الباحث القرآني

وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾ فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى يَفْتَدِي، والمَعْنى: يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي بِهَذِهِ الأشْياءِ ثُمَّ يُنْجِيهِ. والثّانِي: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن في الأرْضِ﴾ والتَّقْدِيرُ: يَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي بِمَن في الأرْضِ ثُمَّ يُنْجِيهِ، و”ثُمَّ“ لِاسْتِبْعادِ الإنْجاءِ، يَعْنِي يَتَمَنّى لَوْ كانَ هَؤُلاءِ جَمِيعًا تَحْتَ يَدِهِ، وبَذَلُهم في فِداءِ نَفْسِهِ، ثُمَّ يُنْجِيهِ ذَلِكَ، وهَيْهاتَ أنْ يُنْجِيَهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّها لَظى﴾ ﴿نَزّاعَةً لِلشَّوى﴾ ”كَلّا“ رَدْعٌ لِلْمُجْرِمِ عَنْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَوَدُّ الِافْتِداءَ بِبَنِيهِ، وعَلى أنَّهُ لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ الِافْتِداءُ، ولا يُنْجِيهِ مِنَ العَذابِ، ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّها﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا الضَّمِيرَ لِلنّارِ، ولَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ، إلّا أنَّ ذِكْرَ العَذابِ دَلَّ عَلَيْها. والثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرَ القِصَّةِ، ولَظى مِن أسْماءِ النّارِ. قالَ اللَّيْثُ: اللَّظى، اللَّهَبُ الخالِصُ، يُقالُ: لَظَّتِ النّارُ تَلَظّى لَظًى، وتَلَظَّتْ تَلَظِّيًا، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿نارًا تَلَظّى﴾ [اللَّيْلِ: ١٤] ولَظى عَلَمٌ لِلنّارِ مَنقُولٌ مِنَ اللَّظى، وهو مَعْرِفَةٌ لا يَنْصَرِفُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنَوَّنْ، وقَوْلُهُ: ﴿نَزّاعَةً﴾ مَرْفُوعَةٌ، وفي سَبَبِ هَذا الِارْتِفاعِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنْ تَجْعَلَ الهاءَ في أنَّها عِمادٌ، أوْ تَجْعَلَ لَظى اسْمَ إنَّ، ونَزّاعَةً خَبَرَ إنَّ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ لَظى نَزّاعَةٌ. والثّانِي: أنْ تَجْعَلَ الهاءَ ضَمِيرَ القِصَّةِ، ولَظى مُبْتَدَأً، ونَزّاعَةً خَبَرًا، وتَجْعَلَ الجُمْلَةَ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ القِصَّةِ، والتَّقْدِيرُ: إنَّ القِصَّةَ لَظى نَزّاعَةٌ لِلشَّوى. والثّالِثُ: أنْ تَرْتَفِعَ عَلى الذَّمِّ، والتَّقْدِيرُ: إنَّها لَظى وهي نَزّاعَةٌ لِلشَّوى، وهَذا قَوْلُ الأخْفَشِ والفَرّاءِ والزَّجّاجِ. وأمّا قِراءَةُ النَّصْبِ (p-١١٣)فَفِيها ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: قالَ الزَّجّاجُ: إنَّها حالٌ مُؤَكَّدَةٌ، كَما قالَ: ﴿هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ [فاطِرٍ: ٣١] وكَما يَقُولُ: أنا زَيْدٌ مَعْرُوفًا، اعْتَرَضَ أبُو عَلِيِّ الفارِسِيُّ عَلى هَذا وقالَ: حَمْلُهُ عَلى الحالِ بِعِيدٌ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في الكَلامِ ما يَعْمَلُ في الحالِ، فَإنْ قُلْتَ في قَوْلِهِ: ﴿لَظى﴾ مَعْنى التَّلَظِّي والتَّلَهُّبِ، فَهَذا لا يَسْتَقِيمُ؛ لِأنَّ لَظى اسْمُ عَلَمٍ لِماهِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، والماهِيَّةُ لا يُمْكِنُ تَقْيِيدُها بِالأحْوالِ، إنَّما الَّذِي يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالأحْوالِ هو الأفْعالُ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: رَجُلًا حالَ كَوْنِهِ عالِمًا، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: رَأيْتُ رَجُلًا حالَ كَوْنِهِ عالِمًا. وثانِيها: أنْ تَكُونَ لَظى اسْمًا لِنارٍ تَتَلَظّى تَلَظِّيًا شَدِيدًا، فَيَكُونُ هَذا الفِعْلُ ناصِبًا، لِقَوْلِهِ: ﴿نَزّاعَةً﴾ . وثالِثُها: أنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً عَلى الِاخْتِصاصِ، والتَّقْدِيرُ: إنَّها لَظى أعْنِيها نَزّاعَةً لِلشَّوى، ولَمْ تُمْنَعْ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿لِلشَّوى﴾ الأطْرافُ، وهي اليَدانِ والرِّجْلانِ، ويُقالُ لِلرّامِي إذا لَمْ يُصِبِ المَقْتَلَ أشْوى، أيْ أصابَ الشَّوى، والشَّوى أيْضًا جِلْدُ الرَّأْسِ، واحِدَتُها شَواةٌ. ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎قالَتْ قُتَيْلَةُ ما لَهُ قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَواتُهُ هَذا قَوْلُ أهْلِ اللُّغَةِ، قالَ مُقاتِلٌ: تَنْزِعُ النّارُ الهامَةَ والأطْرافَ فَلا تَتْرُكُ لَحْمًا ولا جِلْدًا إلّا أحْرَقَتْهُ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: العَصَبُ والعَقِبُ ولَحْمُ السّاقَيْنِ واليَدَيْنِ، وقالَ ثابِتٌ البُنانِيُّ: لِمَكارِمِ وجْهِ بَنِي آدَمَ. واعْلَمْ أنَّ النّارَ إذا أفْنَتْ هَذِهِ الأعْضاءَ، فاللَّهُ تَعالى يُعِيدُها مَرَّةً أُخْرى، كَما قالَ: ﴿كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها لِيَذُوقُوا العَذابَ﴾ [النِّساءِ: ٥٦] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب