الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ لَفْظَةُ ”مِن“ في قَوْلِهِ: مِن رَسُولٍ تَبْيِينٌ لِمَنِ ارْتَضى يَعْنِي أنَّهُ لا يَطَّلِعُ عَلى الغَيْبِ إلّا المُرْتَضى الَّذِي يَكُونُ رَسُولًا، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وفي هَذا إبْطالُ الكَراماتِ؛ لِأنَّ الَّذِينَ تُضافُ الكَراماتُ إلَيْهِمْ وإنْ كانُوا أوْلِياءَ مُرْتَضِينَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ، وقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِن بَيْنِ المُرْتَضِينَ بِالِاطِّلاعِ عَلى الغَيْبِ، وفِيها أيْضًا إبْطالُ الكِهانَةِ والسِّحْرِ والتَّنْجِيمِ؛ لِأنَّ أصْحابَها أبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضاءِ وأدْخَلُهُ في السَّخَطِ، قالَ الواحِدِيُّ: وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَنِ ادَّعى أنَّ النُّجُومَ تَدُلُّهُ عَلى ما يَكُونُ مِن حَياةٍ أوْ مَوْتٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَفَرَ بِما في القُرْآنِ.
واعْلَمْ أنَّ الواحِدِيَّ يُجَوِّزُ الكَراماتِ، وأنْ يُلْهِمَ اللَّهُ أوْلِياءَهُ وُقُوعَ بَعْضِ الوَقائِعِ في المُسْتَقْبَلِ. ونِسْبَةُ الآيَةِ إلى الصُّورَتَيْنِ واحِدَةٌ فَإنْ جَعَلَ الآيَةَ دالَّةً عَلى المَنعِ مِنَ أحْكامِ النُّجُومِ فَيَنْبَغِي أنْ يَجْعَلَها دالَّةً عَلى المَنعِ مِنَ الكَراماتِ عَلى ما قالَهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“، وإنْ زَعَمَ أنَّها لا تَدُلُّ عَلى المَنعِ مِنَ الإلْهاماتِ الحاصِلَةِ لِلْأوْلِياءِ فَيَنْبَغِي أنْ لا يَجْعَلَها دالَّةً عَلى المَنعِ مِنَ الدَّلائِلِ النُّجُومِيَّةِ، فَأمّا التَّحَكُّمُ بِدَلالَتِها عَلى المَنعِ مِنَ الأحْكامِ النُّجُومِيَّةِ وعَدَمِ دَلالَتِها عَلى الإلْهاماتِ الحاصِلَةِ لِلْأوْلِياءِ فَمُجَرَّدُ التَّشَهِّي، وعِنْدِي أنَّ الآيَةَ لا دَلالَةَ فِيها عَلى شَيْءٍ مِمّا قالُوهُ، والَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَلى غَيْبِهِ﴾ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَكْفِي في العَمَلِ بِمُقْتَضاهُ أنْ لا يُظْهِرَ تَعالى خَلْقَهُ عَلى غَيْبٍ واحِدٍ مِن غُيُوبِهِ فَنَحْمِلَهُ عَلى وقْتِ وُقُوعِ القِيامَةِ، فَيَكُونُ المُرادُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى لا يُظْهِرُ هَذا الغَيْبَ لِأحَدٍ، فَلا يَبْقى في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ الغُيُوبِ لِأحَدٍ، والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ أنَّهُ تَعالى إنَّما ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿إنْ أدْرِي أقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أمَدًا﴾ يَعْنِي لا أدْرِي وقْتَ وُقُوعِ القِيامَةِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا﴾ أيْ وقْتَ وُقُوعِ القِيامَةِ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي لا يُظْهِرُهُ اللَّهُ لِأحَدٍ، وبِالجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿عَلى غَيْبِهِ﴾ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُضافٌ، فَيَكْفِي في العَمَلِ بِهِ حَمْلُهُ عَلى غَيْبٍ واحِدٍ، فَأمّا العُمُومُ فَلَيْسَ في اللَّفْظِ دَلالَةٌ عَلَيْهِ، فَإنْ قِيلَ: فَإذا حَمَلْتُمْ ذَلِكَ عَلى القِيامَةِ، فَكَيْفَ قالَ: ﴿إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ مَعَ أنَّهُ لا يُظْهِرُ هَذا الغَيْبَ لِأحَدٍ مِن رُسُلِهِ ؟ قُلْنا: بَلْ يُظْهِرُهُ عِنْدَ القُرْبِ مِنَ إقامَةِ القِيامَةِ، وكَيْفَ لا وقَدْ قالَ: ﴿ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالغَمامِ ونُزِّلَ المَلائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفُرْقانِ: ٢٥] ولا شَكَّ أنَّ المَلائِكَةَ (p-١٤٩)يَعْلَمُونَ في ذَلِكَ الوَقْتِ قِيامَ القِيامَةِ، وأيْضًا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعًا، كَأنَّهُ قالَ: عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ المَخْصُوصِ وهو قِيامُ القِيامَةِ أحَدًا، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: لَكِنْ مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ ﴿فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ﴾ حَفَظَةً يَحْفَظُونَهُ مِن شَرِّ مَرَدَةِ الإنْسِ والجِنِّ؛ لِأنَّهُ تَعالى إنَّما ذَكَرَ هَذا الكَلامَ جَوابًا لِسُؤالِ مَن سَألَهُ عَنْ وقْتِ وُقُوعِ القِيامَةِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ بِهِ، والِاسْتِحْقارِ لِدِينِهِ ومَقالَتِهِ.
واعْلَمْ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ القَطْعِ بِأنَّهُ لَيْسَ مُرادُ اللَّهِ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنْ لا يُطْلِعَ أحَدًا عَلى شَيْءٍ مِنَ المُغَيَّباتِ إلّا الرُّسُلَ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّهُ ثَبَتَ بِالأخْبارِ القَرِيبَةِ مِنَ التَّواتُرِ أنَّ شَقًّا وسَطِيحًا كانا كاهِنَيْنِ يُخْبِرانِ بِظُهُورِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ قَبْلَ زَمانِ ظُهُورِهِ، وكانا في العَرَبِ مَشْهُورَيْنِ بِهَذا النَّوْعِ مِنَ العِلْمِ، حَتّى رَجَعَ إلَيْهِما كِسْرى في تَعَرُّفِ أخْبارِ رَسُولِنا مُحَمَّدٍ ﷺ، فَثَبَتَ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يُطْلِعُ غَيْرَ الرُّسُلِ عَلى شَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ.
وثانِيها: أنَّ جَمِيعَ أرْبابِ المِلَلِ والأدْيانِ مُطْبِقُونَ عَلى صِحَّةِ عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وأنَّ المُعَبِّرَ قَدْ يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِ الوَقائِعِ الآتِيَةِ في المُسْتَقْبَلِ، ويَكُونُ صادِقًا فِيهِ.
وثالِثُها: أنَّ الكاهِنَةَ البَغْدادِيَّةَ الَّتِي نَقَلَها السُّلْطانُ سَنْجَرُ بْنُ مُلْكِ شاهْ مِن بَغْدادَ إلى خُراسانَ، وسَألَها عَنِ الأحْوالِ الآتِيَةِ في المُسْتَقْبَلِ فَذَكَرَتْ أشْياءَ، ثُمَّ إنَّها وقَعَتْ عَلى وفْقِ كَلامِها.
(قالَ مُصَنِّفُ الكِتابِ) خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالحُسْنى: وأنا قَدْ رَأيْتُ أُناسًا مُحَقِّقِينَ في عُلُومِ الكَلامِ والحِكْمَةِ، حَكَوْا عَنْها أنَّها أخْبَرَتْ عَنِ الأشْياءِ الغائِبَةِ إخْبارًا عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وجاءَتْ تِلْكَ الوَقائِعُ عَلى وفْقِ خَبَرِها، وبالَغَ أبُو البَرَكاتِ في كِتابِ المُعْتَبَرِ في شَرْحِ حالِها، وقالَ: لَقَدْ تَفَحَّصْتُ عَنْ حالِها مُدَّةَ ثَلاثِينَ سَنَةً حَتّى تَيَقَّنْتُ أنَّها كانَتْ تُخْبِرُ عَنِ المُغَيَّباتِ إخْبارًا مُطابِقًا.
ورابِعُها: أنّا نُشاهِدُ [ذَلِكَ] في أصْحابِ الإلْهاماتِ الصّادِقَةِ، ولَيْسَ هَذا مُخْتَصًّا بِالأوْلِياءِ بَلْ قَدْ يُوجَدُ في السَّحَرَةِ أيْضًا مَن يَكُونُ كَذَلِكَ، نَرى الإنْسانَ الَّذِي يَكُونُ سَهْمُ الغَيْبِ عَلى دَرَجَةِ طالِعِهِ يَكُونُ كَذَلِكَ في كَثِيرٍ مِن أخْبارِهِ وإنْ كانَ قَدْ يَكْذِبُ أيْضًا في أكْثَرِ تِلْكَ الأخْبارِ، ونَرى الأحْكامَ النُّجُومِيَّةَ قَدْ تَكُونُ مُطابِقَةً ومُوافِقَةً لِلْأُمُورِ، وإنْ كانُوا قَدْ يَكْذِبُونَ في كَثِيرٍ مِنها، وإذا كانَ ذَلِكَ مُشاهَدًا مَحْسُوسًا، فالقَوْلُ بِأنَّ القُرْآنَ يَدُلُّ عَلى خِلافِهِ مِمّا يَجُرُّ الطَّعْنَ إلى القُرْآنِ، وذَلِكَ باطِلٌ فَعَلِمْنا أنَّ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ ما ذَكَرْناهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ فَلَا یُظۡهِرُ عَلَىٰ غَیۡبِهِۦۤ أَحَدًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق