الباحث القرآني

وخامِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ لِباسًا﴾ قالَ القَفّالُ: أصْلُ اللِّباسِ هو الشَّيْءُ الَّذِي يَلْبَسُهُ الإنْسانُ ويَتَغَطّى بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُغَطِّيًا لَهُ، فَلَمّا كانَ اللَّيْلُ يَغْشى النّاسَ بِظُلْمَتِهِ فَيُغَطِّيهِمْ جُعِلَ لِباسًا لَهُمْ، (p-٨)وهَذا السَّبْتُ، سُمِّيَ اللَّيْلُ لِباسًا عَلى وجْهِ المَجازِ، والمُرادُ كَوْنُ اللَّيْلِ ساتِرًا لَهم. وأمّا وجْهُ النِّعْمَةِ في ذَلِكَ، فَهو أنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ تَسْتُرُ الإنْسانَ عَنِ العُيُونِ إذا أرادَ هَرَبًا مِن عَدُوٍّ، أوْ بَياتًا لَهُ، أوْ إخْفاءَ ما لا يُحِبُّ الإنْسانُ إطْلاعَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، قالَ المُتَنَبِّي: ؎وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِن يَدٍ تُخَبِّرُ أنَّ المانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وأيْضًا فَكَما أنَّ الإنْسانَ بِسَبَبِ اللِّباسِ يَزْدادُ جَمالُهُ وتَتَكامَلُ قُوَّتُهُ ويَنْدَفِعُ عَنْهُ أذى الحَرِّ والبَرْدِ، فَكَذا لِباسُ اللَّيْلِ بِسَبَبِ ما يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ النَّوْمِ يَزِيدُ في جَمالِ الإنْسانِ، وفي طَراوَةِ أعْضائِهِ، وفي تَكامُلِ قُواهُ الحِسِّيَّةِ والحَرَكِيَّةِ، ويَنْدَفِعُ عَنْهُ أذى التَّعَبِ الجُسْمانِيِّ، وأذى الأفْكارِ المُوحِشَةِ النَّفْسانِيَّةِ، فَإنَّ المَرِيضَ إذا نامَ بِاللَّيْلِ وجَدَ الخِفَّةَ العَظِيمَةَ. وسادِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا النَّهارَ مَعاشًا﴾ في المَعاشِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَصْدَرٌ، يُقالُ: عاشَ يَعِيشُ عَيْشًا ومَعاشًا ومَعِيشَةً وعِيشَةً، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلا بُدَّ فِيهِ مِن إضْمارٍ، والمَعْنى: وجَعْلِنا النَّهارَ وقْتَ المَعاشِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ مَعاشًا مَفْعَلًا وظَرْفًا لِلتَّعَيُّشِ، وعَلى هَذا لا حاجَةَ إلى الإضْمارِ، ومَعْنى كَوْنِ النَّهارِ مَعاشًا أنَّ الخَلْقَ إنَّما يُمْكِنُهُمُ التَّقَلُّبُ في حَوائِجِهِمْ ومَكاسِبِهِمْ في النَّهارِ لا في اللَّيْلِ. وسابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبَنَيْنا فَوْقَكم سَبْعًا شِدادًا﴾ أيْ سَبْعَ سَماواتٍ (شِدادًا) جَمْعُ شَدِيدَةٍ يَعْنِي مُحْكَمَةً قَوِيَّةَ الخَلْقِ لا يُؤَثِّرُ فِيها مُرُورُ الزَّمانِ، لا فُطُورَ فِيها ولا فُرُوجَ، ونَظِيرُهُ ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنْبِياءِ: ٣٢] فَإنْ قِيلَ: لَفْظُ البِناءِ يُسْتَعْمَلُ في أسافِلِ البَيْتِ والسَّقْفِ في أعْلاهُ فَكَيْفَ قالَ: ﴿وبَنَيْنا فَوْقَكم سَبْعًا﴾ ؟ قُلْنا: البِناءُ يَكُونُ أبْعَدَ مِنَ الآفَةِ والِانْحِلالِ مِنَ السَّقْفِ، فَذِكْرُ قَوْلِهِ: (وبَنَيْنا) إشارَةٌ إلى أنَّهُ وإنْ كانَ سَقْفًا لَكِنَّهُ في البُعْدِ عَنِ الِانْحِلالِ كالبِناءِ، فالغَرَضُ مِنَ اخْتِيارِ هَذا اللَّفْظِ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب