الباحث القرآني

أوَّلُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازًا﴾ أمّا المُتَّقِي فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ، و(مَفازًا) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنى فَوْزًا وظَفَرًا بِالبُغْيَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَوْضِعَ فَوْزٍ، والفَوْزُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ فَوْزًا بِالمَطْلُوبِ، وأنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ فَوْزًا بِالنَّجاةِ مِنَ العَذابِ، وأنْ يَكُونَ المُرادُ مَجْمُوعَ الأمْرَيْنِ، وعِنْدِي أنَّ تَفْسِيرَهُ بِالفَوْزِ بِالمَطْلُوبِ أوْلى مِن تَفْسِيرِهِ بِالفَوْزِ بِالنَّجاةِ مِنَ العَذابِ، ومِن تَفْسِيرِهِ بِالفَوْزِ بِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ أعْنِي النَّجاةَ مِنَ الهَلاكِ والوُصُولَ إلى المَطْلُوبِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى فَسَّرَ المَفازَ بِما بَعْدَهُ وهو قَوْلُهُ: ﴿حَدائِقَ وأعْنابًا﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ المَفازِ هَذا القَدْرُ، فَإنْ قِيلَ: الخَلاصُ مِنَ الهَلاكِ أهَمُّ مِن حُصُولِ اللَّذَّةِ، فَلِمَ أُهْمِلَ الأهَمُّ وذُكِرَ غَيْرُ الأهَمِّ؟ قُلْنا: لِأنَّ الخَلاصَ مِنَ الهَلاكِ لا يَسْتَلْزِمُ الفَوْزَ بِاللَّذَّةِ والخَيْرِ، أمّا الفَوْزُ بِاللَّذَّةِ والخَيْرِ فَيَسْتَلْزِمُ الخَلاصَ مِنَ الهَلاكِ، فَكانَ ذِكْرُ هَذا أوْلى. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَدائِقَ وأعْنابًا﴾ والحَدائِقُ جَمْعُ حَدِيقَةٍ، وهي بُسْتانٌ مَحُوطٌ عَلَيْهِ، مِن قَوْلِهِمْ: أحْدَقُوا بِهِ أيْ أحاطُوا بِهِ، والتَّنْكِيرُ في قَوْلِهِ: (وأعْنابًا) يَدُلُّ عَلى تَعْظِيمِ حالِ تِلْكَ الأعْنابِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَواعِبَ أتْرابًا﴾ كَواعِبُ جَمْعُ كاعِبٍ وهي النَّواهِدُ الَّتِي تَكَعَّبَتْ ثُدِيُّهُنَّ وتَفَلَّكَتْ، أيْ يَكُونُ الثَّدْيُ في النُّتُوءِ كالكَعْبِ والفَلْكَةِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَأْسًا دِهاقًا﴾ وفي الدِّهاقِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ اللُّغَةِ كَأبِي عُبَيْدَةَ والزَّجّاجِ والكِسائِيِّ والمُبَرِّدِ، و(دِهاقًا) أيْ مُمْتَلِئَةً، دَعا ابْنُ عَبّاسٍ غُلامًا لَهُ فَقالَ: اسْقِنا دِهاقًا، فَجاءَ الغُلامُ بِها مَلْأى، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا هو الدِّهاقُ، قالَ عِكْرِمَةُ: رُبَّما سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: اسْقِنا وأدْهِقْ لَنا. القَوْلُ الثّانِي: دِهاقًا أيْ مُتَتابِعَةً وهو قَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٍ، قالَ الواحِدِيُّ: وأصْلُ هَذا القَوْلِ مِن قَوْلِ العَرَبِ: ادَّهَقَتِ الحِجارَةُ ادِّهاقًا، وهو شِدَّةُ تَلازُمِها ودُخُولُ بَعْضِها في بَعْضٍ، ذَكَرَها اللَّيْثُ، والمُتَتابِعُ كالمُتَداخِلِ. القَوْلُ الثّالِثُ: يُرْوى عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهُ قالَ: (دِهاقًا) أيْ صافِيَةً، والدِّهاقُ عَلى هَذا القَوْلِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ داهِقٍ، وهو خَشَبَتانِ يُعْصَرُ بِهِما، والمُرادُ بِالكَأْسِ الخَمْرُ، قالَ الضَّحّاكُ: كُلُّ كَأْسٍ في القُرْآنِ فَهو خَمْرٌ، التَّقْدِيرُ: وخَمْرًا ذاتَ دِهاقٍ، أيْ عُصِرَتْ وصُفِّيَتْ بِالدِّهاقِ. (p-٢٠)وخامِسُها: قَوْلُهُ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا كِذّابًا﴾ في الآيَةِ سُؤالانِ: الأوَّلُ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (فِيها) إلى ماذا يَعُودُ؟ الجَوابُ: فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّها تَرْجِعُ إلى الكَأْسِ، أيْ لا يَجْرِي بَيْنَهم لَغْوٌ في الكَأْسِ الَّتِي يَشْرَبُونَها، وذَلِكَ لِأنَّ أهْلَ الشَّرابِ في الدُّنْيا يَتَكَلَّمُونَ بِالباطِلِ، وأهْلُ الجَنَّةِ إذا شَرِبُوا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَقْلُهُمْ، ولَمْ يَتَكَلَّمُوا بِلَغْوٍ. والثّانِي: أنَّ الكِنايَةَ تَرْجِعُ إلى الجَنَّةِ، أيْ لا يَسْمَعُونَ في الجَنَّةِ شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ. السُّؤالُ الثّانِي: الكَذّابُ بِالتَّشْدِيدِ يُفِيدُ المُبالَغَةَ، فَوُرُودُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّابًا﴾ مُناسِبٌ؛ لِأنَّهُ يُفِيدُ المُبالَغَةَ في وصْفِهِمْ بِالكَذِبِ، أمّا وُرُودُهُ هاهُنا فَغَيْرُ لائِقٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا كِذّابًا﴾ يُفِيدُ أنَّهم لا يَسْمَعُونَ الكَذِبَ العَظِيمَ، وهَذا لا يَنْفِي أنَّهم يَسْمَعُونَ الكَذِبَ القَلِيلَ، ولَيْسَ مَقْصُودُ الآيَةِ ذَلِكَ بَلِ المَقْصُودُ المُبالَغَةُ في أنَّهم لا يَسْمَعُونَ الكَذِبَ البَتَّةَ، والحاصِلُ أنَّ هَذا اللَّفْظَ يُفِيدُ نَفْيَ المُبالَغَةِ واللّائِقُ بِالآيَةِ المُبالَغَةُ في النَّفْيِ. والجَوابُ: أنَّ الكِسائِيَّ قَرَأ الأوَّلَ بِالتَّشْدِيدِ والثّانِيَ بِالتَّخْفِيفِ، ولَعَلَّ غَرَضَهُ ما قَرَّرْناهُ في هَذا السُّؤالِ؛ لِأنَّ قِراءَةَ التَّخْفِيفِ هاهُنا تُفِيدُ أنَّهم لا يَسْمَعُونَ الكَذِبَ أصْلًا، لِأنَّ الكِذابَ بِالتَّخْفِيفِ والكَذِبَ واحِدٌ لِأنَّ أبا عَلِيٍّ الفارِسِيَّ قالَ: كِذابٌ مَصْدَرُ كَذَبَ كَكِتابٍ مَصْدَرُ كَتَبَ، فَإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتِ القِراءَةُ بِالتَّخْفِيفِ تُفِيدُ المُبالَغَةَ في النَّفْيِ، وقِراءَةُ التَّشْدِيدِ في الأوَّلِ تُفِيدُ المُبالَغَةَ في الثُّبُوتِ، فَيَحْصُلُ المَقْصُودُ مِن هَذِهِ القِراءَةِ في المَوْضِعَيْنِ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، فَإنْ أخَذْنا بِقِراءَةِ الكِسائِيِّ فَقَدْ زالَ السُّؤالُ، وإنْ أخَذْنا بِقِراءَةِ التَّشْدِيدِ في المَوْضِعَيْنِ وهي قِراءَةُ الباقِينَ، فالعُذْرُ عَنْهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا كِذّابًا﴾ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّابًا﴾، والمَعْنى أنَّ هَؤُلاءِ السُّعَداءَ لا يَسْمَعُونَ كَلامَهُمُ المُشَوَّشَ الباطِلَ الفاسِدَ، والحاصِلُ أنَّ النِّعَمَ الواصِلَةَ إلَيْهِمْ تَكُونُ خالِيَةً عَنْ زَحْمَةِ أعْدائِهِمْ وعَنْ سَماعِ كَلامِهِمُ الفاسِدِ وأقْوالِهِمُ الكاذِبَةِ الباطِلَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب