الباحث القرآني

(أوَّلُها): قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَقُولُونَ أئِنّا لَمَرْدُودُونَ في الحافِرَةِ﴾ يُقالُ: رَجَعَ فُلانٌ في حافِرَتِهِ أيْ في طَرِيقِهِ الَّتِي جاءَ فِيها فَحَفَرَها، أيْ أثَّرَ فِيها بِمَشْيِهِ فِيها، جَعَلَ أثَرَ قَدَمَيْهِ حَفْرًا، فَهي في الحَقِيقَةِ مَحْفُورَةٌ إلّا أنَّها سُمِّيَتْ حافِرَةٌ، كَما قِيلَ: ﴿فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [الحاقَّةِ: ٢١] و﴿ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطّارِقِ: ٦] أيْ مَنسُوبَةٍ إلى الحَفْرِ والرِّضا والدَّفْقِ، أوْ كَقَوْلِهِمْ: نَهارُكَ صائِمٌ، ثُمَّ قِيلَ لِمَن كانَ في أمْرٍ فَخَرَجَ مِنهُ ثُمَّ عادَ إلَيْهِ: رَجَعَ إلى حافِرَتِهِ، أيْ إلى طَرِيقَتِهِ، وفي الحَدِيثِ: ”«إنَّ هَذا الأمْرَ لا يُتْرَكُ عَلى حالِهِ حَتّى يُرَدَّ عَلى حافِرَتِهِ» “ أيْ عَلى أوَّلِ تَأْسِيسِهِ وحالَتِهِ الأُولى. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: في الحُفْرَةِ، والحُفْرَةُ بِمَعْنى المَحْفُورَةِ، يُقالُ: حَفَرَتْ أسْنانُهُ، فَحَفَرَتْ حَفْرًا، وهي حُفْرَةٌ، هَذِهِ القِراءَةُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الحافِرَةَ في أصْلِ الكَلِمَةِ بِمَعْنى المَحْفُورِ، إذا عَرَفْتَ هَذا ظَهَرَ أنَّ مَعْنى الآيَةِ: أنُرَدُّ إلى أوَّلِ حالِنا وابْتِداءِ أمْرِنا فَنَصِيرُ أحْياءً كَما كُنّا؟ (وثانِيها) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أئِذا كُنّا عِظامًا نَخِرَةً﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ وعاصِمٌ (ناخِرَةً) بِألِفٍ، وقَرَأ الباقُونَ (نَخِرَةً) بِغَيْرِ ألِفٍ، واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنِ الكِسائِيِّ فَقِيلَ: إنَّهُ كانَ لا يُبالِي كَيْفَ قَرَأها، وقِيلَ: إنَّهُ كانَ يَقْرَؤُها بِغَيْرِ ألِفٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلى الألِفِ، واعْلَمْ أنَّ (p-٣٤)أبا عُبَيْدَةَ اخْتارَ نَخِرَةً، وقالَ: نَظَرْنا في الآثارِ الَّتِي فِيها ذِكْرُ العِظامِ الَّتِي قَدْ نَخِرَتْ، فَوَجَدْناها كُلَّها العِظامَ النَّخِرَةَ، ولَمْ نَسْمَعْ في شَيْءٍ مِنها النّاخِرَةَ، وأمّا مَن سِواهُ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ النّاخِرَةَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ عَلى قَوْلَيْنِ: (الأوَّلُ) أنِ النّاخِرَةَ والنَّخِرَةَ بِمَعْنًى واحِدٍ، قالَ الأخْفَشُ: هُما جَمِيعًا لُغَتانِ أيَّهُما قَرَأْتَ فَحَسَنٌ، وقالَ الفَرّاءُ: النّاخِرُ والنَّخِرُ سَواءٌ في المَعْنى بِمَنزِلَةِ الطّامِعِ والطَّمِعِ، والباخِلِ والبَخِلِ، وفي كِتابِ الخَلِيلِ: نَخِرَتِ الخَشَبَةُ إذا بَلِيَتْ فاسْتَرْخَتْ حَتّى تَتَفَتَّتَ إذا مُسَّتْ، وكَذَلِكَ العَظْمُ النّاخِرُ، ثُمَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ قالُوا: هُما لُغَتانِ والمَعْنى واحِدٌ اخْتَلَفُوا، فَقالَ الزَّجّاجُ والفَرّاءُ: النّاخِرَةُ أشْبَهُ الوَجْهَيْنِ بِالآيَةِ لِأنَّها تُشْبِهُ أواخِرَ سائِرِ الآيِ نَحْوَ الحافِرَةِ والسّاهِرَةِ، وقالَ آخَرُونَ: النّاخِرَةُ والنَّخِرُ كالطّامِعِ والطَّمِعِ، واللّابِثِ واللَّبِثِ، وفَعِلٌ أبْلَغُ مِن فاعِلٍ. (القَوْلُ الثّانِي): أنَّ النَّخِرَةَ غَيْرٌ والنّاخِرَةَ غَيْرٌ، أمّا النَّخِرَةُ فَهو مِن نَخِرَ العَظْمُ يَنْخَرُ فَهو نَخِرٌ مِثْلُ عَفِنَ يَعْفَنُ فَهو عَفِنٌ، وذَلِكَ إذا بَلِيَ وصارَ بِحَيْثُ لَوْ لَمَسْتَهُ لَتَفَتَّتَ، وأمّا النّاخِرَةُ فَهي العِظامُ الفارِغَةُ الَّتِي يَحْصُلُ مِن هُبُوبِ الرِّيحِ فِيها صَوْتٌ كالنَّخِيرِ، وعَلى هَذا النّاخِرَةُ مِنَ النَّخِيرِ بِمَعْنى الصَّوْتِ كَنَخِيرِ النّائِمِ والمَخْنُوقِ لا مِنَ النَّخَرِ الَّذِي هو البِلى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إذا مَنصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إذا كُنّا عِظامًا نُرَدُّ ونُبْعَثُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ حاصِلَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أنَّ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ كُلُّ أحَدٍ إلى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أنا هو هَذا الجِسْمُ المَبْنِيُّ بِهَذِهِ البِنْيَةِ المَخْصُوصَةِ، فَإذا ماتَ الإنْسانُ فَقَدْ بَطَلَ مِزاجُهُ وفَسَدَ تَرْكِيبُهُ فَتَمْتَنِعُ إعادَتُهُ لِوُجُوهٍ: (أحَدُها): أنَّهُ لا يَكُونُ الإنْسانُ العائِدُ هو الإنْسانُ الأوَّلُ إلّا إذا دَخَلَ التَّرْكِيبُ الأوَّلُ في الوُجُودِ مَرَّةً أُخْرى، وذَلِكَ قَوْلٌ بِإعادَةِ عَيْنِ ما عُدِمَ أوَّلًا، وهَذا مُحالٌ لِأنَّ الَّذِي عُدِمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَيْنٌ ولا ذاتٌ ولا خُصُوصِيَّةٌ، فَإذا دَخَلَ شَيْءٌ آخَرُ في الوُجُودِ اسْتَحالَ أنْ يُقالَ بِأنَّ العائِدَ هو عَيْنُ ما فَنِيَ أوَّلًا. وثانِيها: أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ تَصِيرُ تُرابًا وتَتَفَرَّقُ وتَخْتَلِطُ بِأجْزاءِ كُلِّ الأرْضِ وكُلِّ المِياهِ وكُلِّ الهَواءِ، فَتَمَيُّزُ تِلْكَ الأجْزاءِ بِأعْيانِها عَنْ كُلِّ هَذِهِ الأشْياءِ مُحالٌ. وثالِثُها: أنَّ الأجْزاءَ التُّرابِيَّةَ بارِدَةٌ يابِسَةٌ قَشِفَةٌ، فَتَوَلُّدُ الإنْسانِ الَّذِي لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ حارًّا رَطْبًا في مِزاجِهِ عَنْها مُحالٌ، هَذا تَمامُ تَقْرِيرِ كَلامِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ احْتَجُّوا عَلى إنْكارِ البَعْثِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أئِذا كُنّا عِظامًا نَخِرَةً﴾ والجَوابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِن وُجُوهٍ: أوَّلُها وهو الأقْوى: لا نُسَلِّمُ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ لِكُلِّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ: أنا هو هَذا الهَيْكَلُ، ثُمَّ إنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلى فَسادِهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ أجْزاءَ هَذا الهَيْكَلِ في الذَّوَبانِ والتَّبَدُّلِ، والَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ كُلُّ أحَدٍ إلى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أنا لَيْسَ في التَّبَدُّلِ، والمُتَبَدِّلُ مُغايِرٌ لِما هو غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ. والثّانِي: أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَعْرِفُ أنَّهُ هو حالَ كَوْنِهِ غافِلًا عَنْ أعْضائِهِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، والمَشْعُورُ بِهِ مُغايِرٌ لِما هو غَيْرُ مَشْعُورٍ بِهِ، وإلّا لاجْتَمَعَ النَّفْيُ والإثْباتُ عَلى الشَّيْءِ الواحِدِ وهو مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ لِكُلِّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ: أنا لَيْسَ هو هَذا الهَيْكَلَ. ثُمَّ هاهُنا ثَلاثَةُ احْتِمالاتٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا قائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا بِجُسْمانِيٍّ عَلى ما هو مَذْهَبُ طائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الفَلاسِفَةِ ومِنَ المُسْلِمِينَ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ جِسْمًا مُخالِفًا بِالماهِيَّةِ لِهَذِهِ الأجْسامِ القابِلَةِ لِلِانْحِلالِ والفَسادِ سارِيَةً فِيها سَرَيانَ النّارِ في الفَحْمِ وسَرَيانَ الدُّهْنِ في السِّمْسِمِ وسَرَيانَ ماءِ الوَرْدِ في جِرْمِ الوَرْدِ، فَإذا فَسَدَ هَذا الهَيْكَلُ تَقَلَّصَتْ تِلْكَ الأجْزاءُ وبَقِيَتْ حَيَّةً مُدْرِكَةً عاقِلَةً، إمّا في الشَّقاوَةِ أوْ في السَّعادَةِ. وثالِثُها: أنْ يُقالَ إنَّهُ جِسْمٌ مُساوٍ لِهَذِهِ الأجْسامِ في الماهِيَّةِ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى خَصَّها بِالبَقاءِ والِاسْتِمْرارِ مِن أوَّلِ حالِ تَكَوُّنِ شَخْصٍ في الوُجُودِ إلى آخِرِ عُمْرِهِ، وأمّا سائِرُ الأجْزاءِ المُتَبَدِّلَةِ تارَةً (p-٣٥)بِالزِّيادَةِ وأُخْرى بِالنُّقْصانِ فَهي غَيْرُ داخِلَةٍ في المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أنا، فَعِنْدَ المَوْتِ تَنْفَصِلُ تِلْكَ الأجْزاءُ وتَبْقى حَيَّةً، إمّا في السَّعادَةِ أوْ في الشَّقاوَةِ، وإذا ظَهَرَتْ هَذِهِ الِاحْتِمالاتُ ثَبَتَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن فَسادِ البَدَنِ وتَفَرُّقِ أجْزائِهِ فَسادُ ما هو الإنْسانُ حَقِيقَةً، وهَذا مَقامٌ حَسَنٌ مَتِينٌ تَنْقَطِعُ بِهِ جَمِيعُ شُبُهاتِ مُنْكِرِي البَعْثِ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَكُونُ لِصَيْرُورَةِ العِظامِ نَخِرَةً بالِيَةً مُتَفَرِّقَةً تَأْثِيرٌ في دَفْعِ الحَشْرِ والنَّشْرِ البَتَّةَ. سَلَّمْنا عَلى سَبِيلِ المُسامَحَةِ أنَّ الإنْسانَ هو مَجْمُوعُ هَذا الهَيْكَلِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الإعادَةَ مُمْتَنِعَةٌ؟ قَوْلُهُ: [ أوَّلًا ] المَعْدُومُ لا يُعادُ، قُلْنا: ألَيْسَ أنَّ حالَ عَدَمِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَكم صِحَّةُ الحُكْمِ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يَمْتَنِعُ عَوْدُهُ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ لا يَمْتَنِعَ عَلى قَوْلِنا أيْضًا صِحَّةُ الحُكْمِ عَلَيْهِ بِالعَوْدِ. قَوْلُهُ: ثانِيًا: الأجْزاءُ القَلِيلَةُ مُخْتَلِطَةٌ بِأجْزاءِ العَناصِرِ الأرْبَعَةِ، قُلْنا: لَكِنْ ثَبَتَ أنَّ خالِقَ العالَمِ عالِمٌ بِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ، وقادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ فَيَصِحُّ مِنهُ جَمْعُها بِأعْيانِها وإعادَةُ الحَياةِ إلَيْها. قَوْلُهُ: ثالِثًا: الأجْسامُ القَشِفَةُ اليابِسَةُ لا تَقْبَلُ الحَياةَ. قُلْنا: نَرى السَّمَندَلَ يَعِيشُ في النّارِ، والنَّعامَةَ تَبْتَلِعُ الحَدِيدَةَ المُحْماةَ، والحَيّاتِ الكِبارَ العِظامَ مُتَوَلِّدَةً في الثُّلُوجِ، فَبَطَلَ الِاعْتِمادُ عَلى الِاسْتِقْراءِ، واللَّهُ الهادِي إلى الصِّدْقِ والصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب