الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في الآيَةِ أقْوالٌ:
الأوَّلُ: أنَّ ”شاكِرًا“ أوْ ”كَفُورًا“ حالانِ مِنَ الهاءِ في ”هَدَيْناهُ السَّبِيلَ“، أيْ: هَدَيْناهُ السَّبِيلَ كَوْنَهُ شاكِرًا وكَفُورًا، والمَعْنى أنَّ كُلَّ ما يَتَعَلَّقُ بِهِدايَةِ اللَّهِ وإرْشادِهِ فَقَدْ تَمَّ حالَتَيِ الكُفْرِ والإيمانِ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ انْتُصِبَ قَوْلُهُ شاكِرًا وكَفُورًا بِإضْمارِ كانَ، والتَّقْدِيرُ: سَواءٌ كانَ شاكِرًا أوْ كانَ كَفُورًا.
والقَوْلُ الثّالِثُ: مَعْناهُ إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، لِيَكُونَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا، أيْ: لِيَتَمَيَّزَ شُكْرُهُ مِن كُفْرِهِ، وطاعَتُهُ مِن مَعْصِيَتِهِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [ هُودٍ: ٧]، وقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [ العَنْكَبُوتِ: ٣]، وقَوْلِهِ: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكم والصّابِرِينَ ونَبْلُوَ أخْبارَكُمْ﴾ [ مُحَمَّدٍ: ٣١] قالَ القَفّالُ: ومَجازُ هَذِهِ الكَلِمَةِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ قَوْلُ القائِلِ: قَدْ نَصَحْتُ لَكَ، إنْ شِئْتَ فاقْبَلْ، وإنْ شِئْتَ فاتْرُكْ، أيْ: فَإنْ شِئْتَ، فَتُحْذَفُ الفاءُ، فَكَذا المَعْنى: إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ فَإمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا، فَتُحْذَفُ الفاءُ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلى جِهَةِ الوَعِيدِ، أيْ: إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، فَإنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ وإنْ شاءَ فَلْيَشْكُرْ، فَإنّا قَدْ أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ كَذا ولِلشّاكِرِينَ كَذا، كَقَوْلِهِ: ﴿وقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكم فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [ الكَهْفِ: ٢٩] .
القَوْلُ الرّابِعُ: أنْ يَكُونا حالَيْنِ مِنَ السَّبِيلِ، أيْ: عَرَّفْناهُ السَّبِيلَ، أيْ: إمّا سَبِيلًا شاكِرًا، وإمّا سَبِيلًا كَفُورًا، ووَصْفُ السَّبِيلِ بِالشُّكْرِ والكُفْرِ مَجازٌ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الأقْوالَ كُلَّها لائِقَةٌ بِمَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ.
والقَوْلُ الخامِسُ: وهو المُطابِقُ لِمَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، واخْتِيارُ الفَرّاءِ: أنْ تَكُونَ ”إمّا“ في هَذِهِ الآيَةِ كَـ ”إمّا“ في قَوْلِهِ: ﴿إمّا يُعَذِّبُهم وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [ التَّوْبَةِ: ١٠٦]، والتَّقْدِيرُ: ﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ﴾ ثُمَّ جَعَلْناهُ تارَةً ﴿شاكِرًا﴾ أوْ تارَةً ﴿كَفُورًا﴾ ويَتَأكَّدُ هَذا التَّأْوِيلُ بِما رُوِيَ أنَّهُ قَرَأ أبُو السَّمّالِ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ في ”أمّا“، والمَعْنى: أمّا شاكِرًا فَبِتَوْفِيقِنا وأمّا كَفُورًا فَبِخِذْلانِنا، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذا التَّأْوِيلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ تَهْدِيدَ الكُفّارِ فَقالَ: ﴿إنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وأغْلالًا وسَعِيرًا﴾ ولَوْ كانَ كُفْرُ الكافِرِ مِنَ اللَّهِ وبِخَلْقِهِ لَما جازَ مِنهُ أنْ يُهَدِّدَهُ (p-٢١٢)عَلَيْهِ، ولَمّا بَطَلَ هَذا التَّأْوِيلُ ثَبَتَ أنَّ الحَقَّ هو التَّأْوِيلُ الأوَّلُ، وهو أنَّهُ تَعالى هَدى جَمِيعَ المُكَلَّفِينَ، سَواءٌ آمَنَ أوْ كَفَرَ، وبَطَلَ بِهَذا قَوْلُ المُجْبِرَةِ: أنَّهُ تَعالى لَمْ يَهْدِ الكافِرَ إلى الإيمانِ، أجابَ أصْحابُنا: بِأنَّهُ تَعالى لَمّا عَلِمَ مِنَ الكافِرِ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ ثُمَّ كَلَّفَهُ بِأنْ يُؤْمِنَ فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأنْ يَجْمَعَ بَيْنَ العِلْمِ بِعَدَمِ الإيمانِ ووُجُودِ الإيمانِ، وهَذا تَكْلِيفٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ المُتَنافِيَيْنِ، فَإنْ لَمْ يَصِرْ هَذا عُذْرًا في سُقُوطِ التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ جازَ أيْضًا أنْ يَخْلُقَ الكُفْرَ فِيهِ، ولا يَصِيرُ ذَلِكَ عُذْرًا في سُقُوطِ الوَعِيدِ، وإذا ثَبَتَ هَذا ظَهَرَ أنَّ هَذا التَّأْوِيلَ هو الحَقُّ، وأنَّ التَّأْوِيلَ اللّائِقَ بِقَوْلِ المُعْتَزِلَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ، وبَطَلَ بِهِ قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ نِعَمَهُ عَلى الإنْسانِ فابْتَدَأ بِذِكْرِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ النِّعَمَ الدِّينِيَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ القِسْمَةَ.
واعْلَمْ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الشّاكِرِ والكَفُورِ بِمَن يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِفِعْلِ الشُّكْرِ وفِعْلِ الكُفْرانِ وإلّا لَمْ يَتَحَقَّقِ الحَصْرُ، بَلِ المُرادُ مِنَ الشّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُقِرًّا مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ شُكْرِ خالِقِهِ عَلَيْهِ، والمُرادُ مِنَ الكُفُورِ الَّذِي لا يُقِرُّ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، إمّا لِأنَّهُ يُنْكِرُ الخالِقَ أوْ لِأنَّهُ وإنْ كانَ يُثْبِتُهُ لَكِنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الحَصْرُ وهو أنَّ المُكَلَّفَ إمّا أنْ يَكُونَ شاكِرًا وإمّا أنْ يَكُونَ كَفُورًا، واعْلَمْ أنَّ الخَوارِجَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ لا واسِطَةَ بَيْنَ المُطِيعِ والكافِرِ، قالُوا: لِأنَّ الشّاكِرَ هو المُطِيعُ، والكَفُورَ هو الكافِرُ، واللَّهُ تَعالى نَفى الواسِطَةَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كُلُّ ذَنْبٍ كُفْرًا، وأنْ يَكُونَ كُلُّ مُذْنِبٍ كافِرًا، واعْلَمْ أنَّ البَيانَ الَّذِي لَخَّصْناهُ يَدْفَعُ هَذا الإشْكالَ، فَإنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنَ الشّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِفِعْلِ الشُّكْرِ، فَإنَّ ذَلِكَ باطِلٌ طَرْدًا وعَكْسًا. أمّا الطَّرْدُ فَلِأنَّ اليَهُودِيَّ قَدْ يَكُونُ شاكِرًا لِرَبِّهِ مَعَ أنَّهُ لا يَكُونُ مُطِيعًا لِرَبِّهِ، والفاسِقَ قَدْ يَكُونُ شاكِرًا لِرَبِّهِ، مَعَ أنَّهُ لا يَكُونُ مُطِيعًا لِرَبِّهِ، وأمّا العَكْسُ فَلِأنَّ المُؤْمِنَ قَدْ لا يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِالشُّكْرِ ولا بِالكُفْرانِ، بَلْ يَكُونُ ساكِنًا غافِلًا عَنْهُما، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الشّاكِرِ بِذَلِكَ، بَلْ لا بُدَّ وأنْ يُفَسَّرَ الشّاكِرُ بِمَن يُقِرُّ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ، والكَفُورُ بِمَن لا يُقِرُّ بِذَلِكَ، وحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الحَصْرُ، ويَسْقُطُ سُؤالُهم بِالكُلِّيَّةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"إِنَّا هَدَیۡنَـٰهُ ٱلسَّبِیلَ إِمَّا شَاكِرࣰا وَإِمَّا كَفُورًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











