الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أرْضِ اللَّهِ ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ عادٍ وبَوَّأكم في الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِها قُصُورًا وتَنْحِتُونَ الجِبالَ بُيُوتًا فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو القِصَّةُ الثّالِثَةُ، وهو قِصَّةُ صالِحٍ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وإلى ثَمُودَ﴾ فالمَعْنى ”ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا، وإلى عادٍ أخاهم هُودًا، وإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا“ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: سُمِّيَتْ ثَمُودَ لِقِلَّةِ مائِها، مِنَ الثَّمْدِ وهو الماءُ القَلِيلُ، وكانَتْ مَساكِنُهُمُ الحِجْرَ بَيْنَ الحِجازِ والشّامِ وإلى وادِي القُرى، وقِيلَ: سُمِّيَتْ ثَمُودَ لِأنَّهُ اسْمُ أبِيهِمُ الأكْبَرِ وهو ثَمُودُ بْنُ عادِ بْنِ إرَمَ بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قُرِئَ ”وإلى ثَمُودَ“ بِمَنعِ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ القَبِيلَةِ ”وإلى ثَمُودٍ“ بِالصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الحَيِّ أوْ بِاعْتِبارِ الأصْلِ؛ لِأنَّهُ اسْمُ أبِيهِمُ الأكْبَرِ، وقَدْ ورَدَ القُرْآنُ بِهِما صَرِيحًا. قالَ تَعالى: ﴿ألا إنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهم ألا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ [هود: ٦٨] . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهُ أنَّهُ أمَرَهم بِعِبادَةِ اللَّهِ، ونَهاهم عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ كَما ذَكَرَهُ مَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿قَدْ جاءَتْكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ وهَذِهِ الزِّيادَةُ مَذْكُورَةٌ في هَذِهِ القِصَّةِ، وهي تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن كانَ قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ كانُوا يَذْكُرُونَ الدَّلائِلَ عَلى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ؛ لِأنَّ التَّقْلِيدَ وحْدَهُ لَوْ كانَ كافِيًا لَكانَتْ (p-١٣٢)تِلْكَ البَيِّنَةُ هَهُنا لَغْوًا، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ تِلْكَ البَيِّنَةَ هي النّاقَةُ، فَقالَ: ﴿هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا أنَّهُ تَعالى لَمّا أهْلَكَ عادًا قامَ ثَمُودُ مَقامَهم، وطالَ عُمُرُهم، وكَثُرَ تَنَعُّمُهم، ثُمَّ عَصَوُا اللَّهَ، وعَبَدُوا الأصْنامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ صالِحًا وكانَ مِنهم، فَطالَبُوهُ بِالمُعْجِزَةِ. فَقالَ: ما تُرِيدُونَ ؟ فَقالُوا: تَخْرُجُ مَعَنا في عِيدِنا، ونُخْرِجُ أصْنامَنا وتَسْألُ إلَهَكَ ونَسْألُ أصْنامَنا، فَإذا ظَهَرَ أثَرُ دُعائِكَ اتَّبَعْناكَ، وإنْ ظَهَرَ أثَرُ دُعائِنا اتَّبَعْتَنا، فَخَرَجَ مَعَهم، فَسَألُوهُ أنْ يُخْرِجَ لَهم ناقَةً كَبِيرَةً مِن صَخْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَأخَذَ مَواثِيقَهم أنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ آمَنُوا فَقَبِلُوا، فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ودَعا اللَّهَ فَتَمَخَّضَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ كَما تَتَمَخَّضُ الحامِلُ، ثُمَّ انْفَرَجَتْ وخَرَجَتِ النّاقَةُ مِن وسَطِها، وكانَتْ في غايَةِ الكِبَرِ، وكانَ الماءُ عِنْدَهم قَلِيلًا، فَجَعَلُوا ذَلِكَ الماءَ بِالكُلِّيَّةِ شِرْبًا لَها في يَوْمٍ، وفي اليَوْمِ الثّانِي شِرْبًا لِكُلِّ القَوْمِ. قالَ السُّدِّيُّ: وكانَتِ النّاقَةُ في اليَوْمِ الَّتِي تَشْرَبُ فِيهِ الماءَ تَمُرُّ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ فَتَعْلُوهُما، ثُمَّ تَأْتِي فَتَشْرَبُ، فَتَحْلِبُ ما يَكْفِي الكُلَّ، وكَأنَّها كانَتْ تَصُبُّ اللَّبَنَ صَبًّا، وفي اليَوْمِ الَّذِي يَشْرَبُونَ الماءَ فِيهِ لا تَأْتِيهِمْ، وكانَ مَعَها فَصِيلٌ لَها. فَقالَ لَهم صالِحٌ: يُولَدُ في شَهْرِكم هَذا غُلامٌ يَكُونُ هَلاكُكم عَلى يَدَيْهِ، فَذَبَحَ تِسْعَةُ نَفَرٍ مِنهم أبْناءَهم، ثُمَّ وُلِدَ العاشِرُ فَأبى أنْ يَذْبَحَهُ أبُوهُ، فَنَبَتَ نَباتًا سَرِيعًا، ولَمّا كَبِرَ الغُلامُ جَلَسَ مَعَ قَوْمٍ يُصِيبُونَ مِنَ الشَّرابِ، فَأرادُوا ماءً يَمْزُجُونَهُ بِهِ، وكانَ يَوْمُ شِرْبِ النّاقَةِ فَما وجَدُوا الماءَ، واشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقالَ الغُلامُ: هَلْ لَكم في أنْ أعْقِرَ هَذِهِ النّاقَةَ ؟ فَشَدَّ عَلَيْها، فَلَمّا بَصُرَتْ بِهِ شَدَّتْ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنها إلى خَلْفِ صَخْرَةٍ، فَأحاشُوها عَلَيْهِ، فَلَمّا مَرَّتْ بِهِ تَناوَلَها فَعَقَرَها فَسَقَطَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَنادَوْا صاحِبَهم فَتَعاطى فَعَقَرَ﴾ [القمر: ٢٩] وأظْهَرُوا حِينَئِذٍ كُفْرَهم وعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ، فَقالَ لَهم صالِحٌ: إنَّ آيَةَ العَذابِ أنْ تُصْبِحُوا غَدًا حُمْرًا، واليَوْمَ الثّانِيَ صُفْرًا، واليَوْمَ الثّالِثَ سُودًا، فَلَمّا صَبَّحَهُمُ العَذابُ تَحَنَّطُوا واسْتَعَدُّوا. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في وجْهِ كَوْنِ النّاقَةِ آيَةً، فَقالَ بَعْضُهم: إنَّها كانَتْ آيَةً بِسَبَبِ خُرُوجِها بِكَمالِها مِنَ الصَّخْرَةِ. قالَ القاضِي: هَذا إنْ صَحَّ فَهو مُعْجِزٌ مِن جِهاتٍ: أحَدُها: خُرُوجُها مِنَ الجَبَلِ. والثّانِيَةُ: كَوْنُها لا مِن ذِكْرٍ وأُنْثى. والثّالِثَةُ: كَمالُ خَلْقِها مِن غَيْرِ تَدْرِيجٍ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّها إنَّما كانَتْ آيَةً لِأجْلِ أنَّ لَها شِرْبُ يَوْمٍ، ولِجَمِيعِ ثَمُودَ شِرْبُ يَوْمٍ، واسْتِيفاءُ ناقَةٍ شِرْبَ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ عَجِيبٌ، وكانَتْ مَعَ ذَلِكَ تَأْتِي بِما يَلِيقُ بِذَلِكَ الماءِ مِنَ الكَلَأِ والحَشِيشِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: إنَّ وجْهَ الإعْجازِ فِيها أنَّهم كانُوا في يَوْمِ شِرْبِها يَحْلُبُونَ مِنها القَدْرَ الَّذِي يَقُومُ لَهم مَقامَ الماءِ في يَوْمِ شِرْبِهِمْ. وقالَ الحَسَنُ بِالعَكْسِ مِن ذَلِكَ، فَقالَ: إنَّها لَمْ تَحْلُبْ قَطْرَةَ لَبَنٍ قَطُّ، وهَذا الكَلامُ مُنافٍ لِما تَقَدَّمَ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ وجْهَ الإعْجازِ فِيها أنَّ يَوْمَ مَجِيئِها إلى الماءِ كانَ جَمِيعُ الحَيَواناتِ تَمْتَنِعُ مِنَ الوُرُودِ عَلى الماءِ، وفي يَوْمِ امْتِناعِها كانَتِ الحَيَواناتُ تَأْتِي. واعْلَمْ أنَّ القُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلى أنَّ فِيها آيَةً، فَأمّا ذِكْرُ أنَّها كانَتْ آيَةً مِن أيِّ الوُجُوهِ فَهو غَيْرُ مَذْكُورٍ، والعِلْمُ حاصِلٌ بِأنَّها كانَتْ مُعْجِزَةً مِن وجْهٍ ما لا مَحالَةَ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * (p-١٣٣)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً﴾ فَقَوْلُهُ: (آيَةً) نَصْبٌ عَلى الحالِ، أيْ أُشِيرَ إلَيْها في حالِ كَوْنِها آيَةً، ولَفْظَةُ ”هَذِهِ“ تَتَضَمَّنُ مَعْنى الإشارَةِ، و”آيَةً“ في مَعْنى دالَّةٍ؛ فَلِهَذا جازَ أنْ تَكُونَ حالًا. فَإنْ قِيلَ: تِلْكَ النّاقَةُ كانَتْ آيَةً لِكُلِّ أحَدٍ، فَلِماذا خَصَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ بِها فَقالَ: ﴿هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً﴾ . قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهم عايَنُوها وغَيْرُهم أُخْبِرُوا عَنْها، ولَيْسَ الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ. وثانِيها: لَعَلَّهُ يُثْبِتُ سائِرَ المُعْجِزاتِ، إلّا أنَّ القَوْمَ التَمَسُوا مِنهُ هَذِهِ المُعْجِزَةَ نَفْسَها عَلى سَبِيلِ الِاقْتِراحِ، فَأظْهَرَها اللَّهُ تَعالى لَهم؛ فَلِهَذا المَعْنى حَسُنَ هَذا التَّخْصِيصُ. فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في تَخْصِيصِ تِلْكَ النّاقَةِ بِأنَّها ناقَةُ اللَّهِ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: قِيلَ: أضافَها إلى اللَّهِ تَشْرِيفًا وتَخْصِيصًا، كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ. وقِيلَ: لِأنَّهُ خَلَقَها بِلا واسِطَةٍ. وقِيلَ: لِأنَّها لا مالِكَ لَها غَيْرُ اللَّهِ. وقِيلَ: لِأنَّها حُجَّةُ اللَّهِ عَلى القَوْمِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فَذَرُوها تَأْكُلْ في أرْضِ اللَّهِ﴾ أيِ الأرْضُ أرْضُ اللَّهِ، والنّاقَةُ ناقَةُ اللَّهِ، فَذَرُوها تَأْكُلْ في أرْضِ رَبِّها، فَلَيْسَتِ الأرْضُ لَكم ولا ما فِيها مِنَ النَّباتِ مِن إنْباتِكم، ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، ولا تَضْرِبُوها، ولا تَطْرُدُوها، ولا تَقْرَبُوا مِنها شَيْئًا مِن أنْواعِ الأذى. عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «يا عَلِيُّ، أشْقى الأوَّلِينَ عاقِرُ ناقَةِ صالِحٍ، وأشْقى الآخِرِينَ قاتِلُكَ» . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ عادٍ﴾ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا أهْلَكَ عادًا عَمَّرَتْ ثَمُودُ بِلادَها، وخَلَفُوهم في الأرْضِ، وكَثُرُوا وعُمِّرُوا أعْمارًا طِوالًا. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وبَوَّأكم في الأرْضِ﴾ أنْزَلَكم، والمُبَوَّأُ: المَنزِلُ مِنَ الأرْضِ، أيْ في أرْضِ الحِجْرِ بَيْنَ الحِجازِ والشّامِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِها قُصُورًا﴾ أيْ تُبَوَّؤُنَ القُصُورَ مِن سُهُولَةِ الأرْضِ، فَإنَّ القُصُورَ إنَّما تُبْنى مِنَ الطِّينِ واللَّبِنِ والآجُرِّ، وهَذِهِ الأشْياءُ إنَّما تُتَّخَذُ مِن سُهُولَةِ الأرْضِ ﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا﴾ يُرِيدُ تَنْحِتُونَ بُيُوتًا مِنَ الجِبالِ تَسْقُفُونَها. فَإنْ قالُوا: عَلامَ انْتَصَبَ ”بُيُوتًا“ ؟ قُلْنا: عَلى الحالِ كَما يُقالُ: خَطَّ هَذا الثَّوْبَ قَمِيصًا، وأبَّرَ هَذِهِ القَصَبَةَ قَلَمًا، وهي مِنَ الحالِ المُقَدَّرَةِ؛ لِأنَّ الجَبَلَ لا يَكُونُ بَيْتًا في حالِ النَّحْتِ، ولا الثَّوْبَ والقَصَبَةَ قَمِيصًا، وقَلَمًا في حالِ الخِياطَةِ والبَرْيِ. وقِيلَ: كانُوا يَسْكُنُونَ السُّهُولَ في الصَّيْفِ، والجِبالَ في الشِّتاءِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مُتَنَعِّمِينَ مُتَرَفِّهِينَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ﴾ يَعْنِي قَدْ ذَكَرْتُ لَكم بَعْضَ أقْسامِ ما آتاكُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، وذِكْرُ الكُلِّ طَوِيلٌ، فاذْكُرُوا أنْتُمْ بِعُقُولِكم ما فِيها ﴿ولا تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ قِيلَ: المُرادُ مِنهُ: النَّهْيُ عَنْ عَقْرِ النّاقَةِ، والأوْلى أنْ يُحْمَلَ عَلى ظاهِرِهِ وهو المَنعُ عَنْ كُلِّ أنْواعِ الفَسادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب