الباحث القرآني

واعْلَمْ أنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ: ﴿مِمّا خَطِيئاتِهِمْ﴾ لِبَيانِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ إغْراقُهم بِالطُّوفانِ إلّا مِن أجْلِ خَطِيئاتِهِمْ، فَمَن قالَ مِنَ المُنَجِّمِينَ: إنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ بِسَبَبِ أنَّهُ انْقَضى في ذَلِكَ الوَقْتِ نِصْفُ الدَّوْرِ الأعْظَمِ، وما يَجْرِي مَجْرى هَذِهِ الكَلِماتِ كانَ مُكَذِّبًا لِصَرِيحِ هَذِهِ الآيَةِ فَيَجِبُ تَكْفِيرُهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قُرِئَ خَطِيئاتِهِمْ بِالهَمْزَةِ وخَطِيّاتِهِمْ بِقَلْبِها ياءً وإدْغامِها، وخَطاياهم وخَطِيئَتِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ عَلى إرادَةِ الجِنْسِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الكُفْرُ. واعْلَمْ أنَّ الخَطايا والخَطِيئاتِ كِلاهُما جَمْعُ خَطِيئَةٍ، إلّا أنَّ الأوَّلَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ والثّانِيَ جَمْعُ سَلامَةٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيها في البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿نَغْفِرْ لَكم خَطاياكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٥٨] وفي الأعْرافِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿خَطِيئاتِكُمْ﴾ . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أصْحابُنا في إثْباتِ عَذابِ القَبْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ وذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الفاءَ في قَوْلِهِ: ﴿فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ حَصَلَتْ تِلْكَ الحالَةُ عَقِيبَ الإغْراقِ، فَلا يُمْكِنُ حَمْلُها عَلى عَذابِ الآخِرَةِ، وإلّا بَطَلَتْ دَلالَةُ هَذِهِ الفاءِ. الثّانِي: أنَّهُ قالَ: ﴿فَأُدْخِلُوا﴾ عَلى سَبِيلِ الإخْبارِ عَنِ الماضِي. وهَذا إنَّما يَصْدُقُ لَوْ وقَعَ ذَلِكَ، قالَ مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: مَعْناهُ أنَّهم سَيَدْخُلُونَ في الآخِرَةِ نارًا، ثُمَّ عَبَّرَ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي لِصِحَّةِ كَوْنِهِ وصِدْقِ الوَعْدِ بِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿ونادى أصْحابُ النّارِ﴾ [الأعْرافِ: ٥٠] ﴿ونادى أصْحابُ الجَنَّةِ﴾ [الأعْرافِ: ٤٤] واعْلَمْ أنَّ الَّذِي قالُوهُ تَرْكٌ لِلظّاهِرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ. فَإنْ قِيلَ: إنَّما تَرَكْنا هَذا الظّاهِرَ لِدَلِيلٍ، وهو أنَّ مَن ماتَ في الماءِ فَإنّا نُشاهِدُهُ هُناكَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهم في تِلْكَ السّاعَةِ أُدْخِلُوا نارًا ؟ (والجَوابُ) هَذا الإشْكالُ إنَّما جاءَ لِاعْتِقادِ أنَّ الإنْسانَ هو مَجْمُوعُ هَذا الهَيْكَلِ، وهَذا خَطَأٌ لِما بَيَّنّا أنَّ هَذا الإنْسانَ هو الَّذِي كانَ مَوْجُودًا مِن أوَّلِ عُمُرِهِ، مَعَ أنَّهُ كانَ صَغِيرَ الجُثَّةِ في أوَّلِ عُمُرِهِ، ثُمَّ إنَّ أجْزاءَهُ دائِمًا في التَّحَلُّلِ والذَّوَبانِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الباقِيَ غَيْرُ المُتَبَدِّلِ، فَهَذا الإنْسانُ عِبارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي هو باقٍ مِنَ أوَّلِ عُمُرِهِ إلى الآنِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ وإنْ بَقِيَتْ هَذِهِ الجُثَّةُ في الماءِ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى نَقَلَ تِلْكَ الأجْزاءَ الأصْلِيَّةَ الباقِيَةَ الَّتِي كانَ الإنْسانُ المُعَيَّنُ عِبارَةً عَنْها إلى النّارِ والعَذابِ. ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهم مِن دُونِ اللَّهِ أنْصارًا﴾ ﴿وقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهم مِن دُونِ اللَّهِ أنْصارًا﴾ وهَذا تَعْرِيضٌ بِأنَّهم إنَّما واظَبُوا عَلى عِبادَةِ تِلْكَ الأصْنامِ؛ لِتَكُونَ دافِعَةً لِلْآفاتِ عَنْهم جالِبَةً لِلْمَنافِعِ إلَيْهِمْ، فَلَمّا جاءَهم عَذابُ اللَّهِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الأصْنامِ، وما قَدَرَتْ تِلْكَ الأصْنامُ عَلى دَفْعِ عَذابِ اللَّهِ عَنْهم، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿أمْ لَهم آلِهَةٌ تَمْنَعُهم مِن دُونِنا﴾ [الأنْبِياءِ: ٤٣] واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ حُجَّةٌ عَلى كُلِّ مَن عَوَّلَ عَلى شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب