الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ﴾ ﴿تَتْبَعُها الرّادِفَةُ﴾ ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ﴾ ﴿أبْصارُها خاشِعَةٌ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: جَوابُ القَسَمِ المُتَقَدِّمِ مَحْذُوفٌ أوْ مَذْكُورٌ؟ فِيهِ وجْهانِ: (الأوَّلُ) أنَّهُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ عَلى هَذا الوَجْهِ في الآيَةِ احْتِمالاتٌ: الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ التَّقْدِيرُ: لَتُبْعَثُنَّ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، أنَّهم قالُوا: ﴿أئِذا كُنّا عِظامًا نَخِرَةً﴾ أيْ: أنُبْعَثُ إذا صِرْنا عِظامًا نَخِرَةً. (الثّانِي) قالَ الأخْفَشُ والزَّجّاجُ: لَنَنْفُخَنَّ في الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ، ودَلَّ عَلى هَذا المَحْذُوفِ ذِكْرُ الرّاجِفَةِ والرّادِفَةِ وهُما النَّفْخَتانِ. (الثّالِثُ) قالَ الكِسائِيُّ: الجَوابُ المُضْمَرُ هو أنَّ القِيامَةَ واقِعَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قالَ: ﴿والذّارِياتِ ذَرْوًا﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾ [الذّارِياتِ: ٥] وقالَ: ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ . .﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ﴾ [المُرْسَلاتِ: ٧،١] فَكَذَلِكَ هاهُنا، فَإنَّ القُرْآنَ كالسُّورَةِ الواحِدَةِ. (القَوْلُ الثّانِي) أنَّ الجَوابَ مَذْكُورٌ، وعَلى هَذا القَوْلِ احْتِمالاتٌ: (الأوَّلُ) المُقْسَمُ عَلَيْهِ هو قَوْلُهُ: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ﴾ ﴿أبْصارُها خاشِعَةٌ﴾ والتَّقْدِيرُ: والنّازِعاتِ غَرْقًا إنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ تَحْصُلُ قُلُوبٌ واجِفَةٌ وأبْصارُها خاشِعَةٌ. (الثّانِي) جَوابُ القَسَمِ هو قَوْلُهُ: ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ مُوسى﴾ [النّازِعاتِ: ١٥] فَإنَّ هَلْ (p-٣٢)هاهُنا بِمَعْنى قَدْ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ﴾ [الغاشِيَةِ: ١] أيْ قَدْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ. (الثّالِثُ) جَوابُ القَسَمِ هو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشى﴾ [النّازِعاتِ: ٢٦] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في ناصِبِ (يَوْمَ) بِوَجْهَيْنِ: (أحَدُهُما) أنَّهُ مَنصُوبٌ بِالجَوابِ المُضْمَرِ والتَّقْدِيرُ: لَتُبْعَثُنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذا مَعَ أنَّهم لا يُبْعَثُونَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الأُولى والرّاجِفَةُ هي النَّفْخَةُ الأُولى؟ قُلْنا: المَعْنى لَتُبْعَثُنَّ في الوَقْتِ الواسِعِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ النَّفْخَتانِ، ولا شَكَّ أنَّهم يُبْعَثُونَ في بَعْضِ ذَلِكَ الوَقْتِ الواسِعِ وهو وقْتُ النَّفْخَةِ الأُخْرى، ويَدُلُّ عَلى ما قُلْناهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تَتْبَعُها الرّادِفَةُ﴾ جُعِلَ حالًا عَنِ الرّاجِفَةِ. (والثّانِي): أنْ يُنْصَبَ (يَوْمَ تَرْجُفُ) بِما دَلَّ عَلَيْهِ ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ﴾ أيْ: يَوْمَ تَرْجُفُ وجَفَتِ القُلُوبُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الرَّجْفَةُ في اللُّغَةِ تَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: (أحَدُهُما) الحَرَكَةُ لِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ والجِبالُ﴾ [ المُزَّمِّلِ: ١٤] . (الثّانِي) الهَدَّةُ المُنْكَرَةُ والصَّوْتُ الهائِلُ مِن قَوْلِهِمْ: رَجَفَ الرَّعْدُ يَرْجُفُ رَجْفًا ورَجِيفًا، وذَلِكَ تَرَدُّدُ أصْواتِهِ المُنْكَرَةِ وهَدْهَدَتُهُ في السَّحابِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ فَعَلى هَذا الوَجْهِ الرّاجِفَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ فِيها هَوْلٌ وشِدَّةٌ كالرَّعْدِ، وأمّا الرّادِفَةُ فَكُلُّ شَيْءٍ جاءَ بَعْدَ شَيْءٍ آخَرَ يُقالُ: رَدِفَهُ، أيْ: جاءَ بَعْدَهُ، وأمّا القُلُوبُ الواجِفَةُ فَهي المُضْطَرِبَةُ الخائِفَةُ، يُقالُ: وجَفَ قَلْبُهُ يَجِفُ وِجافًا إذا اضْطَرَبَ، ومِنهُ إيجافُ الدّابَّةِ، وحَمْلُها عَلى السَّيْرِ الشَّدِيدِ، ولِلْمُفَسِّرِينَ عِباراتٌ كَثِيرَةٌ في تَفْسِيرِ الواجِفَةِ ومَعْناها واحِدٌ، قالُوا: خائِفَةٌ وجِلَةٌ زائِدَةٌ عَنْ أماكِنِها قَلِقَةٌ مُسْتَوْفِزَةٌ مُرْتَكِضَةٌ شَدِيدَةُ الِاضْطِرابِ غَيْرُ ساكِنَةٍ، أبْصارُ أهْلِها خاشِعَةٌ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشُّورى: ٤٥] إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذِهِ الأُمُورَ أحْوالُ يَوْمِ القِيامَةِ، وزَعَمَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، ونَحْنُ نَذْكُرُ تَفاسِيرَ المُفَسِّرِينَ ثُمَّ نَشْرَحُ قَوْلَ أبِي مُسْلِمٍ. أمّا القَوْلُ الأوَّلُ: وهو المَشْهُورُ بَيْنَ الجُمْهُورِ، أنَّ هَذِهِ الأحْوالَ أحْوالُ يَوْمِ القِيامَةِ فَهَؤُلاءِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: (أحَدُها) أنَّ الرّاجِفَةَ هي النَّفْخَةُ الأُولى، وسُمِّيَتْ بِهِ إمّا لِأنَّ الدُّنْيا تَتَزَلْزَلُ وتَضْطَرِبُ عِنْدَها، وإمّا لِأنَّ صَوْتَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هي الرّاجِفَةُ، كَما بَيَّنّا القَوْلَ فِيهِ، والرّاجِفَةُ رَجْفَةٌ أُخْرى تَتْبَعُ الأُولى، فَتَضْطَرِبُ الأرْضُ لِإحْياءِ المَوْتى كَما اضْطَرَبَتْ في الأُولى لِمَوْتِ الأحْياءِ عَلى ما ذَكَرَهُ تَعالى في سُورَةِ الزُّمَرِ، ثُمَّ يُرْوى عَنِ الرَّسُولِ -ﷺ- أنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعِينَ عامًا، ويُرْوى في هَذِهِ الأرْبَعِينَ يُمْطِرُ اللَّهُ الأرْضَ ويَصِيرُ ذَلِكَ الماءُ عَلَيْها كالنُّطَفِ، وأنَّ ذَلِكَ كالسَّبَبِ لِلْأحْياءِ، وهَذا مِمّا لا حاجَةَ إلَيْهِ في الإعادَةِ، ولِلَّهِ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ ويَحْكُمَ ما يُرِيدُ. (وثانِيها) الرّاجِفَةُ هي النَّفْخَةُ الأُولى والرّادِفَةُ هي قِيامُ السّاعَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٧٢]، أيِ القِيامَةُ الَّتِي يَسْتَعْجِلُها الكَفَرَةُ اسْتِبْعادًا لَها، فَهي رادِفَةٌ لَهم لِاقْتِرابِها. (وثالِثُها) الرّاجِفَةُ الأرْضُ والجِبالُ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ والجِبالُ﴾ والرّادِفَةُ السَّماءُ والكَواكِبُ لِأنَّها تَنْشَقُّ وتَنْتَثِرُ كَواكِبُها عَلى أثَرِ ذَلِكَ. (ورابِعُها) الرّاجِفَةُ هي الأرْضُ تَتَحَرَّكُ وتَتَزَلْزَلُ، والرّادِفَةُ زَلْزَلَةٌ ثانِيَةٌ تَتْبَعُ الأُولى حَتّى تَنْقَطِعَ الأرْضُ وتَفْنى. (القَوْلُ الثّانِي) وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ أنَّ هَذِهِ الأحْوالَ لَيْسَتْ أحْوالَ يَوْمِ القِيامَةِ، وذَلِكَ لِأنّا نَقَلْنا عَنْهُ أنَّهُ فَسَّرَ النّازِعاتِ بِنَزْعِ القَوْسِ، والنّاشِطاتِ بِخُرُوجِ السَّهْمِ، والسّابِحاتِ بِعَدْوِ الفَرَسِ، والسّابِقاتِ بِسَبْقِها، والمُدَبِّراتِ بِالأُمُورِ الَّتِي تَحْصُلُ أدْبارَ ذَلِكَ الرَّمْيِ والعَدْوِ، ثُمَّ بَنى عَلى ذَلِكَ فَقالَ: الرّاجِفَةُ هي خَيْلُ المُشْرِكِينَ وكَذَلِكَ الرّادِفَةُ، ويُرادُ بِذَلِكَ طائِفَتانِ مِنَ المُشْرِكِينَ غَزَوْا رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- (p-٣٣)فَسَبَقَتْ إحْداهُما الأُخْرى، والقُلُوبُ الواجِفَةُ هي القَلِقَةُ، والأبْصارُ الخاشِعَةُ هي أبْصارُ المُنافِقِينَ كَقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٢٠] كَأنَّهُ قِيلَ: لَمّا جاءَ خَيْلُ العَدُوِّ تَرْجُفُ ورَدَفَتْها أُخْتُها اضْطَرَبَ قُلُوبُ المُنافِقِينَ خَوْفًا، وخَشَعَتْ أبْصارُهم جُبْنًا وضَعْفًا، ثُمَّ قالُوا: ﴿أئِنّا لَمَرْدُودُونَ في الحافِرَةِ﴾ أيْ نَرْجِعُ إلى الدُّنْيا حَتّى نَتَحَمَّلَ هَذا الخَوْفَ لِأجْلِها. وقالُوا أيْضًا: ﴿تِلْكَ إذًا كَرَّةٌ خاسِرَةٌ﴾ [النّازِعاتِ: ١٢] فَأوَّلُ هَذا الكَلامِ حِكايَةٌ لِحالِ مَن غَزا رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- مِنَ المُشْرِكِينَ، وأوْسَطُهُ حِكايَةٌ لِحالِ المُنافِقِينَ، وآخِرُهُ حِكايَةٌ لِكَلامِ المُنافِقِينَ في إنْكارِ الحَشْرِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أجابَ عَنْ كَلامِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّما هي زَجْرَةٌ واحِدَةٌ﴾ ﴿فَإذا هم بِالسّاهِرَةِ﴾ وهَذا كَلامُ أبِي مُسْلِمٍ، واللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وإنْ كانَ عَلى خِلافِ قَوْلِ الجُمْهُورِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ﴾ ﴿أبْصارُها خاشِعَةٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلِ: القُلُوبُ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ، فَإنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّ أهْلَ الإيمانِ لا يَخافُونَ، بَلِ المُرادُ مِنهُ قُلُوبُ الكُفّارِ، ومِمّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم يَقُولُونَ: ﴿أئِنّا لَمَرْدُودُونَ في الحافِرَةِ﴾ وهَذا كَلامُ الكُفّارِ لا كَلامُ المُؤْمِنِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿أبْصارُها خاشِعَةٌ﴾ لِأنَّ المَعْلُومَ مِن حالِ المُضْطَرِبِ الخائِفِ أنْ يَكُونَ نَظَرُهُ نَظَرَ خاشِعٍ ذَلِيلٍ خاضِعٍ يَتَرَقَّبُ ما يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الأمْرِ العَظِيمِ، وفي الآيَةِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: كَيْفَ جازَ الِابْتِداءُ بِالنَّكِرَةِ؟ (الجَوابُ) (قُلُوبٌ) مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِداءِ و(واجِفَةٌ) صِفَتُها و(أبْصارُها خاشِعَةٌ) خَبَرُها، فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿ولَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكٍ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٢١] . السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ صَحَّتْ إضافَةُ الأبْصارِ إلى القُلُوبِ؟ (الجَوابُ) مَعْناهُ أبْصارُ أصْحابِها بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (يَقُولُونَ)، ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى هاهُنا عَنْ مُنْكِرِي البَعْثِ أقْوالًا ثَلاثَةً:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب