُ عَلَيْنا. فَإنْ قِيلَ: هَذا الكَلامُ يُوجِبُ الإشْكالَ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ حَكاهُ اللَّهُ عَنِ الكُفّارِ، وكانَ هَذا كَلامَ الكُفّارِ وهو مِن جِنْسِ نَظْمِ القُرْآنِ فَقَدْ حَصَلَتِ المُعارَضَةُ في هَذا القَدْرِ، وأيْضًا حُكِيَ عَنْهم أنَّهم قالُوا في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ: ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسْراءِ: ٩٠] وذَلِكَ أيْضًا كَلامُ الكُفّارِ فَقَدْ حَصَلَ مِن كَلامِهِمْ ما يُشْبِهُ نَظْمَ القُرْآنِ ومُعارَضَتَهُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ المُعارَضَةِ. الثّانِي: أنَّ كَفّارَ قُرَيْشٍ كانُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الإلَهِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ وكانُوا قَدْ سَمِعُوا التَّهْدِيدَ الكَثِيرَ مِن مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في نُزُولِ العَذابِ، فَلَوْ كانَ نُزُولُ القُرْآنِ مُعْجِزًا لَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا لِأنَّهم أرْبابُ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ، ولَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ لَكانَ أقَلَّ الأحْوالِ أنْ يَصِيرُوا شاكِّينَ في نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولَوْ كانُوا كَذَلِكَ لَما أقْدَمُوا عَلى قَوْلِهِمْ: ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ لِأنَّ المُتَوَقِّفَ الشّاكَّ لا يَتَجاسَرُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ المُبالَغَةِ، وحَيْثُ أتَوْا بِهَذِهِ المُبالَغَةِ عَلِمْنا أنَّهُ ما لاحَ لَهم في القُرْآنِ وجْهٌ مِنَ الوُجُوهِ المُعْجِزَةِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ الإتْيانَ بِهَذا القَدْرِ مِنَ الكَلامِ لا يَكْفِي في حُصُولِ المُعارَضَةِ؛ لِأنَّ هَذا المِقْدارَ كَلامٌ قَلِيلٌ لا يَظْهَرُ فِيهِ وُجُوهُ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ، وهَذا الجَوابُ لا يَتَمَشّى إلّا إذا قُلْنا التَّحَدِّي ما وقَعَ بِجَمِيعِ السُّوَرِ، وإنَّما وقَعَ بِالسُّورَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيها قُوَّةُ الكَلامِ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: هَبْ أنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الوَجْهُ في كَوْنِ القُرْآنِ مُعْجِزًا إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ مُعْجِزًا في نَفْسِهِ، فَسَواءٌ عَرَفُوا ذَلِكَ الوَجْهَ أوْ لَمْ يَعْرِفُوا فَإنَّهُ لا يَتَفاوَتُ الحالُ فِيهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: القِراءَةُ بِنَصْبِ﴿الحَقَّ﴾ عَلى خَبَرِ﴿كانَ﴾ ودَخَلَتْ﴿هُوَ﴾ لِلْفَصْلِ ولا مَوْضِعَ لَها، وهي بِمَنزِلَةِ ”ما“ المُؤَكِّدَةِ ودَخَلَتْ لِيُعْلَمَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿الحَقَّ﴾ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِهَذا وأنَّهُ خَبَرٌ. قالَ: ويَجُوزُ هو الحَقُّ رَفْعًا، ولا أعْلَمُ أحَدًا قَرَأ بِها، ولا خِلافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ في إجازَتِها، ولَكِنَّ القِراءَةَ سُنَّةٌ، ورَوى صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَنِ الأعْمَشِ أنَّهُ أقْرَأ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب