الباحث القرآني

ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا ولا شَرابًا﴾ ﴿إلّا حَمِيمًا وغَسّاقًا﴾ ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: إنِ اخْتَرْنا قَوْلَ الزَّجّاجِ كانَ قَوْلُهُ: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا ولا شَرابًا﴾ مُتَّصِلًا بِما قَبْلَهُ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (فِيها) عائِدًا إلى الأحْقابِ، وإنْ لَمْ نَقُلْ بِهِ كانَ هَذا كَلامًا مُسْتَأْنَفًا مُبْتَدَأً، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ عائِدًا إلى جَهَنَّمَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: (بَرْدًا) وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ البَرْدُ المَعْرُوفُ، والمُرادُ أنَّهم لا يَذُوقُونَ مَعَ شِدَّةِ الحَرِّ ما يَكُونُ فِيهِ راحَةٌ مِن رِيحٍ بارِدَةٍ، أوْ ظِلٌّ يَمْنَعُ مِن نارٍ، ولا يَجِدُونَ شَرابًا يُسْكِنُ عَطَشَهُمْ، ويُزِيلُ الحُرْقَةَ عَنْ بَواطِنِهِمْ، والحاصِلُ أنَّهم لا يَجِدُونَ هَواءً بارِدًا، ولا ماءً بارِدًا. والثّانِي: البَرْدُ هاهُنا النَّوْمُ، وهو قَوْلُ الأخْفَشِ والكِسائِيِّ والفَرّاءِ وقُطْرُبٍ والعُتْبِيِّ، قالَ الفَرّاءُ: وإنَّما سُمِّيَ النَّوْمُ بَرْدًا لِأنَّهُ يُبَرِّدُ صاحِبَهُ، فَإنَّ العَطْشانَ يَنامُ فَيَبْرُدُ بِالنَّوْمِ، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ والمُبَرِّدُ في بَيانِ أنَّ المُرادَ النَّوْمُ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎بَرُدَتْ مَراشِفُها عَلَيَّ فَصَدَّنِي عَنْها وعَنْ رَشَفاتِها البَرْدُ يَعْنِي النَّوْمَ، قالَ المُبَرِّدُ: ومِن أمْثالِ العَرَبِ: مَنَعَ البَرْدُ البَرْدَ أيْ أصابَنِي مِنَ البَرْدِ ما مَنَعَنِي مِنَ النَّوْمِ، واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أوْلى لِأنَّهُ إذا أمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى الحَقِيقَةِ المَشْهُورَةِ، فَلا مَعْنى لِحَمْلِهِ عَلى المَجازِ النّادِرِ الغَرِيبِ، والقائِلُونَ بِالقَوْلِ الثّانِي تَمَسَّكُوا في إثْباتِهِ بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لا يُقالُ: ذُقْتُ البَرْدَ ويُقالُ: ذُقْتُ النَّوْمَ. الثّانِي: أنَّهم يَذُوقُونَ بَرْدَ الزَّمْهَرِيرِ، فَلا يَصِحُّ أنْ يُقالَ إنَّهم ما ذاقُوا بَرْدًا، وهَبْ أنَّ ذَلِكَ البَرْدَ بَرْدٌ تَأذَّوْا بِهِ، ولَكِنْ كَيْفَ كانَ، فَقَدْ ذاقُوا البَرْدَ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: كَما أنَّ ذَوْقَ البَرْدِ مَجازٌ فَكَذا ذَوْقُ النَّوْمِ أيْضًا مَجازٌ، ولِأنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا﴾ أيْ لا يَسْتَنْشِقُونَ فِيها نَفَسًا بارِدًا، ولا هَواءً بارِدًا، والهَواءُ المُسْتَنْشَقُ مَمَرُّهُ الفَمُ والأنْفُ، فَجازَ إطْلاقُ لَفْظِ الذَّوْقِ عَلَيْهِ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لا يَذُوقُونَ فِيها البَرْدَ، بَلْ قالَ: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا واحِدًا، وهو البَرْدُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ ويَسْتَرِيحُونَ إلَيْهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في الحَمِيمِ أنَّهُ الصُّفْرُ المُذابُ، وهو باطِلٌ، بَلِ الحَمِيمُ الماءُ الحارُّ المَغْلِيُّ جِدًّا. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ذَكَرُوا في الغَسّاقِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ أبُو مُعاذٍ: كُنْتُ أسْمَعُ مَشايِخَنا يَقُولُونَ: الغَسّاقُ فارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَقَذَّرُونَهُ: (p-١٥)خاشاك. وثانِيها: أنَّ الغَسّاقُ هو الشَّيْءُ البارِدُ الَّذِي لا يُطاقُ، وهو الَّذِي يُسَمّى بِالزَّمْهَرِيرِ. وثالِثُها: الغَسّاقُ ما يَسِيلُ مِن أعْيُنِ أهْلِ النّارِ وجُلُودِهِمْ مِنَ الصَّدِيدِ والقَيْحِ والعَرَقِ وسائِرِ الرُّطُوباتِ المُسْتَقْذَرَةِ، وفي كِتابِ الخَلِيلِ: غَسَقَتْ عَيْنُهُ، تَغْسِقُ غَسْقًا وغَسَقاقًا. ورابِعُها: الغَسّاقُ هو المُنْتِنُ، ودَلِيلُهُ ما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنَ الغَسّاقِ يُهْراقُ عَلى الدُّنْيا لَأنْتَنَ أهْلُ الدُّنْيا» “ . وخامِسُها: أنَّ الغاسِقَ هو المُظْلِمُ، قالَ تَعالى: ﴿ومِن شَرِّ غاسِقٍ إذا وقَبَ﴾ [الفَلَقِ: ٣] فَيَكُونُ الغَسّاقُ شَرابًا أسْوَدَ مَكْرُوهًا يُسْتَوْحَشُ كَما يُسْتَوْحَشُ الشَّيْءُ المُظْلِمُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنْ فَسَّرْنا الغَسّاقَ بِالبارِدِ كانَ التَّقْدِيرُ: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا إلّا غَسّاقًا ولا شَرابًا إلّا حَمِيمًا، إلّا أنَّهُما جُمِعا لِأجْلِ انْتِظامِ الآيِ، ومِثْلُهُ مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎كَأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا ويابِسًا ∗∗∗ لَدى وكْرِها العُنّابُ والحَشَفُ البالِي والمَعْنى كَأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا العُنّابُ ويابِسًا الحَشَفُ البالِي. أمّا إنْ فَسَّرْنا الغَسّاقَ بِالصَّدِيدِ أوْ بِالنَّتْنِ احْتَمَلَ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ بِالحَمِيمِ والغَسّاقِ راجِعًا إلى البَرْدِ والشَّرابِ مَعًا، وأنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالشَّرابِ فَقَطْ. أمّا الِاحْتِمالُ الأوَّلُ: فَهو أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لا يَذُوقُونَ فِيها شَرابًا إلّا الحَمِيمَ البالِغَ في الحَمِيمِ والصَّدِيدَ المُنْتِنَ. وأمّا الِاحْتِمالُ الثّانِي: فَهو أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لا يَذُوقُونَ فِيها شَرابًا إلّا الحَمِيمَ البالِغَ في السُّخُونَةِ أوِ الصَّدِيدَ المُنْتِنَ، واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ، فَإنْ قِيلَ: الصَّدِيدُ لا يُشْرَبُ فَكَيْفَ اسْتُثْنِيَ مِنَ الشَّرابِ؟ قُلْنا: إنَّهُ مائِعٌ فَأُمْكِنَ أنْ يُشْرَبَ في الجُمْلَةِ، فَإنْ ثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ كانَ ذَلِكَ اسْتِثْناءً مِن غَيْرِ الجِنْسِ، ووَجْهُهُ مَعْلُومٌ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وعاصِمٌ مِن رِوايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ: (غَسّاقًا) بِالتَّشْدِيدِ، فَكَأنَّهُ فَعّالٌ بِمَعْنى مَيّالٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، مِثْلُ شَرابٍ، والأوَّلُ نَعْتٌ والثّانِي اسْمٌ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ أنْواعَ عُقُوبَةِ الكُفّارِ بَيَّنَ فِيما بَعْدَهُ أنَّهُ: ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ وفي المَعْنى وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى أنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً شَدِيدَةً بِسَبَبِ أنَّهم أتَوْا بِمَعْصِيَةٍ شَدِيدَةٍ فَيَكُونُ العِقابُ (وِفاقًا) لِلذَّنْبِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشُّورى: ٤٠] . والثّانِي: أنَّهُ (وِفاقًا) مِن حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَلى قَدْرِ الِاسْتِحْقاقِ ولَمْ يَنْقُصْ عَنْهُ، وذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنْ يَكُونَ الوِفاقُ والمُوافِقُ واحِدًا في اللُّغَةِ والتَّقْدِيرُ جَزاءً مُوافِقًا. وثانِيها: أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى المَصْدَرِ والتَّقْدِيرُ جَزاءً وافَقَ أعْمالَهم (وِفاقًا) . وثالِثُها: أنْ يَكُونَ وُصِفَ بِالمَصْدَرِ كَما يُقالُ: فُلانٌ فَضْلٌ وكَرَمٌ؛ لِكَوْنِهِ كامِلًا في ذَلِكَ المَعْنى، كَذَلِكَ هاهُنا لَمّا كانَ ذَلِكَ الجَزاءُ كامِلًا في كَوْنِهِ عَلى وفْقِ الِاسْتِحْقاقِ وصَفَ الجَزاءَ بِكَوْنِهِ (وِفاقًا) . ورابِعُها: أنْ يَكُونَ بِحَذْفِ المُضافِ والتَّقْدِيرُ جَزاءً ذا وِفاقٍ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: ”وفّاقًا“ فَعّالًا مِنَ الوَفْقِ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذا العَذابُ البالِغُ في الشِّدَّةِ الغَيْرُ المُتَناهِي بِحَسَبِ المُدَّةِ (وِفاقًا) لِلْإتْيانِ بِالكُفْرِ لَحْظَةً واحِدَةً، وأيْضًا فَعَلى قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ إذا كانَ الكُفْرُ واقِعًا بِخَلْقِ اللَّهِ وإيجادِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذا وِفاقًا لَهُ؟ وأمّا عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ فَكانَ عِلْمُ اللَّهِ بِعَدَمِ إيمانِهِمْ حاصِلًا ووُجُودُ إيمانِهِمْ مُنافٍ بِالذّاتِ لِذَلِكَ العِلْمِ، فَمَعَ قِيامِ أحَدِ المُتَنافِيَيْنِ كانَ التَّكْلِيفُ بِإدْخالِ المُنافِي الثّانِي في الوُجُودِ مُمْتَنِعًا لِذاتِهِ وعَيْنِهِ، ويَكُونُ تَكْلِيفًا بِالجَمْعِ بَيْنَ المُتَنافِيَيْنِ، فَكَيْفَ (p-١٦)يَكُونُ مِثْلُ هَذا العَذابِ الشَّدِيدِ الدّائِمِ وِفاقًا لِمِثْلِ هَذا الجُرْمِ؟ قُلْنا: يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ عَلى الإجْمالِ أنَّ ذَلِكَ الجَزاءَ كانَ عَلى وفْقِ جُرْمِهِمْ شَرَحَ أنْواعَ جَرائِمِهِمْ، وهي بَعْدَ ذَلِكَ نَوْعانِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب