الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإلى عادٍ أخاهم هُودًا قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿قالَ ياقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ ولَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أُبَلِّغُكم رِسالاتِ رَبِّي وأنا لَكم ناصِحٌ أمِينٌ﴾ ﴿أوَعَجِبْتُمْ أنْ جاءَكم ذِكْرٌ مِن رَبِّكم عَلى رَجُلٍ مِنكم لِيُنْذِرَكم واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزادَكم في الخَلْقِ بَسْطَةً فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو القِصَّةُ الثّانِيَةُ، وهي قِصَّةُ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ. (p-١٢٦)أمّا قَوْلُهُ: ﴿وإلى عادٍ أخاهم هُودًا﴾ فَفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: انْتَصَبَ قَوْلُهُ: (أخاهم) بِقَوْلِهِ: (أرْسَلْنا) في أوَّلِ الكَلامِ، والتَّقْدِيرُ ”لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ وأرْسَلْنا إلى عادٍ أخاهم هُودًا“ . البَحْثُ الثّانِي: اتَّفَقُوا عَلى أنَّ هُودًا ما كانَ أخًا لَهم في الدِّينِ. واخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ كانَ أخا قَرابَةٍ قَرِيبَةٍ أمْ لا ؟ قالَ الكَلْبِيُّ: إنَّهُ كانَ واحِدًا مِن تِلْكَ القَبِيلَةِ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ كانَ مِن بَنِي آدَمَ ومِن جِنْسِهِمْ لا مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ فَكَفى هَذا القَدَرُ في تَسْمِيَةِ هَذِهِ الأُخُوَّةِ، والمَعْنى أنّا بَعَثْنا إلى عادٍ واحِدًا مِن جِنْسِهِمْ وهو البَشَرُ لِيَكُونَ ألْفُهم والأُنْسُ بِكَلامِهِ وأفْعالِهِ أكْمَلَ، وما بَعَثْنا إلَيْهِمْ شَخْصًا مِن غَيْرِ جِنْسِهِمْ مِثْلَ مَلِكٍ أوْ جِنِّيٍّ. البَحْثُ الثّالِثُ: أخاهم: أيْ صاحِبَهم ورَسُولَهم، والعَرَبُ تُسَمِّي صاحِبَ القَوْمِ أخَ القَوْمِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها﴾ [الأعراف: ٣٨] أيْ صاحِبَتَها وشَبِيهَتَها. وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إنَّ أخا صُداءٍ قَدْ أذَّنَ، وإنَّما يُقِيمُ مَن أذَّنَ» “ يُرِيدُ صاحِبَهم. البَحْثُ الرّابِعُ: قالُوا: نَسَبُ هُودٍ هَذا: هُودُ بْنُ شالَخَ بْنِ أرْفَخْشَذَ بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ. وأمّا عادٌ فَهم قَوْمٌ كانُوا بِاليَمَنِ بِالأحْقافِ، قالَ ابْنُ إسْحاقَ: والأحْقافُ: الرَّمْلُ الَّذِي بَيْنَ عَمّانَ إلى حَضْرَمَوْتَ. البَحْثُ الخامِسُ: اعْلَمْ أنَّ ألْفاظَ هَذِهِ القِصَّةِ مُوافِقَةٌ لِلْألْفاظِ المَذْكُورَةِ في قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا في أشْياءَ: الأوَّلُ: في قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فَقالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وفي قِصَّةِ هُودٍ: ﴿قالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ والفَرْقُ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مُواظِبًا عَلى دَعْواهم وما كانَ يُؤَخِّرُ الجَوابَ عَنْ شُبُهاتِهِمْ لَحْظَةً واحِدَةً، وأمّا هُودٌ فَما كانَتْ مُبالَغَتُهُ إلى هَذا الحَدِّ، فَلا جَرَمَ جاءَ ”فاءُ التَّعْقِيبِ“ في كَلامِ نُوحٍ دُونَ كَلامِ هُودٍ. والثّانِي: أنَّهُ قالَ في قِصَّةِ نُوحٍ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وقالَ في هَذِهِ القِصَّةِ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ والفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أنَّ قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَظْهَرْ في العالَمِ مِثْلُ تِلْكَ الواقِعَةِ العَظِيمَةِ وهي الطُّوفانُ العَظِيمُ، فَلا جَرَمَ أخْبَرَ نُوحٌ عَنْ تِلْكَ الواقِعَةِ فَقالَ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وأمّا واقِعَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدْ كانَتْ مَسْبُوقَةً بِواقِعَةِ نُوحٍ، وكانَ عِنْدَ النّاسِ عِلْمٌ بِتِلْكَ الواقِعَةِ قَرِيبًا، فَلا جَرَمَ اكْتَفى هُودٌ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ والمَعْنى: تَعْرِفُونَ أنَّ قَوْمَ نُوحٍ لَمّا لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ ولَمْ يُطِيعُوهُ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ العَذابُ الَّذِي اشْتَهَرَ خَبَرُهُ في الدُّنْيا فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ إشارَةً إلى التَّخْوِيفِ بِتِلْكَ الواقِعَةِ المُتَقَدِّمَةِ المَشْهُورَةِ في الدُّنْيا. والفَرْقُ الثّالِثُ: قالَ تَعالى في قِصَّةِ نُوحٍ: ﴿قالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ﴾ وقالَ في قِصَّةِ هُودٍ: ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ﴾ والفَرْقُ أنَّهُ كانَ في أشْرافِ قَوْمِ هُودٍ مَن آمَنَ بِهِ، مِنهم مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ، أسْلَمَ وكانَ يَكْتُمُ إيمانَهُ، فَأُرِيدَتِ التَّفْرِقَةُ بِالوَصْفِ، ولَمْ يَكُنْ في أشْرافِ قَوْمِ نُوحٍ مُؤْمِنٌ. والفَرْقُ الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أنَّهم قالُوا: ﴿إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وحَكى عَنْ قَوْمِ هُودٍ أنَّهم قالُوا: ﴿إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ والفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُخَوِّفُ الكُفّارَ بِالطُّوفانِ العامِّ، وكانَ أيْضًا مُشْتَغِلًا بِإعْدادِ السَّفِينَةِ، وكانَ يَحْتاجُ إلى أنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ في إعْدادِ السَّفِينَةِ، فَعِنْدَ هَذا، القَوْمُ قالُوا: ﴿إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ولَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنَ العَلاماتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى (p-١٢٧)ظُهُورِ الماءِ في تِلْكَ المَفازَةِ. أمّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلامُ فَما ذَكَرَ شَيْئًا إلّا أنَّهُ زَيَّفَ عِبادَةَ الأوْثانِ، ونَسَبَ مَنِ اشْتَغَلَ بِعِبادَتِها إلى السَّفاهَةِ وقِلَّةِ العَقْلِ. فَلَمّا ذَكَرَ هُودٌ هَذا الكَلامَ في أسْلافِهِمْ قابَلُوهُ بِمِثْلِهِ ونَسَبُوهُ إلى السَّفاهَةِ ثُمَّ قالُوا: ﴿وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ في ادِّعاءِ الرِّسالَةِ. واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ هَذا الظَّنِّ، فَقالَ بَعْضُهم: المُرادُ مِنهُ القَطْعُ والجَزْمُ. ووُرُودُ الظَّنِّ بِهَذا المَعْنى في القُرْآنِ كَثِيرٌ قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] وقالَ الحَسَنُ والزَّجّاجُ: كانَ تَكْذِيبُهم إيّاهُ عَلى الظَّنِّ لا عَلى اليَقِينِ، فَكَفَرُوا بِهِ ظانِّينَ لا مُتَيَقِّنِينَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ حُصُولَ الشَّكِّ والتَّجْوِيزِ في أُصُولِ الدِّينِ يُوجِبُ الكُفْرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب