الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكم فاسْتَجابَ لَكم أنِّي مُمِدُّكم بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ ﴿وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكم وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّهُ يُحِقُّ الحَقَّ ويُبْطِلُ الباطِلَ، بَيَّنَ أنَّهُ تَعالى نَصَرَهم عِنْدَ الِاسْتِغاثَةِ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ العامِلُ فِي﴿إذْ﴾ هو قَوْلُهُ: ﴿ويُبْطِلَ الباطِلَ﴾ فَتَكُونُ الآيَةُ مُتَّصِلَةً بِما قَبْلَها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ مُسْتَأْنَفَةً عَلى تَقْدِيرِ واذْكُرُوا إذْ تَسْتَغِيثُونَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ﴾ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الِاسْتِغاثَةَ كانَتْ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ «ونَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى المُشْرِكِينَ وهم ألْفٌ وإلى أصْحابِهِ وهم ثَلاثُمِائَةٍ (p-١٠٥)ونَيِّفٌ، اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ ومَدَّ يَدَهُ وهو يَقُولُ: ”اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي ما وعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العِصابَةَ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ“ ولَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى سَقَطَ رِداؤُهُ، ورَدَّهُ أبُو بَكْرٍ ثُمَّ التَزَمَهُ ثُمَّ قالَ: كَفاكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ مُناشَدَتَكَ رَبَّكَ فَإنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ ما وعَدَكَ»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ولَمّا اصْطَفَّتِ القَوْمُ قالَ أبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أوْلانا بِالحَقِّ فانْصُرْهُ، ورَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ بِالدُّعاءِ المَذْكُورِ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الِاسْتِغاثَةَ كانَتْ مِن جَماعَةِ المُؤْمِنِينَ لِأنَّ الوَجْهَ الَّذِي لِأجْلِهِ أقْدَمَ الرَّسُولُ عَلى الِاسْتِغاثَةِ كانَ حاصِلًا فِيهِمْ، بَلْ خَوْفُهم كانَ أشَدَّ مِن خَوْفِ الرَّسُولِ، فالأقْرَبُ أنَّهُ دَعا عَلَيْهِ السَّلامُ وتَضَّرَّعَ عَلى ما رُوِيَ، والقَوْمُ كانُوا يُؤَمِّنُونَ عَلى دُعائِهِ تابِعِينَ لَهُ في الدُّعاءِ في أنْفُسِهِمْ، فَنَقَلَ دُعاءَ رَسُولِ اللَّهِ لِأنَّهُ رَفَعَ بِذَلِكَ الدُّعاءِ صَوْتَهُ، ولَمْ يَنْقُلْ دُعاءَ القَوْمِ. فَهَذا هو طَرِيقُ الجَمْعِ بَيْنَ الرِّواياتِ المُخْتَلِفَةِ في هَذا البابِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ﴾ أيْ تَطْلُبُونَ الإغاثَةَ، يَقُولُ الواقِعُ في بَلِيَّةٍ أغِثْنِي أيْ فَرِّجْ عَنِّي.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهُمُ الِاسْتِغاثَةَ بَيَّنَ أنَّهُ تَعالى أجابَهم وقالَ: ﴿أنِّي مُمِدُّكم بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿أنِّي مُمِدُّكُمْ﴾ أصْلُهُ بِأنِّي مُمِدُّكم، فَحَذَفَ الجارَّ وسَلَّطَ عَلَيْهِ اسْتَجابَ، فَنَصَبَ مَحَلَّهُ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو: أنَّهُ قَرَأ (إنِّي مُمِدُّكم) بِالكَسْرِ عَلى إرادَةِ القَوْلِ، أوْ عَلى إجْراءِ اسْتَجابَ مَجْرى قالَ لِأنَّ الِاسْتِجابَةَ مِنَ القَوْلِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ (مُرْدَفِينَ) بِفَتْحِ الدّالِ والباقُونَ بِكَسْرِها. قالَ الفَرّاءُ: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ أيْ مُتَتابِعِينَ يَأْتِي بَعْضُهم في أثَرِ بَعْضٍ كالقَوْمِ الَّذِينَ أُرْدِفُوا عَلى الدَّوابِّ و(مُرْدَفِينَ) أيْ فُعِلَ بِهِمْ ذَلِكَ، ومَعْناهُ أنَّهُ تَعالى أرْدَفَ المُسْلِمِينَ وأيَّدَهم بِهِمْ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ المَلائِكَةَ هَلْ قاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ ؟ فَقالَ قَوْمٌ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ في خَمْسِمِائَةِ مَلَكٍ عَلى المَيْمَنَةِ وفِيها أبُو بَكْرٍ، ومِيكائِيلُ في خَمْسِمِائَةٍ عَلى المَيْسَرَةِ وفِيها عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، في صُورَةِ الرِّجالِ عَلَيْهِمْ ثِيابُهم بِيضٌ وقاتَلُوا. وقِيلَ قاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ ولَمْ يُقاتِلُوا يَوْمَ الأحْزابِ ويَوْمَ حُنَيْنٍ، وعَنْ أبِي جَهْلٍ أنَّهُ قالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مِن أيْنَ كانَ الصَّوْتُ الَّذِي كُنّا نَسْمَعُ ولا نَرى شَخْصًا ؟، قالَ هو مِنَ المَلائِكَةِ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: هم غَلَبُونا لا أنْتُمْ. ورُوِيَ «أنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ بَيْنَما هو يَشْتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ إذْ سَمِعَ صَوْتَ ضَرْبَةٍ بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ فَنَظَرَ إلى المُشْرِكِ وقَدْ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا وقَدْ شُقَّ وجْهُهُ، فَحَدَّثَ الأنْصارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ، فَقالَ: صَدَقْتَ ذاكَ مِن مَدَدِ السَّماءِ» . وقالَ آخَرُونَ: لَمْ يُقاتِلُوا وإنَّما كانُوا يُكَثِّرُونَ السَّوادَ ويُثَبِّتُونَ المُؤْمِنِينَ، وإلّا فَمَلَكٌ واحِدٌ كافٍ في إهْلاكِ الدُّنْيا كُلِّها، فَإنَّ جِبْرِيلَ أهْلَكَ بِرِيشَةٍ مِن جَناحِهِ مَدائِنَ قَوْمِ لُوطٍ، وأهْلَكَ بِلادَ ثَمُودَ وقَوْمَ صالِحٍ بِصَيْحَةٍ واحِدَةٍ، والكَلامُ في كَيْفِيَّةِ هَذا الإمْدادِ مَذْكُورٌ في سُورَةِ آلَ عِمْرانَ بِالِاسْتِقْصاءِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ أنَّ المَلائِكَةَ ما نَزَلُوا لِلْقِتالِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى﴾ قالَ الفَرّاءُ: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الإرْدافِ والتَّقْدِيرُ: ما جَعَلَ اللَّهُ الإرْدافَ إلّا بُشْرى. وقالَ الزَّجّاجُ: ما جَعَلَ اللَّهُ المُرْدِفِينَ إلّا بُشْرى، وهَذا أوْلى لِأنَّ الإمْدادَ بِالمَلائِكَةِ حَصَلَ بِالبُشْرى. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ في العَرِيشِ قاعِدًا يَدْعُو، وكانَ أبُو بَكْرٍ قاعِدًا عَنْ يَمِينِهِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَخَفَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن نَفْسِهِ نَعِسًا، ثُمَّ ضَرَبَ (p-١٠٦)بِيَمِينِهِ عَلى فَخْذِ أبِي بَكْرٍ وقالَ: ”أبْشِرْ بِنَصْرِ اللَّهِ ولَقَدْ رَأيْتُ في مَنامِي جِبْرِيلَ يَقْدَمُ الخَيْلَ“» وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا غَرَضَ مِن إنْزالِهِمْ إلّا حُصُولُ هَذِهِ البُشْرى، وذَلِكَ يَنْفِي إقْدامَهم عَلى القِتالِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ وإنْ كانُوا قَدْ نَزَلُوا في مُوافَقَةِ المُؤْمِنِينَ، إلّا أنَّ الواجِبَ عَلى المُؤْمِنِ أنْ لا يَعْتَمِدَ عَلى ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ أنْ يَكُونَ اعْتِمادُهُ عَلى إغاثَةِ اللَّهِ ونَصْرِهِ وهِدايَتِهِ وكِفايَتِهِ لِأجْلِ أنَّ اللَّهَ هو العَزِيزُ الغالِبُ الَّذِي لا يُغْلَبُ، والقاهِرُ الَّذِي لا يُقْهَرُ، والحَكِيمُ فِيما يُنْزِلُ مِنَ النُّصْرَةِ فَيَضَعُها في مَوْضِعِها.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["إِذۡ تَسۡتَغِیثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّی مُمِدُّكُم بِأَلۡفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُرۡدِفِینَ","وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَىِٕنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ"],"ayah":"وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَىِٕنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق