الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ نَخْلُقْكم مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ ﴿فَجَعَلْناهُ في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ ﴿إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿فَقَدَرْنا فَنِعْمَ القادِرُونَ﴾ ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا هو النَّوْعُ الثّالِثُ مِن تَخْوِيفِ الكُفّارِ، ووَجْهُ التَّخْوِيفِ فِيهِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَّرَهم عَظِيمَ إنْعامِهِ عَلَيْهِمْ، وكُلَّما كانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أكْثَرَ كانَتْ جِنايَتُهم في حَقِّهِ أقْبَحَ وأفْحَشَ، وكُلَّما كانَ كَذَلِكَ كانَ العِقابُ أعْظَمَ، فَلِهَذا قالَ عَقِيبَ ذِكْرِ هَذا الإنْعامِ: ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ . الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَّرَهم كَوْنَهُ قادِرًا عَلى الِابْتِداءِ، وظاهِرٌ في العَقْلِ أنَّ القادِرَ عَلى الِابْتِداءِ قادِرٌ عَلى الإعادَةِ، فَلَمّا أنْكَرُوا هَذِهِ الدَّلالَةَ الظّاهِرَةَ لا جَرَمَ قالَ في حَقِّهِمْ: ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾، وأمّا التَّفْسِيرُ فَهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألَمْ نَخْلُقْكم مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ أيْ مِنَ النُّطْفَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: ٨]، ﴿فَجَعَلْناهُ في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ وهو الرَّحِمُ؛ لِأنَّ ما يُخْلَقُ مِنهُ الوَلَدُ لا بُدَّ وأنْ يَثْبُتَ في الرَّحِمِ ويَتَمَكَّنَ، بِخِلافِ ما لا يُخْلَقُ مِنهُ الوَلَدُ، ثُمَّ قالَ: ﴿إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ والمُرادُ كَوْنُهُ في الرَّحِمِ إلى وقْتِ الوِلادَةِ، وذَلِكَ الوَقْتُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعالى لا لِغَيْرِهِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ [لقمان: ٣٤] . ﴿فَقَدَرْنا﴾ قَرَأ نافِعٌ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أمّا التَّشْدِيدُ فالمَعْنى: إنّا قَدَّرْنا ذَلِكَ تَقْدِيرًا فَنِعْمَ المُقَدِّرُونَ لَهُ نَحْنُ، ويَتَأكَّدُ هَذا الوَجْهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: ١٩] ولِأنَّ إيقاعَ الخَلْقِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ والتَّحْدِيدِ نِعْمَةٌ مِنَ المُقَدِّرِ عَلى المَخْلُوقِ، فَحَسُنَ ذِكْرُهُ في مَوْضِعِ ذِكْرِ (p-٢٤١)المِنَّةِ والنِّعْمَةِ، ومَن طَعَنَ في هَذِهِ القِراءَةِ قالَ: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ القِراءَةُ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: فَقَدَّرْنا فَنَعِمَ المُقَدِّرُونَ، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ العَرَبَ قَدْ تَجْمَعُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، قالَ تَعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ [الطارق: ١٧]، وأمّا القِراءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَفِيها وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ مِنَ القُدْرَةِ، أيْ فَقَدَرْنا عَلى خَلْقِهِ وتَصْوِيرِهِ كَيْفَ شِئْنا، وأرَدْنا ﴿فَنِعْمَ القادِرُونَ﴾ حَيْثُ خَلَقْناهُ في أحْسَنِ الصُّوَرِ والهَيْئاتِ. والثّانِي: أنَّهُ يُقالُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ عَلى مَعْنى قَدَّرْتُهُ، قالَ الفَرّاءُ: العَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ عَلَيْهِ المَوْتَ، وقَدَّرَ عَلَيْهِ المَوْتَ، وقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وقَدَّرَ بِالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ، قالَ تَعالى: ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: ١٦] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب