الباحث القرآني

(p-٩٢)[ سُورَةُ الأنْفالِ ] مَدَنِيَّةٌ إلّا مِن آيَةِ: ٣٠ إلى غايَةِ ٣٦ فَمَكِّيَّةٌ وآياتُها ٧٥ نَزَلَتْ بَعْدَ البَقَرَةِ ﷽ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكم وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﷽ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكم وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ﴾ يَقْتَضِي البَحْثَ عَنْ خَمْسَةِ أشْياءَ، السّائِلِ، والمَسْؤُولِ، وحَقِيقَةِ النَّفْلِ، وكَوْنِ ذَلِكَ السُّؤالِ عَنْ أيِّ الأحْكامِ كانَ، وأنَّ المُفَسِّرِينَ بِأيِّ شَيْءٍ فَسَّرُوا الأنْفالَ. أمّا البَحْثُ الأوَّلُ: فَهو أنَّ السّائِلِينَ مَن كانُوا ؟ فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ﴾ إخْبارٌ عَمَّنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهم وحَسُنَ ذَلِكَ هَهُنا، لِأنَّ حالَةَ النُّزُولِ كانَ السّائِلُ عَنْ هَذا السُّؤالِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا فانْصَرَفَ هَذا اللَّفْظُ إلَيْهِمْ، ولا شَكَّ أنَّهم كانُوا أقْوامًا لَهم تُعَلُّقٌ بِالغَنائِمِ والأنْفالِ، وهم أقْوامٌ مِنَ الصَّحابَةِ. وأمّا البَحْثُ الثّانِي: وهو أنَّ المَسْؤُولَ مَن كانَ ؟ فَلا شَكَّ أنَّهُ هو النَّبِيُّ ﷺ . وأمّا البَحْثُ الثّالِثُ: وهو أنَّ الأنْفالَ ما هي ؟ فَنَقُولُ: قالَ الزُّهْرِيُّ: النَّفْلُ والنّافِلَةُ ما كانَ زِيادَةً عَلى الأصْلِ، وسُمِّيَتِ الغَنائِمُ أنْفالًا لِأنَّ المُسْلِمِينَ فُضِّلُوا بِها عَلى سائِرِ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ تَحِلَّ لَهُمُ الغَنائِمُ، وصَلاةُ التَّطَوُّعِ نافِلَةٌ لِأنَّها زِيادَةٌ عَلى الفَرْضِ الَّذِي هو الأصْلُ، وقالَ تَعالى: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً﴾ [الأنْبِياءِ: ٧٢] أيْ زِيادَةً عَلى ما سَألَ. وأمّا البَحْثُ الرّابِعُ: وهو أنَّ السُّؤالَ عَنْ أيِّ أحْكامِ الأنْفالِ كانَ ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: لَفْظُ السُّؤالِ وإنْ كانَ مُبْهَمًا إلّا أنَّ تَعْيِينَ الجَوابِ يَدُلُّ عَلى أنَّ السُّؤالَ كانَ واقِعًا عَنْ ذَلِكَ المُعَيَّنِ، ونَظِيرُهُ (p-٩٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٢٢]﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ اليَتامى﴾ [البَقَرَةِ: ٢٢٠] فَعُلِمَ مِنهُ أنَّهُ سُؤالٌ عَنْ حُكْمٍ مِن أحْكامِ المَحِيضِ واليَتامى، وذَلِكَ الحُكْمُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، إلّا أنَّ الجَوابَ كانَ مُعَيَّنًا لِأنَّهُ تَعالى قالَ في المَحِيضِ: ﴿قُلْ هو أذًى فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٢٢] فَدَلَّ هَذا الجَوابُ عَلى أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ كانَ سُؤالًا عَنْ مُخالَطَةِ النِّساءِ في المَحِيضِ. وقالَ في اليَتامى: ﴿قُلْ إصْلاحٌ لَهم خَيْرٌ وإنْ تُخالِطُوهم فَإخْوانُكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٢٠] فَدَلَّ هَذا الجَوابُ المُعَيَّنُ عَلى أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ المُعَيَّنَ كانَ واقِعًا عَنِ التَّصَرُّفِ في مالِهِمْ ومُخالَطَتِهِمْ في المُؤاكَلَةِ، وأيْضًا قالَ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسْراءِ: ٨٥] فَدَلَّ هَذا الجَوابُ عَلى أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ كانَ عَنْ كَوْنِ الرُّوحِ مُحْدَثًا أوْ قَدِيمًا، فَكَذا هَهُنا لَمّا قالَ في جَوابِ السُّؤالِ عَنِ الأنْفالِ: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ دَلَّ هَذا عَلى أنَّهم سَألُوهُ عَنِ الأنْفالِ كَيْفَ مَصْرِفُها ومَنِ المُسْتَحِقُّ لَها ؟ . والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ﴾ أيْ مِنَ الأنْفالِ، والمُرادُ مِن هَذا السُّؤالِ: الِاسْتِعْطاءُ عَلى ما رُوِيَ في الخَبَرِ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ يا رَسُولَ اللَّهِ أعْطِنِي كَذا أعْطِنِي كَذا، ولا يَبْعُدُ إقامَةُ عَنْ مَقامَ مِن. هَذا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ (يَسْألُونَكَ الأنْفالَ) . والبَحْثُ الخامِسُ: وهو شَرْحُ أقْوالِ المُفَسِّرِينَ في المُرادِ بِالأنْفالِ، فَنَقُولُ: إنَّ الأنْفالَ الَّتِي سَألُوا عَنْها يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ قَدْ وقَعَ بَيْنَهُمُ التَّنازُعُ والتَّنافُسُ فِيها، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِهِ مَنعُ القَوْمِ عَنِ المُخاصَمَةِ والمُنازَعَةِ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم إنَّما سَألُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أنْ وقَعَتِ الخُصُومَةُ بَيْنَهم. وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الأنْفالِ الغَنائِمَ، وهي الأمْوالُ المَأْخُوذَةُ مِنَ الكُفّارِ قَهْرًا؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ غَيْرَها. أمّا الأوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ ﷺ قَسَّمَ ما غَنِمُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ عَلى مَن حَضَرَ وعَلى أقْوامٍ لَمْ يَحْضُرُوا أيْضًا، وهم ثَلاثَةٌ مِنَ المُهاجِرِينَ وخَمْسَةٌ مِنَ الأنْصارِ، فَأمّا المُهاجِرُونَ فَأحَدُهم عُثْمانُ فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَرَكَهُ عَلى ابْنَتِهِ لِأنَّها كانَتْ مَرِيضَةً، وطَلْحَةُ وسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قَدْ بَعَثَهُما لِلتَّجَسُّسِ عَنْ خَبَرِ العِيرِ وخَرَجا في طَرِيقِ الشّامِ، وأمّا الخَمْسَةُ مِنَ الأنْصارِ فَأحَدُهم أبُو لُبابَةَ مَرْوانُ بْنُ عَبَدِ المُنْذِرِ، خَلَّفَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلى المَدِينَةِ، وعاصِمٌ خَلَّفَهُ عَلى العالِيَةِ، والحارِثُ بْنُ حاطِبٍ: رَدَّهُ مِنَ الرَّوْحاءِ إلى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، والحارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ أصابَتْهُ عِلَّةٌ بِالرَّوْحاءِ، وخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَهَؤُلاءِ لَمْ يَحْضُرُوا، وضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ لَهم في تِلْكَ الغَنائِمِ بِسَهْمٍ، فَوَقَعَ مِن غَيْرِهِمْ فِيهِ مُنازَعَةٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِسَبَبِها. وثانِيها: رُوِيَ أنَّ يَوْمَ بَدْرٍ الشُّبّانُ قَتَلُوا وأسَرُوا والأشْياخُ وقَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في المَصافِّ، فَقالَ الشُّبّانُ: الغَنائِمُ لَنا لِأنّا قَتَلْنا وهَزَمْنا، وقالَ الأشْياخُ: كُنّا رِدْءًا لَكم ولَوِ انْهَزَمْتُمْ لانْحَزْتُمْ إلَيْنا، فَلا تَذْهَبُوا بِالغَنائِمِ دُونَنا، فَوَقَعَتِ المُخاصَمَةُ بِهَذا السَّبَبِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وثالِثُها: قالَ الزَّجّاجُ: الأنْفالُ الغَنائِمُ، وإنَّما سَألُوا عَنْها لِأنَّها كانَتْ حَرامًا عَلى مَن كانَ قَبْلَهم، وهَذا الوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ المَقْصُودُ مِن هَذا السُّؤالِ طَلَبَ حُكْمِ اللَّهِ تَعالى فَقَطْ، وقَدْ بَيَّنّا بِالدَّلِيلِ أنَّ هَذا السُّؤالَ كانَ مَسْبُوقًا بِالمُنازَعَةِ والمُخاصَمَةِ. (p-٩٤)وأمّا الِاحْتِمالُ الثّانِي: وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأنْفالِ شَيْئًا سِوى الغَنائِمِ، فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ في تَفْسِيرِ الأنْفالِ أيْضًا وُجُوهٌ: أحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في بَعْضِ الرِّواياتِ: المُرادُ مِنَ الأنْفالِ ما شَذَّ عَنِ المُشْرِكِينَ إلى المُسْلِمِينَ مِن غَيْرِ قِتالٍ، مِن دابَّةٍ أوْ عَبْدٍ أوْ مَتاعٍ، فَهو إلى النَّبِيِّ ﷺ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشاءُ. وثانِيها: الأنْفالُ الخُمُسُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِأهْلِ الخُمُسِ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ، قالَ: فالقَوْمُ إنَّما سَألُوا عَنِ الخُمُسِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وثالِثُها: أنَّ الأنْفالَ هي السَّلَبُ وهو الَّذِي يُدْفَعُ إلى الغازِي زائِدًا عَلى سَهْمِهِ مِنَ المَغْنَمِ، تَرْغِيبًا لَهُ في القِتالِ، كَما إذا قالَ الإمامُ: ”«مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» “ أوْ قالَ لِسَرِيَّةٍ ما أصَبْتُمْ فَهو لَكم، أوْ يَقُولُ فَلَكم نِصْفُهُ أوْ ثُلُثُهُ أوْ رُبُعُهُ، ولا يُخَمِّسُ النَّفْلَ، «وعَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ أنَّهُ قالَ: قُتِلَ أخِي عُمَيْرٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلْتُ بِهِ سَعْدَ بْنَ العاصِي وأخَذْتُ سَيْفَهُ فَأعْجَبَنِي فَجِئْتُ بِهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ شَفى صَدْرِي مِنَ المُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذا السَّيْفَ، فَقالَ: ”لَيْسَ هَذا لِي ولا لَكَ اطْرَحْهُ في المَوْضِعِ الَّذِي وُضِعَتْ فِيهِ الغَنائِمُ“ فَطَرَحْتُهُ وبِي ما يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِن قَتْلِ أخِي وأخْذِ سَلَبِي، فَما جاوَزْتُ إلّا قَلِيلًا حَتّى جاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الأنْفالِ فَقالَ: ”يا سَعْدُ إنَّكَ سَألْتَنِي السَّيْفَ ولَيْسَ لِي وإنَّهُ قَدْ صارَ لِي فَخُذْهُ“» قالَ القاضِي: وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ تَحْتَمِلُهُ الآيَةُ، ولَيْسَ فِيها دَلِيلٌ عَلى تَرْجِيحِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ. وإنْ صَحَّ في الأخْبارِ ما يَدُلُّ عَلى التَّعْيِينِ قُضِيَ بِهِ، وإلّا فالكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وكَما أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنها جائِزٌ، فَكَذَلِكَ إرادَةُ الجَمِيعِ جائِزَةٌ فَإنَّهُ لا تَناقُضَ بَيْنَها، والأقْرَبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِذَلِكَ ما لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُنَفِّلَ غَيْرَهُ مِن جُمْلَةِ الغَنِيمَةِ قَبْلَ حُصُولِها وبَعْدَ حُصُولِها، لِأنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَحْرِيضًا عَلى الجِهادِ وتَقْوِيَةً لِلنُّفُوسِ كَنَحْوِ ما كانَ يُنَفِّلُ واحِدًا في ابْتِداءِ المُحارَبَةِ، لِيُبالِغَ في الحَرْبِ، أوْ عِنْدَ الرَّجْعَةِ، أوْ يُعْطِيَهُ سَلَبَ القاتِلِ، أوْ يَرْضَخَ لِبَعْضِ الحاضِرِينَ ويُنَفِّلَهُ مِنَ الخُمُسِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَخْتَصُّ بِهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ المُرادُ الأمْرُ الزّائِدُ عَلى ما كانَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُجاهِدِينَ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ أنَّ حُكْمَها مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ والرَّسُولِ يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِقِسْمَتِها عَلى ما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، ولَيْسَ الأمْرُ في قِسْمَتِها مُفَوَّضًا إلى رَأْيِ أحَدٍ. البَحْثُ الثّانِي: قالَ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ: إنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ﴾، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ الغَنائِمُ كُلُّها لِلرَّسُولِ، فَنَسَخَها اللَّهُ بِآياتِ الخُمُسِ وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ في بَعْضِ الرِّواياتِ، وأُجِيبَ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ مَعْناهُ أنَّ الحُكْمَ فِيها لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ، وهَذا المَعْنى باقٍ فَلا يُمْكِنُ أنْ يَصِيرَ مَنسُوخًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِأنْ يَكُونَ أرْبَعَةُ أخْماسِها مِلْكًا لِلْغانِمِينَ. الثّانِي: أنَّ آيَةَ الخُمُسِ تَدُلُّ عَلى كَوْنِ الغَنِيمَةِ مِلْكًا لِلْغانِمِينَ، والأنْفالُ هَهُنا مُفَسَّرَةٌ لا بِالغَنائِمِ، بَلْ بِالسَّلَبِ، وإنَّما يُنَفِّلُهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِبَعْضِ النّاسِ لِمَصْلَحَةٍ مِنَ المَصالِحِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: مَعْناهُ فاتَّقُوا عِقابَ اللَّهِ ولا تُقْدِمُوا عَلى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، واتْرُكُوا المُنازَعَةَ والمُخاصَمَةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الأحْوالِ، وارْضَوْا بِما حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . البَحْثُ الثّانِي: في قَوْلِهِ: ﴿وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ أيْ وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكم مِنَ الأقْوالِ، ولَمّا كانَتِ (p-٩٥)الأقْوالُ واقِعَةً في البَيْنِ، قِيلَ لَها: ذاتُ البَيْنِ، كَما أنَّ الأسْرارَ لَمّا كانَتْ مُضْمَرَةً في الصُّدُورِ قِيلَ لَها: ذاتُ الصُّدُورِ. ثُمَّ قالَ: ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى نَهاهم عَنْ مُخالَفَةِ حُكْمِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِأنْ أمَرَهم بِطاعَةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ ثُمَّ بالَغَ في هَذا التَّأْكِيدِ فَقالَ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ والمُرادُ أنَّ الإيمانَ الَّذِي دَعاكُمُ الرَّسُولُ إلَيْهِ ورَغِبْتُمْ فِيهِ لا يَتِمُّ حُصُولُهُ إلّا بِالتِزامِ هَذِهِ الطّاعَةِ، فاحْذَرُوا الخُرُوجَ عَنْها، واحْتَجَّ مَن قالَ: تَرْكُ الطّاعَةِ يُوجِبُ زَوالَ الإيمانِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ المُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ ”إنْ“ عَلى الشَّيْءِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وهَهُنا الإيمانُ مُعَلَّقٌ عَلى الطّاعَةِ بِكَلِمَةِ﴿إنْ﴾ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الإيمانِ عِنْدَ عَدَمِ الطّاعَةِ، وتَمامُ هَذِهِ المَسْألَةِ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النِّساءِ: ٣١] واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب