الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا ويُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكم ويَغْفِرْ لَكم واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَذَّرَ عَنِ الفِتْنَةِ بِالأمْوالِ والأوْلادِ، رَغَّبَ في التَّقْوى الَّتِي تُوجِبُ تَرْكَ المَيْلِ والهَوى في مَحَبَّةِ الأمْوالِ والأوْلادِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إدْخالُ الشَّرْطِ في الحُكْمِ إنَّما يَحْسُنُ في حَقِّ مَن كانَ جاهِلًا بِعَواقِبِ الأُمُورِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعالى. والجَوابُ: أنَّ قَوْلَنا إنْ كانَ كَذا كانَ كَذا، لا يُفِيدُ إلّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا لِلْجَزاءِ، فَأمّا أنَّ وُقُوعَ الشَّرْطِ مَشْكُوكٌ فِيهِ أوْ مَعْلُومٌ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَفادٍ مِن هَذا اللَّفْظِ، سَلَّمْنا أنَّهُ يُفِيدُ هَذا الشَّكَّ إلّا أنَّهُ تَعالى يُعامِلُ العِبادَ في الجَزاءِ مُعامَلَةَ الشّاكِّ، وعَلَيْهِ يَخْرُجُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكم والصّابِرِينَ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٣١] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ القَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ شَرْطُها شَيْءٌ واحِدٌ وهو تَقْوى اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ يَتَناوَلُ اتِّقاءَ اللَّهِ في جَمِيعِ الكَبائِرِ. وإنَّما خَصَصْنا هَذا بِالكَبائِرِ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الجَزاءِ تَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ، والجَزاءُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِلشَّرْطِ، فَحَمَلْنا التَّقْوى عَلى تَقْوى الكَبائِرِ وحَمَلْنا السَّيِّئاتِ عَلى الصَّغائِرِ لِيَظْهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، وأمّا الجَزاءُ المُرَتَّبُ عَلى هَذا الشَّرْطِ فَأُمُورٌ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى يُفَرِّقُ بَيْنَكم وبَيْنَ الكُفّارِ، ولَمّا كانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وجَبَ حَمْلُهُ عَلى جَمِيعِ الفُرُوقِ الحاصِلَةِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وبَيْنَ الكُفّارِ فَنَقُولُ: هَذا الفُرْقانُ إمّا أنْ يُعْتَبَرَ في أحْوالِ الدُّنْيا أوْ في أحْوالِ الآخِرَةِ. أمّا في أحْوالِ الدُّنْيا فَإمّا أنْ يُعْتَبَرَ في أحْوالِ القُلُوبِ وهي الأحْوالُ الباطِنَةُ أوْ في الأحْوالِ الظّاهِرَةِ، أمّا في أحْوالِ القُلُوبِ فَأُمُورٌ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى يَخُصُّ المُؤْمِنِينَ بِالهِدايَةِ والمَعْرِفَةِ. وثانِيها: أنَّهُ يَخُصُّ قُلُوبَهم وصُدُورَهم بِالِانْشِراحِ كَما قالَ: ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ مِن رَبِّهِ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٢] . وثالِثُها: أنَّهُ يُزِيلُ الغِلَّ والحِقْدَ والحَسَدَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ويُزِيلُ المَكْرَ والخِداعَ عَنْ صُدُورِهِمْ، مَعَ أنَّ المُنافِقَ والكافِرَ يَكُونُ قَلْبُهُ مَمْلُوءًا مِن هَذِهِ الأحْوالِ الخَسِيسَةِ والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، والسَّبَبُ في حُصُولِ هَذِهِ الأُمُورِ أنَّ القَلْبَ إذا صارَ مُشْرِقًا بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى زالَتْ عَنْهُ كُلُّ هَذِهِ الظُّلُماتِ لِأنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ نُورٌ، وهَذِهِ الأخْلاقُ ظُلُماتٌ، وإذا ظَهَرَ النُّورُ فَلا بُدَّ مِن زَوالِ الظُّلْمَةِ. وأمّا في الأحْوالِ الظّاهِرَةِ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يَخُصُّ المُسْلِمِينَ بِالعُلُوِّ والفَتْحِ والنَّصْرِ والظَّفَرِ، كَما قالَ: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المُنافِقُونَ: ٨] وكَما قالَ: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٣] وأمْرُ الفاسِقِ والكافِرِ بِالعَكْسِ مِن ذَلِكَ. وأمّا في أحْوالِ الآخِرَةِ، فالثَّوابُ والمَنافِعُ الدّائِمَةُ والتَّعْظِيمُ مِنَ اللَّهِ والمَلائِكَةِ وكُلُّ هَذِهِ الأحْوالِ داخِلَةٌ في الفُرْقانِ. (p-١٢٤)والنَّوْعُ الثّانِي مِنَ الأجْزِيَةِ المُرَتَّبَةِ عَلى التَّقْوى: قَوْلُهُ: ﴿ويُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ فَنَقُولُ: إنْ حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾ عَلى الِاتِّقاءِ مِنَ الكُفْرِ، كانَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ويُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ جَمِيعُ السَّيِّئاتِ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَ الكُفْرِ، وإنْ حَمَلْناهُ عَلى الِاتِّقاءِ عَنِ الكَبائِرِ، كانَ المُرادُ مِن هَذا تَكْفِيرَ الصَّغائِرِ. والنَّوْعُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ المُرادَ مِن تَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ سَتْرُها في الدُّنْيا، ومِنَ المَغْفِرَةِ إزالَتُها في القِيامَةِ لِئَلّا يَلْزَمَ التَّكْرارُ. ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ ومَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ إذا وعَدَ بِشَيْءٍ وفّى بِهِ. وإنَّما قُلْنا: إنَّ أفْضالَ اللَّهِ أعْظَمُ مِن أفْضالِ غَيْرِهِ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ ما سِوى الحَقِّ فَإنَّهُ لا يَتَفَضَّلُ ولا يُحْسِنُ إلّا إذا حَصَلَتْ في قَلْبِهِ داعِيَةُ الإفْضالِ والإحْسانِ، وتِلْكَ الدّاعِيَةُ حادِثَةٌ فَلا تَحْصُلُ إلّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى، وعِنْدَ هَذا يَنْكَشِفُ أنَّ المُتَفَضِّلَ لَيْسَ إلّا اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الدّاعِيَةَ المُوجِبَةَ لِذَلِكَ الفِعْلِ. الثّانِي: أنَّ كُلَّ مَن تَفَضَّلَ يَسْتَفِيدُ بِهِ نَوْعًا مِن أنْواعِ الكَمالِ إمّا عِوَضًا مِنَ المالِ أوْ عِوَضًا مِنَ المَدْحِ والثَّناءِ، وإمّا عِوَضًا مِن نَوْعٍ آخَرَ وهو دَفْعُ الألَمِ الحاصِلِ في القَلْبِ بِسَبَبِ الرِّقَّةِ الجِنْسِيَّةِ، واللَّهُ تَعالى يُعْطِي ويَتَفَضَّلُ ولا يَطْلُبُ بِهِ شَيْئًا مِنَ الأعْواضِ لِأنَّهُ كامِلٌ لِذاتِهِ، وما كانَ حاصِلًا لِلشَّيْءِ لِذاتِهِ امْتَنَعَ أنْ يَسْتَفِيدَهُ مِن غَيْرِهِ. الثّالِثُ: أنَّ كُلَّ مَن تَفَضَّلَ عَلى الغَيْرِ فَإنَّ المُتَفَضَّلَ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَمْنُونًا عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ المُتَفَضِّلِ، وذَلِكَ مُنَفِّرٌ، أمّا الحَقُّ سُبْحانَهُ وتَعالى فَهو المُوجِدُ لِذاتِ كُلِّ أحَدٍ بِجَمِيعِ صِفاتِهِ، فَلا يَحْصُلُ الِاسْتِنْكافُ مِن قَبُولِ إحْسانِهِ. الرّابِعُ: أنَّ كُلَّ مَن تَفَضَّلَ عَلى غَيْرِهِ فَإنَّهُ لا يَنْتَفِعُ المُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ التَّفَضُّلِ إلّا إذا حَصَلَتْ لَهُ عَيْنٌ باصِرَةٌ وأُذُنٌ سامِعَةٌ ومَعِدَةٌ هاضِمَةٌ، حَتّى يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ الإحْسانِ، وعِنْدَ هَذا يَنْكَشِفُ أنَّ المُتَفَضِّلَ هو اللَّهُ في الحَقِيقَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ البَراهِينِ صِحَّةُ قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب