الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ .
وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”إنَّكم“ بِكَسْرِ الألْفٍ، ومَذْهَبُ نافِعٍ أنْ يُكْتَفى بِالِاسْتِفْهامِ بِالأوَّلِ مِنَ الثّانِي في كُلِّ القُرْآنِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ”أئِنَّكم“ بِهَمْزَةٍ غَيْرِ مَمْدُودَةٍ وبَيْنَ الثّانِيَةِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وبَيْنَ الثّانِي، والباقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلى الأصْلِ. قالَ الواحِدِيُّ: مَنِ اسْتَفْهَمَ كانَ هَذا اسْتِفْهامًا مَعْناهُ الإنْكارُ؛ لِقَوْلِهِ: ”﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾“ وكُلُّ واحِدٍ مِنَ الِاسْتِفْهامَيْنِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لا تَحْتاجُ في تَمامِها إلى شَيْءٍ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿شَهْوَةً﴾ مَصْدَرٌ. قالَ أبُو زَيْدٍ شَهِيَ يَشْهى شَهْوَةً، وانْتِصابُها عَلى المَصْدَرِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجالَ﴾ مَعْناهُ أتَشْتَهُونَ شَهْوَةً ؟ وإنْ شِئْتَ قُلْتَ إنَّها مَصْدَرٌ وقَعَ مَوْقِعَ الحالِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في بَيانِ الوُجُوهِ المُوجِبَةِ لَقُبْحِ هَذا العَمَلِ.
اعْلَمْ أنَّ قُبْحَ هَذا العَمَلِ كالأمْرِ المُقَرَّرِ في الطِّباعِ، فَلا حاجَةَ فِيهِ إلى تَعْدِيدِ الوُجُوهِ عَلى التَّفْصِيلِ. ثُمَّ نَقُولُ مُوجِباتُ القُبْحِ فِيهِ كَثِيرَةٌ:
أوَّلُها: أنَّ أكْثَرَ النّاسِ يَحْتَرِزُونَ عَنْ حُصُولِ الوَلَدِ؛ لِأنَّ حُصُولَهُ يَحْمِلُ الإنْسانَ عَلى طَلَبِ المالِ وإتْعابِ النَّفْسِ في الكَسْبِ، إلّا أنَّهُ تَعالى جَعَلَ الوِقاعَ سَبَبًا لِحُصُولِ اللَّذَّةِ العَظِيمَةِ، حَتّى إنَّ الإنْسانَ بِطَلَبِ تِلْكَ اللَّذَّةِ يُقْدِمُ عَلى الوِقاعِ، وحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الوَلَدُ شاءَ أمْ أبى، وبِهَذا الطَّرِيقِ يَبْقى النَّسْلُ ولا يَنْقَطِعُ النَّوْعُ، فَوَضَعَ اللَّذَّةَ في الوِقاعِ، كَشِبْهِ الإنْسانِ الَّذِي وضَعَ الفَخَّ لِبَعْضِ الحَيَواناتِ، فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ (p-١٣٨)يَضَعَ في ذَلِكَ الفَخِّ شَيْئًا يَشْتَهِيهِ ذَلِكَ الحَيَوانُ حَتّى يَصِيرَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِ في ذَلِكَ الفَخِّ، فَوَضْعُ اللَّذَّةِ في الوِقاعِ يُشْبِهُ وضْعَ الشَّيْءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ الحَيَوانُ في الفَخِّ، والمَقْصُودُ مِنهُ إبْقاءُ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ الَّذِي هو أشْرَفُ الأنْواعِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَوْ تَمَكَّنَ الإنْسانُ مِن تَحْصِيلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ بِطْرِيقٍ لا تُفْضِي إلى الوَلَدِ، لَمْ تَحْصُلِ الحِكْمَةُ المَطْلُوبَةُ، ولَأدّى ذَلِكَ إلى انْقِطاعِ النَّسْلِ، وذَلِكَ عَلى خِلافِ حُكْمِ اللَّهِ، فَوَجَبَ الحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ قَطْعًا، حَتّى تَحْصُلَ تِلْكَ اللَّذَّةُ بِالطَّرِيقِ المُفْضِي إلى الوَلَدِ.
والوَجْهُ الثّانِي: وهو أنَّ الذُّكُورَةَ مَظِنَّةُ الفِعْلِ، والأُنُوثَةُ مَظِنَّةُ الِانْفِعالِ، فَإذا صارَ الذَّكَرُ مُنْفَعِلًا، والأُنْثى فاعِلًا، كانَ ذَلِكَ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الطَّبِيعَةِ، وعَلى عَكْسِ الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: الِاشْتِغالُ بِمَحْضِ الشَّهْوَةِ تَشَبُّهٌ بِالبَهِيمَةِ، وإذا كانَ الِاشْتِغالُ بِالشَّهْوَةِ يُفِيدُ فائِدَةً أُخْرى سِوى قَضاءِ الشَّهْوَةِ، فَلْيَكُنْ قَضاءُ الشَّهْوَةِ مِنَ المَرْأةِ يُفِيدُ فائِدَةً أُخْرى سِوى قَضاءِ الشَّهْوَةِ، وهو حُصُولُ الوَلَدِ وإبْقاءُ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ الَّذِي هو أشْرَفُ الأنْواعِ. فَأمّا قَضاءُ الشَّهْوَةِ مِنَ الذَّكَرِ فَإنَّهُ لا يُفِيدُ إلّا مُجَرَّدَ قَضاءِ الشَّهْوَةِ، فَكانَ ذَلِكَ تَشَبُّهًا بِالبَهائِمِ، وخُرُوجًا عَنِ الغَرِيزَةِ الإنْسانِيَّةِ، فَكانَ في غايَةِ القُبْحِ.
والوَجْهُ الرّابِعُ: هَبْ أنَّ الفاعِلَ يَلْتَذُّ بِذَلِكَ العَمَلِ، إلّا أنَّهُ يَبْقى في إيجابِ العارِ العَظِيمِ والعَيْبِ الكامِلِ بِالمَفْعُولِ عَلى وجْهٍ لا يَزُولُ ذَلِكَ العَيْبُ عَنْهُ أبَدَ الدَّهْرِ، والعاقِلُ لا يَرْضى لِأجْلِ لَذَّةٍ خَسِيسَةٍ مُنْقَضِيَةٍ في الحالِ إيجابَ العَيْبِ الدّائِمِ الباقِي بِالغَيْرِ.
والوَجْهُ الخامِسُ: أنَّهُ عَمَلٌ يُوجِبُ اسْتِحْكامَ العَداوَةِ بَيْنَ الفاعِلِ والمَفْعُولِ، ورُبَّما يُؤَدِّي ذَلِكَ إلى إقْدامِ المَفْعُولِ عَلى قَتْلِ الفاعِلِ لِأجْلِ أنَّهُ يَنْفِرُ طَبْعُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، أوْ عَلى إيجابِ إنْكائِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ. أمّا حُصُولُ هَذا العَمَلِ بَيْنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ فَإنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْكامَ الأُلْفَةِ والمَوَدَّةِ وحُصُولِ المَصالِحِ الكَبِيرَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١] .
والوَجْهُ السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى أوْدَعَ في الرَّحِمِ قُوَّةً شَدِيدَةَ الجَذْبِ لِلْمَنِيِّ، فَإذا واقَعَ الرَّجُلُ المَرْأةَ قَوِيَ الجَذْبُ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ المَنِيِّ في المَجارِي إلّا ويَنْفَصِلُ. أمّا إذا واقَعَ الرَّجُلَ فَلَمْ يَحْصُلْ في ذَلِكَ العُضْوِ المُعَيَّنِ مِنَ المَفْعُولِ قُوَّةً جاذِبَةً لِلْمَنِيِّ، وحِينَئِذٍ لا يَكْمُلُ الجَذْبُ، فَيَبْقى شَيْءٌ مِن أجْزاءِ المَنِيِّ في تِلْكَ المَجارِي ولا يَنْفَصِلُ، ويَعْفَنُ ويَفْسُدُ ويَتَوَلَّدُ مِنهُ الأوْرامُ الشَّدِيدَةُ والأسْقامُ العَظِيمَةُ، وهَذِهِ فائِدَةٌ لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُها إلّا بِالقَوانِينِ الطِّبِّيَّةِ، فَهَذِهِ هي الوُجُوهُ المُوجِبَةُ لَقُبْحِ هَذا العَمَلِ، ورَأيْتُ بَعْضَ مَن كانَ ضَعِيفًا في الدِّينِ يَقُولُ: إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿والَّذِينَ هم لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ﴾ ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٥] وذَلِكَ يَقْتَضِي حِلَّ وطْءِ المَمْلُوكِ مُطْلَقًا، سَواءٌ كانَ ذَكَرًا أوْ أُنْثى قالَ: ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنّا نُخَصِّصُ هَذا العُمُومَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦٥] وقَوْلِهِ: ﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ﴾ قالَ: لِأنَّ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أعَمُّ مِنَ الأُخْرى مِن وجْهٍ، وأخَصُّ مِن وجْهٍ، وذَلِكَ لِأنَّ المَمْلُوكَ قَدْ يَكُونُ ذَكَرًا، وقَدْ يَكُونُ أُنْثى، وأيْضًا الذَّكَرُ قَدْ يَكُونُ مَمْلُوكًا، وقَدْ لا يَكُونُ مَمْلُوكًا، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُ إحْداهُما بِالأُخْرى أوْلى مِنَ العَكْسِ، والتَّرْجِيحُ مِن هَذا الجانِبِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٦] شَرْعُ مُحَمَّدٍ، وقِصَّةُ لُوطٍ شَرْعُ سائِرِ الأنْبِياءِ، (p-١٣٩)وشَرْعُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أوْلى مِن شَرْعِ مَن تَقَدَّمَهُ مِنَ الأنْبِياءِ، وأيْضًا الأصْلُ في المَنافِعِ والمَلاذِّ الحِلُّ، وأيْضًا المِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ. فَقُلْتُ لَهُ: الِاسْتِدْلالُ إنَّما يُقْبَلُ في مَوْضِعِ الِاحْتِمالِ، وقَدْ ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ الظّاهِرِ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ حُرْمَةُ هَذا العَمَلِ، والمُبالَغَةُ في المَنعِ مِنهُ، والِاسْتِدْلالُ إذا وقَعَ في مُقابَلَةِ النَّقْلِ المُتَواتِرِ، كانَ باطِلًا.
ثُمَّ قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ لُوطٍ أنَّهُ قالَ لَهم: ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ والمَعْنى كَأنَّهُ قالَ لَهم: أنْتُمْ مُسْرِفُونَ في كُلِّ الأعْمالِ، فَلا يَبْعُدُ مِنكم أيْضًا إقْدامُكم عَلى هَذا الإسْرافِ.
{"ayah":"إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنِّسَاۤءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمࣱ مُّسۡرِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق