الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَن آمَنَ بِهِ وتَبْغُونَها عِوَجًا واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكم وانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ ﴿وإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنكم آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وهو خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلامُ ضَمَّ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّكالِيفِ الخَمْسَةِ أشْياءَ:
الأوَّلُ: أنَّهُ مَنَعَهم مِن أنْ يَقْعُدُوا عَلى طُرُقِ الدِّينِ ومَناهِجِ الحَقِّ لِأجْلِ أنْ يَمْنَعُوا النّاسَ عَنْ قَبُولِهِ.
وفِي قَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ﴾ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: يُحْمَلُ الصِّراطُ عَلى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ النّاسُ، رُوِيَ أنَّهم كانُوا يَجْلِسُونَ عَلى (p-١٤٣)الطُّرُقاتِ ويُخَوِّفُونَ مَن آمَنَ بِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.
والثّانِي: أنْ يُحْمَلَ الصِّراطُ عَلى مَناهِجِ الدِّينِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ﴾ أيْ ولا تَقْتَدُوا بِالشَّيْطانِ في قَوْلِهِ: ﴿لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] قالَ: والمُرادُ بِالصِّراطِ كُلُّ ما كانَ مِن مَناهِجِ الدِّينِ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ بِالصِّراطِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .
وقَوْلُهُ: ﴿بِكُلِّ صِراطٍ﴾ يُقالُ: قَعَدَ لَهُ بِمَكانِ كَذا وعَلى مَكانِ كَذا، وفي مَكانِ كَذا، وهَذِهِ الحُرُوفُ تَتَعاقَبُ في هَذِهِ المَواضِعِ لِتَقارُبِ مَعانِيها، فَإنَّكَ إذا قُلْتَ قَعَدَ بِمَكانِ كَذا، فالباءُ لِلْإلْصاقِ، وهو قَدِ التَصَقَ بِذَلِكَ المَكانِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿تُوعِدُونَ﴾ فَمَحَلُّهُ ومَحَلُّ ما عُطِفَ عَلَيْهِ النَّصْبُ عَلى الحالِ، والتَّقْدِيرُ: ولا تَقْعُدُوا مُوعِدِينَ ولا صادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ولا أنْ تَبْغُوا عِوَجًا في سَبِيلِ اللَّهِ، والحاصِلُ: أنَّهُ نَهاهم عَنِ القُعُودِ عَلى صِراطِ اللَّهِ حالَ الِاشْتِغالِ بِأحَدِ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا عَطَفَ بَعْضَ هَذِهِ الثَّلاثَةِ عَلى البَعْضِ وجَبَ حُصُولُ المُغايَرَةِ بَيْنَها، فَقَوْلُهُ: ﴿تُوعِدُونَ﴾ يَحْصُلُ بِذَلِكَ إنْزالُ المَضارِّ بِهِمْ، وأمّا الصَّدُّ، فَقَدْ يَكُونُ بِالإيعادِ بِالمَضارِّ، وقَدْ يَكُونُ بِالوَعْدِ بِالمَنافِعِ بِما لَوْ تَرَكَهُ، وقَدْ يَكُونُ بِأنْ لا يُمَكِّنَهُ مِنَ الذَّهابِ إلى الرَّسُولِ لِيَسْمَعَ كَلامَهُ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وتَبْغُونَها عِوَجًا﴾ فالمُرادُ إلْقاءُ الشُّكُوكِ والشُّبُهاتِ، والمُرادُ مِنَ الآيَةِ أنَّ شُعَيْبًا مَنَعَ القَوْمَ مِن أنْ يَمْنَعُوا النّاسَ مِن قَبُولِ الدِّينِ الحَقِّ بِأحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلاثَةِ. وإذا تَأمَّلْتَ عَلِمْتَ أنَّ أحَدًا لا يُمْكِنُهُ مَنعَ غَيْرِهِ مِن قَبُولِ مَذْهَبٍ أوْ مَقالَةٍ إلّا بِأحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلاثَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ أنَّهم إذا تَذَكَّرُوا كَثْرَةَ إنْعامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فالظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهم عَلى الطّاعَةِ والبُعْدِ عَنِ المَعْصِيَةِ، قالَ الزَّجّاجُ: وهَذا الكَلامُ يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ، كَثَّرَ عَدَدُكم بَعْدَ القِلَّةِ، وكَثَّرَكم بِالغِنى بَعْدَ الفَقْرِ، وكَثَّرَكم بِالقُدْرَةِ بَعْدَ الضَّعْفِ، ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّهم إذا كانُوا فُقَراءَ أوْ ضُعَفاءَ فَهم بِمَنزِلَةِ القَلِيلِ، في أنَّهُ لا يَحْصُلُ مِن وُجُودِهِمْ قُوَّةٌ وشَوْكَةٌ، فَأمّا تَكْثِيرُ عَدَدِهِمْ بَعْدَ القِلَّةِ فَهو أنَّ مَدْيَنَ بْنَ إبْراهِيمَ تَزَوَّجَ رِيثا بِنْتَ لُوطٍ، فَوَلَدَتْ حَتّى كَثُرَ عَدَدُهم.
ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿وانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ والمَعْنى تَذَكَّرُوا عاقِبَةَ المُفْسِدِينَ وما لَحِقَهم مِنَ الخِزْيِ والنَّكالِ؛ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زاجِرًا لَكم عَنِ العِصْيانِ والفَسادِ، فَقَوْلُهُ: ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ المَقْصُودُ مِنهُ أنَّهم إذا تَذَكَّرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ انْقادُوا وأطاعُوا، وقَوْلُهُ: ﴿وانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ المَقْصُودُ مِنهُ أنَّهم إذا عَرَفُوا أنَّ عاقِبَةَ المُفْسِدِينَ المُتَمَرِّدِينَ لَيْسَتْ إلّا الخِزْيَ والنَّكالَ احْتَرَزُوا عَنِ الفَسادِ والعِصْيانِ وأطاعُوا، فَكانَ المَقْصُودُ مِن هَذَيْنِ الكَلامَيْنِ حَمْلَهم عَلى الطّاعَةِ بِطَرِيقِ التَّرْغِيبِ أوَّلًا والتَّرْهِيبِ ثانِيًا.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنكم آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فاصْبِرُوا﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ تَسْلِيَةُ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ وزَجْرُ مَن لَمْ يُؤْمِن؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاصْبِرُوا﴾ تَهْدِيدٌ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا﴾ والمُرادُ إعْلاءُ دَرَجاتِ المُؤْمِنِينَ، وإظْهارُ هَوانِ الكافِرِينَ، وهَذِهِ الحالَةُ قَدْ تَظْهَرُ في الدُّنْيا، فَإنْ لَمْ تَظْهَرْ في الدُّنْيا فَلا بُدَّ مِن ظُهُورِها في الآخِرَةِ.
(p-١٤٤)ثُمَّ قالَ: ﴿وهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ يَعْنِي أنَّهُ حاكِمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الجَوْرِ والمَيْلِ والحَيْفِ، فَلا بُدَّ وأنْ يَخُصَّ المُؤْمِنَ التَّقِيَّ بِالدَّرَجاتِ العالِيَةِ، والكافِرَ الشَّقِيَّ بِأنْواعِ العُقُوباتِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿أمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالمُفْسِدِينَ في الأرْضِ﴾ [ص: ٢٨] .
{"ayahs_start":86,"ayahs":["وَلَا تَقۡعُدُوا۟ بِكُلِّ صِرَ ٰطࣲ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبۡغُونَهَا عِوَجࣰاۚ وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ كُنتُمۡ قَلِیلࣰا فَكَثَّرَكُمۡۖ وَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ","وَإِن كَانَ طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنكُمۡ ءَامَنُوا۟ بِٱلَّذِیۤ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦ وَطَاۤىِٕفَةࣱ لَّمۡ یُؤۡمِنُوا۟ فَٱصۡبِرُوا۟ حَتَّىٰ یَحۡكُمَ ٱللَّهُ بَیۡنَنَاۚ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ"],"ayah":"وَإِن كَانَ طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنكُمۡ ءَامَنُوا۟ بِٱلَّذِیۤ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦ وَطَاۤىِٕفَةࣱ لَّمۡ یُؤۡمِنُوا۟ فَٱصۡبِرُوا۟ حَتَّىٰ یَحۡكُمَ ٱللَّهُ بَیۡنَنَاۚ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق