قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهم يَرَوْنَهُ بَعِيدًا﴾ ﴿ونَراهُ قَرِيبًا﴾ .
الضَّمِيرُ في ﴿يَرَوْنَهُ﴾ إلى ماذا يَعُودُ ؟ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ عائِدٌ إلى العَذابِ الواقِعِ.
والثّانِي: أنَّهُ عائِدٌ إلى: ﴿يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ﴾ أيْ: يَسْتَبْعِدُونَهُ عَلى جِهَةِ الإحالَةِ ونَحْنُ نَراهُ قَرِيبًا هَيِّنًا في (p-١١١)قُدْرَتِنا غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَيْنا ولا مُتَعَذِّرٍ. فالمُرادُ بِالبَعِيدِ البَعِيدُ مِنَ الإمْكانِ، وبِالقَرِيبِ القَرِيبُ مِنهُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ ﴿وتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ﴾ ﴿ولا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ فِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: ”يَوْمَ تَكُونُ“ مَنصُوبٌ بِماذا ؟ فِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: بِقَرِيبًا، والتَّقْدِيرُ: ونَراهُ قَرِيبًا، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ، أيْ يُمْكِنُ ولا يَتَعَذَّرُ في ذَلِكَ اليَوْمِ.
وثانِيها: التَّقْدِيرُ: سَألَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ.
والثّالِثُ: التَّقْدِيرُ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ كانَ كَذا وكَذا.
والرّابِعُ: أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن ”يَوْمٍ“ والتَّقْدِيرُ سَألَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ ذَكَرَ لِذَلِكَ اليَوْمِ صِفاتٍ:
الصِّفَةُ الأُولى: أنَّ السَّماءَ تَكُونُ فِيهِ كالمُهْلِ وذَكَرْنا تَفْسِيرَ المُهْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿بِماءٍ كالمُهْلِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، ورَوى عَنْهُ عَطاءٌ: كَعَكَرِ القَطْرانِ، وقالَ الحَسَنُ: مِثْلُ الفِضَّةِ إذا أُذِيبَتْ، وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: أنْ تَكُونَ الجِبالُ فِيهِ كالعِهْنِ، ومَعْنى العِهْنِ في اللُّغَةِ: الصُّوفُ المَصْبُوغُ ألْوانًا، وإنَّما وقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ؛ لِأنَّ الجِبالَ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُها وغَرابِيبُ سُودٍ. فَإذا بُسَّتْ وطُيِّرَتْ في الجَوِّ أشْبَهَتِ العِهْنَ المَنفُوشَ إذا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ.
الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا يَسْألُ حَمِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الحَمِيمُ القَرِيبُ الَّذِي يَعْصِبُ لَهُ، وعَدَمُ السُّؤالِ إنَّما كانَ لِاشْتِغالِ كُلِّ أحَدٍ بِنَفْسِهِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ﴾ [الحَجِّ: ٢] وقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عَبَسَ: ٣٧] ثُمَّ في الآيَةِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لا يَسْألُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمِهِ فَحُذِفَ الجارُّ وأُوصِلَ الفِعْلُ.
الثّانِي: لا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمَهُ كَيْفَ حالُكَ ولا يُكَلِّمُهُ؛ لِأنَّ لِكُلِّ أحَدٍ ما يَشْغَلُهُ عَنْ هَذا الكَلامِ.
الثّالِثُ: لا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا شَفاعَةً، ولا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا إحْسانًا إلَيْهِ ولا رِفْقًا بِهِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: ”ولا يُسْألُ“ بِضَمِّ الياءِ، والمَعْنى لا يُسْألُ عَنْ حَمِيمِهِ لِيُتَعَرَّفَ شَأْنُهُ مِن جِهَتِهِ، كَما يُتَعَرَّفُ خَبَرُ الصَّدِيقِ مِن جِهَةِ صَدِيقِهِ، وهَذا أيْضًا عَلى حَذْفِ الجارِّ. قالَ الفَرّاءُ: أيْ لا يُقالُ لِحَمِيمٍ: أيْنَ حَمِيمُكَ. ولَسْتُ أُحِبُّ هَذِهِ القِراءَةَ؛ لِأنَّها مُخالِفَةٌ لِما أجْمَعَ عَلَيْهِ القُرّاءُ.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["إِنَّهُمۡ یَرَوۡنَهُۥ بَعِیدࣰا","وَنَرَىٰهُ قَرِیبࣰا","یَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَاۤءُ كَٱلۡمُهۡلِ","وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ","وَلَا یَسۡـَٔلُ حَمِیمٌ حَمِیمࣰا"],"ayah":"إِنَّهُمۡ یَرَوۡنَهُۥ بَعِیدࣰا"}