الباحث القرآني
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ هَذِهِ القِصَّةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشى﴾ والمَعْنى أنَّ فِيما اقْتَصَصْناهُ مِن أمْرِ مُوسى وفِرْعَوْنَ، وما أحَلَّهُ اللَّهُ بِفِرْعَوْنَ مِنَ الخِزْيِ، ورَزَقَ مُوسى مِنَ العُلُوِّ والنَّصْرِ، عِبْرَةً لِمَن يَخْشى، وذَلِكَ أنْ يَدَعَ التَّمَرُّدَ عَلى اللَّهِ تَعالى، والتَّكْذِيبَ لِأنْبِيائِهِ خَوْفًا مِن أنْ يَنْزِلَ بِهِ ما نَزَلَ بِفِرْعَوْنَ، وعِلْمًا بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَنْصُرُ أنْبِياءَهُ ورُسُلَهُ، فاعْتَبِرُوا مَعاشِرَ المُكَذِّبِينَ لِمُحَمَّدٍ بِما ذَكَرْناهُ، أيِ اعْلَمُوا أنَّكم إنْ شارَكْتُمُوهم في المَعْنى الجالِبِ لِلْعِقابِ، شارَكْتُمُوهم في حُلُولِ العِقابِ بِكم.
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا خَتَمَ هَذِهِ القِصَّةَ رَجَعَ إلى مُخاطَبَةِ مُنْكِرِي البَعْثِ، فَقالَ: ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّماءُ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: في المَقْصُودِ مِن هَذا الِاسْتِدْلالِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ اسْتِدْلالٌ عَلى مُنْكِرِي البَعْثِ، فَقالَ: ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّماءُ﴾، فَنَبَّهَهم عَلى أمْرٍ يُعْلَمُ بِالمُشاهَدَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ خِلْقَةَ الإنْسانِ عَلى صِغَرِهِ (p-٤١)وضَعْفِهِ، إذا أُضِيفَ إلى خَلْقِ السَّماءِ عَلى عِظَمِها وعِظَمِ أحْوالِها يَسِيرٌ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ خَلْقَ السَّماءِ أعْظَمُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَخَلْقُهم عَلى وجْهِ الإعادَةِ أوْلى أنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعالى فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ؟ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١] وقَوْلُهُ: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ [غافِرٍ: ٥٧] والمَعْنى أخَلْقُكم بَعْدَ المَوْتِ أشَدُّ أمْ خَلْقُ السَّماءِ أيْ عِنْدَكُمْ، وفي تَقْدِيرِكُمْ، فَإنَّ كِلا الأمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَةِ اللَّهِ واحِدٌ. والثّانِي: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الِاسْتِدْلالِ بَيانُ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ مَن أنْكَرَ كَوْنَ الإنْسانِ مَخْلُوقًا فَبِأنْ يُنْكِرَهُ في السَّماءِ كانَ أوْلى.
وثانِيهِما: أنَّ أوَّلَ السُّورَةِ كانَ في بَيانِ مَسْألَةِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، فَحَمْلُ هَذا الكَلامِ عَلَيْهِ أوْلى.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ: هَذا الكَلامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿أمِ السَّماءُ﴾، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى: (بَناها) ابْتِداءُ كَلامٍ آخَرَ، وعِنْدَ أبِي حاتِمٍ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ: (بَناها) قالَ: لِأنَّهُ مِن صِلَةِ السَّماءِ، والتَّقْدِيرُ: أمِ السَّماءُ الَّتِي بَناها، فَحَذَفَ الَّتِي، ومِثْلُ هَذا الحَذْفِ جائِزٌ، قالَ القَفّالُ: يُقالُ: الرَّجُلُ جاءَكَ عاقِلٌ، أيِ الرَّجُلُ الَّذِي جاءَكَ عاقِلٌ، إذا ثَبَتَ أنَّ هَذا جائِزٌ في اللُّغَةِ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: (بَناها) صِلَةٌ لِما قَبْلَهُ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صِلَةً لَكانَ صِفَةً، فَقَوْلُهُ: (بَناها) صِفَةٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿رَفَعَ سَمْكَها﴾ صِفَةٌ، فَقَدْ تَوالَتْ صِفَتانِ لا تَعَلُّقَ لِإحْداهُما بِالأُخْرى، فَكانَ يَجِبُ إدْخالُ العاطِفِ فِيما بَيْنَهُما، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وأغْطَشَ لَيْلَها﴾ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ قَوْلَهُ: (بَناها) صِلَةٌ لِلسَّماءِ، ثُمَّ قالَ: ﴿رَفَعَ سَمْكَها﴾ ابْتِداءٌ بِذِكْرِ صِفَتِهِ، ولِلْفَرّاءِ أنْ يَحْتَجَّ عَلى قَوْلِهِ بِأنَّهُ لَوْ كانَ قَوْلُهُ: (بَناها) صِلَةً لِلسَّماءِ لَكانَ التَّقْدِيرُ: أمِ السَّماءُ [ الَّتِي ] بَناها، وهَذا يَقْتَضِي وُجُودَ سَماءٍ ما بَناها اللَّهُ، وذَلِكَ باطِلٌ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى هو الَّذِي بَنى السَّماءَ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّ السَّماءَ جِسْمٌ، وكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ؛ لِأنَّ الجِسْمَ لَوْ كانَ أزَلِيًّا لَكانَ في الأزَلِ إمّا أنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا أوْ ساكِنًا، والقِسْمانِ باطِلانِ، فالقَوْلُ بِكَوْنِ الجِسْمِ أزَلِيًّا باطِلٌ. أمّا الحَصْرُ فَلِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هو فَيَكُونَ ساكِنًا، أوْ لا يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هو فَيَكُونَ مُتَحَرِّكًا، وإنَّما قُلْنا إنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا، لِأنَّ ماهِيَّةَ الحَرَكَةِ تَقْتَضِي المَسْبُوقِيَّةَ بِالغَيْرِ، وماهِيَّةَ الأزَلِ تُنافِي المَسْبُوقِيَّةَ بِالغَيْرِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما مُحالٌ، وإنَّما قُلْنا إنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ ساكِنًا؛ لِأنَّ السُّكُونَ وصْفٌ ثُبُوتِيٌّ، وهو مُمْكِنُ الزَّوالِ، وكُلُّ مُمْكِنِ الزَّوالِ مُفْتَقِرٌ إلى الفاعِلِ المُخْتارِ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُحْدَثٌ، فَكُلُّ سُكُونٍ مُحْدَثٌ؛ فَيَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ أزَلِيًّا، وإنَّما قُلْنا إنَّ السُّكُونَ وصْفٌ ثُبُوتِيٌّ، لِأنَّهُ يَتَبَدَّلُ كَوْنُ الجِسْمِ مُتَحَرِّكًا بِكَوْنِهِ ساكِنًا مَعَ بَقاءِ ذاتِهِ، فَأحَدُهُما لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ أمْرًا ثُبُوتِيًّا، فَإنْ كانَ الثُّبُوتِيُّ هو السُّكُونَ فَقَدْ حَصَلَ المَقْصُودُ، وإنْ كانَ الثُّبُوتِيُّ هو الحَرَكَةَ وجَبَ أيْضًا أنْ يَكُونَ السُّكُونُ ثُبُوتِيًّا؛ لِأنَّ الحَرَكَةَ عِبارَةٌ عَنِ الحُصُولِ في المَكانِ بَعْدَ أنْ كانَ في غَيْرِهِ، والسُّكُونُ عِبارَةٌ عَنِ الحُصُولِ في المَكانِ بَعْدَ أنْ كانَ فِيهِ بِعَيْنِهِ، فالتَّفاوُتُ بَيْنَ الحَرَكَةِ والسُّكُونِ لَيْسَ في الماهِيَّةِ، بَلْ في المَسْبُوقِيَّةِ بِالغَيْرِ وعَدَمِ المَسْبُوقِيَّةِ بِالغَيْرِ، وذَلِكَ وصْفٌ عارِضِيٌّ خارِجِيٌّ عَنِ الماهِيَّةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَإذا ثَبَتَ أنَّ تِلْكَ الماهِيَّةَ أمْرٌ وُجُودِيٌّ في إحْدى الصُّورَتَيْنِ وجَبَ أنْ تَكُونَ كَذَلِكَ في صُورَةٍ أُخْرى، وإنَّما قُلْنا إنَّ سُكُونَ السَّماءِ جائِزُ الزَّوالِ، لِأنَّهُ لَوْ (p-٤٢)كانَ واجِبًا لِذاتِهِ لامْتَنَعَ زَوالُهُ، فَكانَ يَجِبُ أنْ لا تَتَحَرَّكَ السَّماءُ لَكِنّا نَراها الآنَ مُتَحَرِّكَةً، فَعَلِمْنا أنَّها لَوْ كانَتْ ساكِنَةً في الأزَلِ، لَكانَ ذَلِكَ السُّكُونُ جائِزَ الزَّوالِ، وإنَّما قُلْنا إنَّ ذَلِكَ السُّكُونَ لَمّا كانَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ، افْتَقَرَ إلى الفاعِلِ المُخْتارِ لِأنَّهُ لَمّا كانَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ، فَلا بُدَّ لَهُ مِن مُؤَثِّرٍ، وذَلِكَ المُؤَثِّرُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوجِبًا؛ لِأنَّ ذَلِكَ المُوجِبَ إنْ كانَ واجِبًا، وكانَ غَنِيًّا في إيجابِهِ لِذَلِكَ المَعْلُولِ عَنْ شَرْطٍ لَزِمَ مِن دَوامِهِ دَوامُ ذَلِكَ الأثَرِ، فَكانَ يَجِبُ أنْ لا يَزُولَ لِلسُّكُونِ وإنْ كانَ واجِبًا ومُفْتَقِرًا في إيجابِهِ لِذَلِكَ المَعْلُولِ إلى شَرْطٍ واجِبٍ لِذاتِهِ، لَزِمَ مِن دَوامِ العِلَّةِ ودَوامِ الشَّرْطِ دَوامُ المَعْلُولِ، أمّا إنْ كانَ المُوجِبُ غَيْرَ واجِبٍ لِذاتِهِ، أوْ كانَ شَرْطُ إيجابِهِ غَيْرَ واجِبٍ لِذاتِهِ كانَ الكَلامُ فِيهِ كالكَلامِ في الأوَّلِ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وهو مُحالٌ أوِ الِانْتِهاءُ إلى مُوجِبٍ واجِبٍ لِذاتِهِ، وإلى شَرْطٍ واجِبٍ لِذاتِهِ، وحِينَئِذٍ يَعُودُ الإلْزامُ الأوَّلُ، فَثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ المُؤَثِّرَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ فاعِلًا مُخْتارًا، فَإذًا كَلُّ سُكُونٍ فَهو فِعْلُ فاعِلٍ مُخْتارٍ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُحْدَثٌ؛ لِأنَّ المُخْتارَ إنَّما يَفْعَلُ بِواسِطَةِ القَصْدِ، والقَصْدُ إلى تَكْوِينِ الكائِنِ وتَحْصِيلِ الحاصِلِ مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ سُكُونٍ فَهو مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الجِسْمُ في الأزَلِ لا مُتَحَرِّكًا ولا ساكِنًا، فَهو إذًا غَيْرُ مَوْجُودٍ في الأزَلِ، فَهو مُحْدَثٌ، وإذا كانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ في ذاتِهِ وفي تَرْكِيبِ أجْزائِهِ إلى مُوجِدٍ، وذَلِكَ هو اللَّهُ تَعالى، فَثَبَتَ بِالعَقْلِ أنَّ بانِيَ السَّماءِ هو اللَّهُ تَعالى.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: كُلُّ ما سِوى الواجِبِ فَهو مُمْكِنٌ، وكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، وكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ صانِعٌ، إنَّما قُلْنا: كُلُّ ما سِوى الواجِبِ مُمْكِنٌ، لِأنّا لَوْ فَرَضْنا مَوْجُودَيْنِ واجِبَيْنِ لِذاتَيْهِما لاشْتَرَكا في الوُجُودِ ولَتَبايَنا بِالتَّعْيِينِ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنهُما مُرَكَّبًا مِمّا بِهِ المُشارَكَةُ، ومِمّا بِهِ المُمايَزَةُ، وكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إلى جُزْئِهِ، وجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى غَيْرِهِ، وكُلُّ مُفْتَقِرٍ إلى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنَ الواجِبَيْنِ بِالذّاتِ مُمْكِنٌ بِالذّاتِ، هَذا خَلْفٌ، ثُمَّ يَنْقُلُ الكَلامَ إلى ذَيْنِكَ الجُزْأيْنِ، فَإنْ كانا واجِبَيْنِ، كانَ كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ مُرَكَّبًا ويَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وإنْ لَمْ يَكُونا واجِبَيْنِ كانَ المُفْتَقِرُ إلَيْهِما أوْلى بِعَدَمِ الوُجُودِ، فَثَبَتَ أنَّ ما عَدا الواجِبَ مُمْكِنٌ، وكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، وكُلُّ ما افْتَقَرَ إلى المُؤَثِّرِ مُحْدَثٌ؛ لِأنَّ الِافْتِقارَ إلى المُؤَثِّرِ لا يُمْكِنُ أنْ يَتَحَقَّقَ حالَ البَقاءِ لِاسْتِحالَةِ إيجادِ المُوجِدِ، فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ إمّا حالَ الحُدُوثِ أوْ حالَ العَدَمِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالحُدُوثُ لازِمٌ، فَثَبَتَ أنَّ ما سِوى الواجِبِ مُحْدَثٌ، وكُلُّ مُحْدَثٍ فَلا بُدَّ لَهُ مِن مُحْدِثٍ، فَلا بُدَّ لِلسَّماءِ مِن بانٍ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: صَرِيحُ العَقْلِ يَشْهَدُ بِأنَّ جِرْمَ السَّماءِ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ أكْبَرَ مِمّا هو الآنَ بِمِقْدارِ خَرْدَلَةٍ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ أصْغَرَ بِمِقْدارِ خَرْدَلَةٍ، فاخْتِصاصُ هَذا المِقْدارِ بِالوُقُوعِ دُونَ الأزْيَدِ والأنْقَصِ، لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِمُخَصِّصٍ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ لِلسَّماءِ مِن بانٍ، (فَإنْ قِيلَ): لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّهُ تَعالى خَلَقَ شَيْئًا وأعْطاهُ قُدْرَةً يَتَمَكَّنُ ذَلِكَ المَخْلُوقُ بِتِلْكَ القُدْرَةِ مِن خَلْقِ الأجْسامِ، فَيَكُونُ خالِقُ السَّماءِ وبانِيها هو ذَلِكَ الشَّيْءَ ؟
الجَوابُ: مِنَ العُلَماءِ مَن قالَ: المَعْلُومُ بِالعَقْلِ أنَّهُ لا بُدَّ لِلسَّماءِ مِن مُحْدِثٍ، وأنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الِانْتِهاءِ آخِرِ الأمْرِ إلى قَدِيمٍ، والإلَهُ قَدِيمٌ واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ واحِدٌ وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَأمّا نَفْيُ الواسِطَةِ فَإنَّما يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ، فَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: (بَناها) يَدُلُّ عَلى أنَّ بانِيَ السَّماءِ هو اللَّهُ لا غَيْرُهُ، ومِنهم مَن قالَ: بَلِ العَقْلُ يَدُلُّ عَلى بُطْلانِهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ كُلَّ ما عَداهُ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أنَّهُ قادِرٌ لا مُوجَبٌ، والَّذِي كانَ مَقْدُورًا لَهُ إنَّما صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِكَوْنِهِ مُمْكِنًا، فَإنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ الإمْكانَ بَقِيَ الوُجُوبُ أوِ الِامْتِناعُ، وهُما يُحِيلانِ المَقْدُورِيَّةَ، وإذا كانَ (p-٤٣)ما لِأجْلِهِ صَحَّ في البَعْضِ أنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ وهو الإمْكانُ، والإمْكانُ عامٌّ في المُمْكِناتِ، وجَبَ أنْ يَحْصُلَ في كُلِّ المُمْكِناتِ صِحَّةُ أنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعالى، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ ونِسْبَةُ قُدْرَتِهِ إلى الكُلِّ عَلى السَّوِيَّةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى الكُلِّ، وإذا ثَبَتَ أنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى المُمْكِناتِ، فَلَوْ قَدَّرْنا قادِرًا آخَرَ قَدَرَ عَلى بَعْضِ المُمْكِناتِ، لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ واحِدٍ بَيْنَ قادِرَيْنِ مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ، وذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَقَعَ بِأحَدِهِما دُونَ الآخَرِ وهو مُحالٌ، لِأنَّهُما لَمّا كانا مُسْتَقِلَّيْنِ بِالِاقْتِضاءِ فَلَيْسَ وُقُوعُهُ بِهَذا أوْلى مِن وُقُوعِهِ بِذاكَ أوْ بِهِما مَعًا، وهو أيْضًا مُحالٌ لِأنَّهُ يَسْتَغْنِي بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، فَيَكُونُ مُحْتاجًا إلَيْهِما مَعًا وغَنِيًّا عَنْهُما مَعًا وهو مُحالٌ، فَثَبَتَ بِهَذا أنَّهُ لا يُمْكِنُ وُقُوعُ مُمْكِنٍ آخَرَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا الكَلامُ جَيِّدٌ، لَكِنْ عَلى قَوْلِ مَن لا يُثْبِتُ في الوُجُودِ مُؤَثِّرًا سِوى الواحِدِ، فَهَذا جُمْلَةُ ما في هَذا البابِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في السَّماءِ أنَّهُ بَناها، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُ كَيْفَ بَناها، وشَرَحَ تِلْكَ الكَيْفِيَّةَ مِن وُجُوهٍ:
أوَّلُها: ما يَتَعَلَّقُ بِالمَكانِ، فَقالَ تَعالى: ﴿رَفَعَ سَمْكَها﴾ .
واعْلَمْ أنَّ امْتِدادَ الشَّيْءِ إذا أُخِذَ مِن أعْلاهُ إلى أسْفَلِهِ سُمِّيَ عُمْقًا، وإذا أُخِذَ مِن أسْفَلِهِ إلى أعْلاهُ سُمِّيَ سَمْكًا، فالمُرادُ بِرَفْعِ سَمْكِها شِدَّةُ عُلُوِّها حَتّى ذَكَرُوا أنَّ ما بَيْنَ الأرْضِ وبَيْنَها مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، و[ قَدْ ] بَيَّنَ أصْحابُ الهَيْئَةِ مَقادِيرَ الأجْرامِ الفَلَكِيَّةِ وأبْعادَ ما بَيْنَ كُلِّ واحِدٍ مِنها وبَيْنَ الأرْضِ. وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ: رَفْعُ سَمْكِها مِن غَيْرِ عَمَدٍ، وذَلِكَ مِمّا لا يَصِحُّ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى.
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: (فَسَوّاها) وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: المُرادُ تَسْوِيَةُ تَأْلِيفِها، وقِيلَ: بَلِ المُرادُ نَفْيُ الشُّقُوقِ عَنْها، كَقَوْلِهِ: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ [المُلْكِ: ٣] والقائِلُونَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ قالُوا: (فَسَوّاها) عامٌّ، فَلا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالتَّسْوِيَةِ في بَعْضِ الأشْياءِ، ثُمَّ قالُوا: هَذا يَدُلُّ عَلى كَوْنِ السَّماءِ كُرَةً؛ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُرَةً لَكانَ بَعْضُ جَوانِبِهِ سَطْحًا، والبَعْضُ زاوِيَةً، والبَعْضُ خَطًّا، ولَكانَ بَعْضُ أجْزائِهِ أقْرَبَ إلَيْنا، والبَعْضُ أبْعَدَ، فَلا تَكُونُ التَّسْوِيَةُ الحَقِيقَةُ حاصِلَةً، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُرَةً حَتّى تَكُونَ التَّسْوِيَةُ الحَقِيقَةُ حاصِلَةً، ثُمَّ قالُوا: لَمّا ثَبَتَ أنَّها مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلى فاعِلٍ مُخْتارٍ، فَأيُّ ضَرَرٍ في الدِّينِ يَنْشَأُ مِن كَوْنِها كُرَةً؟ .
{"ayahs_start":26,"ayahs":["إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَعِبۡرَةࣰ لِّمَن یَخۡشَىٰۤ","ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَاۤءُۚ بَنَىٰهَا","رَفَعَ سَمۡكَهَا فَسَوَّىٰهَا"],"ayah":"ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَاۤءُۚ بَنَىٰهَا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











