الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿قالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿قالَ ياقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ولَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أُبَلِّغُكم رِسالاتِ رَبِّي وأنْصَحُ لَكم وأعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في تَقْرِيرِ المَبْدَأِ والمَعادِ دَلائِلَ ظاهِرَةً، وبَيِّناتٍ قاهِرَةً، وبَراهِينَ باهِرَةً أتْبَعَها بِذِكْرِ قِصَصِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وفِيهِ فَوائِدُ: أحَدُها: التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ إعْراضَ النّاسِ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الدَّلائِلِ والبَيِّناتِ لَيْسَ مِن خَواصِّ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَلْ هَذِهِ العادَةُ المَذْمُومَةُ كانَتْ حاصِلَةً في جَمِيعِ الأُمَمِ السّالِفَةِ، والمُصِيبَةُ إذا عَمَّتْ خَفَّتْ؛ فَكانَ ذِكْرُ قِصَصِهِمْ وحِكايَةِ إصْرارِهِمْ عَلى الجَهْلِ والعِنادِ يُفِيدُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَخْفِيفَ ذَلِكَ عَلى قَلْبِهِ. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى يَحْكِي في هَذِهِ القِصَصِ أنَّ عاقِبَةَ أمْرِ أُولَئِكَ المُنْكِرِينَ كانَ إلى الكُفْرِ واللَّعْنِ في الدُّنْيا والخَسارَةِ في الآخِرَةِ، وعاقِبَةُ أمْرِ المُحِقِّينَ إلى الدَّوْلَةِ في الدُّنْيا والسَّعادَةِ في الآخِرَةِ، وذَلِكَ يُقَوِّي قُلُوبَ المُحِقِّينَ ويَكْسِرُ قُلُوبَ المُبْطِلِينَ. وثالِثُها: التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ تَعالى وإنْ كانَ يُمْهِلُ هَؤُلاءِ المُبْطِلِينَ ولَكِنَّهُ لا يُهْمِلُهم بَلْ يَنْتَقِمُ مِنهم عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ. ورابِعُها: بَيانُ أنَّ هَذِهِ القِصَصَ دالَّةٌ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أُمِّيًّا وما طالَعَ كِتابًا ولا تُلْمِذَ عَلى أُسْتاذٍ، فَإذا ذَكَرَ هَذِهِ القِصَصَ عَلى الوَجْهِ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا خَطَأٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ إنَّما عَرَفَها بِالوَحْيِ مِنَ اللَّهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ الماضِيَةِ لا يَدُلُّ عَلى المُعْجِزِ، لِاحْتِمالِ أنْ يُقالَ إنَّ إبْلِيسَ شاهَدَ هَذِهِ الوَقائِعَ فَألْقاها إلَيْهِ، أمّا الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ المُسْتَقْبَلَةِ فَإنَّهُ مُعْجِزٌ لِأنَّ عِلْمَ الغَيْبِ لَيْسَ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدْ سَبَقَ ذِكْرُها. (p-١٢٠)والقِصَّةُ الثّانِيَةُ: قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وهي المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ، وهو نُوحُ بْنُ لَمَكَ بْنِ مُتْوَشْلِخَ بْنِ أخْنُوخَ، وأخْنُوخُ اسْمُ إدْرِيسَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: قَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. فَإنْ قالُوا: ما السَّبَبُ في أنَّهم لا يَكادُونَ يَنْطِقُونَ بِهَذِهِ اللّامِ إلّا مَعَ قَدْ، وذِكْرُ هَذِهِ اللّامِ بِدُونِ قَدْ نادِرٌ كَقَوْلِهِ: ؎حَلَفْتُ لَها بِاللَّهِ حَلْفَةَ فاجِرٍ لَنامُوا إنَّما كانَ كَذَلِكَ لِأنَّ الجُمْلَةَ القَسَمِيَّةَ لا تُساقُ إلّا تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ المُقْسَمِ عَلَيْها الَّتِي هي جَوابُها. فَكانَتْ مَظِنَّةً لِمَنعِ التَّوَقُّعِ الَّذِي هو مَعْنى ”قَدْ“ عِنْدَ اسْتِماعِ المُخاطَبِ كَلِمَةَ القَسَمِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ الكِسائِيُّ ”غَيْرِهِ“ بِكَسْرِ الرّاءِ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِلْإلَهِ عَلى اللَّفْظِ، والباقُونَ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِلْإلَهِ عَلى المَوْضِعِ؛ لِأنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ ما لَكم إلَهٌ غَيْرُهُ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: وجْهُ مَن قَرَأ بِالرَّفْعِ قَوْلُهُ: ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا اللَّهُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٦٢] فَكَما أنَّ قَوْلَهُ: (إلّا اللَّهُ) بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ (ما مِن إلَهٍ) كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿غَيْرُهُ﴾ يَكُونُ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن إلَهٍ﴾ فَيَكُونُ ”غَيْرُ“ رَفْعًا بِالِاسْتِثْناءِ، وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: قُرِئَ ”غَيْرُ“ بِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ، وذَكَرَ وجْهَ الرَّفْعِ والجَرِّ كَما تَقَدَّمَ، قالَ: وأمّا النَّصْبُ فَعَلى الِاسْتِثْناءِ بِمَعْنى ما لَكم مِن إلَهٍ إلّا إيّاهُ، كَقَوْلِكَ ما في الدّارِ مِن أحَدٍ إلّا زَيْدًا وغَيْرَ زَيْدٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: في الكَلامِ حَذْفٌ، وهو خَبَرُ ”ما“ لِأنَّكَ إذا جَعَلْتَ ”غَيْرُهُ“ صِفَةً لِقَوْلِهِ ”إلَهٍ“ لَمْ يَبْقَ لِهَذا المَنفِيِّ خَبَرٌ، والكَلامُ لا يَسْتَقِلُّ بِالصِّفَةِ والمَوْصُوفِ، لِأنَّكَ إذا قُلْتَ زَيْدٌ العاقِلُ وسَكَتَّ، لَمْ يُفِدْ ما لَمْ تَذْكُرْ خَبَرَهُ. ويَكُونُ التَّقْدِيرُ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ في الوُجُودِ. أقُولُ: اتَّفَقَ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّ قَوْلَنا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ لا بُدَّ فِيهِ مِن إضْمارٍ، والتَّقْدِيرُ: لا إلَهَ في الوُجُودِ أوْ لا إلَهَ لَنا إلّا اللَّهُ ولَمْ يَذْكُرُوا عَلى هَذا الكَلامِ حُجَّةً، فَإنّا نَقُولُ لِمَ لا يَجُوزُ أنَّ يُقالَ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلى هَذِهِ الحَقِيقَةِ، وعَلى هَذِهِ الماهِيَّةِ، فَيَكُونُ المَعْنى أنَّهُ لا تَحَقُّقَ لِحَقِيقَةِ الإلَهِيَّةِ إلّا في حَقِّ اللَّهِ ؟ وإذا حَمَلْنا الكَلامَ عَلى هَذا المَعْنى اسْتَغْنَيْنا عَنِ الإضْمارِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. فَإنْ قالُوا: صَرْفُ النَّفْيِ إلى الماهِيَّةِ لا يُمْكِنُ لِأنَّ الحَقائِقَ لا يُمْكِنُ نَفْيُها، فَلا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لا سَوادَ بِمَعْنى ارْتِفاعِ هَذِهِ الماهِيَّةِ، وإنَّما المُمْكِنُ أنْ يُقالَ إنَّ تِلْكَ الحَقائِقَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ ولا حاصِلَةٍ، وحِينَئِذٍ يَجِبُ إضْمارُ الخَبَرِ. فَنَقُولُ: هَذا الكَلامُ بِناءً عَلى أنَّ الماهِيَّةَ لا يُمْكِنُ انْتِفاؤُها وارْتِفاعُها، وذَلِكَ باطِلٌ قَطْعًا؛ إذْ لَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ امْتِناعُ ارْتِفاعِ الوُجُودِ لَأنَّ الوُجُودَ أيْضًا حَقِيقَةٌ مِنَ الحَقائِقِ وماهِيَّةٌ، فَلِمَ لا يُمْكِنُ ارْتِفاعُ سائِرِ الماهِيّاتِ ؟ فَإنْ قالُوا: إذا قُلْنا لا رَجُلَ، وعَنَيْنا بِهِ نَفْيَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، فَهَذا النَّفْيُ لَمْ يَنْصَرِفْ إلى ماهِيَّةِ الوُجُودِ، وإنَّما انْصَرَفَ إلى كَوْنِ ماهِيَّةِ الرَّجُلِ مَوْصُوفَةً بِالوُجُودِ. فَنَقُولُ: تِلْكَ المَوْصُوفِيَّةُ يَسْتَحِيلُ أنْ تَكُونَ أمْرًا زائِدًا عَلى الماهِيَّةِ وعَلى الوُجُودِ، إذْ لَوْ كانَتْ (p-١٢١)المَوْصُوفِيَّةُ ماهِيَّةً، والوُجُودُ ماهِيَّةً أُخْرى، لَكانَتْ تِلْكَ الماهِيَّةُ مَوْصُوفَةً أيْضًا بِالوُجُودِ، والكَلامُ فِيهِ كَما فِيما قَبْلَهُ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، ويَلْزَمُ أنْ لا يَكُونَ المَوْجُودُ الواحِدُ مَوْجُودًا واحِدًا، بَلْ مَوْجُوداتٍ غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ وهو مُحالٌ. ثُمَّ نَقُولُ: مَوْصُوفِيَّةُ الماهِيَّةِ بِالوُجُودِ إمّا أنْ يَكُونَ أمْرًا مُغايِرًا لِلْماهِيَّةِ والوُجُودِ، وإمّا أنْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ. فَإنْ لَمْ يَكُنْ أمْرًا مُغايِرًا لَها فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِذَلِكَ المُغايِرِ ماهِيَّةٌ ووُجُودٌ، وماهِيَّتُهُ لا تَقْبَلُ الِارْتِفاعَ، وحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤالُ المَذْكُورُ. فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ الماهِيَّةَ أنَّ ”لَمْ“ تَقْبَلُ النَّفْيَ والرَّفْعَ، امْتَنَعَ صَرْفُ حَرْفِ النَّفْيِ إلى شَيْءٍ مِنَ المَفْهُوماتِ، فَإنْ كانَتِ الماهِيَّةُ قابِلَةً لِلنَّفْيِ والرَّفْعِ، فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ صَرْفُ كَلِمَةِ ”لا“ في قَوْلِنا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ إلى هَذِهِ الحَقِيقَةِ، وحِينَئِذٍ لا يُحْتاجُ إلى التِزامِ الحَذْفِ والإضْمارِ الَّذِي يَذْكُرُهُ النَّحْوِيُّونَ، فَهَذا كَلامٌ عَقْلِيٌّ صِرْفٌ وقَعَ في هَذا البَحْثِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا﴾ فِيهِ قَوْلانِ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَعَثْنا. وقالَ آخَرُونَ: مَعْنى الإرْسالِ أنَّهُ تَعالى حَمَّلَهُ رِسالَةً يُؤَدِّيها، فالرِّسالَةُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ مُتَضَمِّنَةً لِلْبَعْثِ، فَيَكُونُ البَعْثُ كالتّابِعِ لا أنَّهُ الأصْلُ، وهَذا البَحْثُ بِناءً عَلى مَسْألَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وهي أنَّهُ هَلْ مِن شَرْطِ إرْسالِ الرَّسُولِ إلى قَوْمٍ، أنْ يُعَرِّفَهم عَلى لِسانِهِ أحْكامًا لا سَبِيلَ لَهم إلى مَعْرِفَتِها بِعُقُولِهِمْ، أوْ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ، بَلْ يَكُونُ الغَرَضُ مِن بَعْثَةِ الرُّسُلِ مُجَرَّدَ تَأْكِيدِ ما في العُقُولِ ؟ وهَذا الخِلافُ إنَّما يَلِيقُ بِتَفارِيعِ المُعْتَزِلَةِ، ولا يَلِيقُ بِتَفارِيعِ مَذْهَبِنا وأُصُولِنا. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في الآيَةِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ نُوحٍ في هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةَ أشْياءَ: أحَدُها: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَهم بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى. والثّانِي: أنَّهُ حَكَمَ أنْ لا إلَهَ غَيْرُ اللَّهِ، والمَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ إثْباتُ التَّكْلِيفِ، والمَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ الثّانِي الإقْرارُ بِالتَّوْحِيدِ. * * * ثُمَّ قالَ عَقِيبَهُ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ مِنهُ إمّا عَذابُ يَوْمِ القِيامَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَهو قَدْ خَوَّفَهم بِيَوْمِ القِيامَةِ، وهَذا هو الدَّعْوى الثّالِثَةُ، أوْ عَذابُ يَوْمِ الطُّوفانِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَقَدِ ادَّعى الوَحْيَ والنُّبُوَّةَ مِن عِنْدِ اللَّهِ. والحاصِلُ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهُ أنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الدَّعاوى الثَّلاثَةَ، ولَمْ يَذْكُرْ عَلى صِحَّةِ واحِدٍ مِنها دَلِيلًا ولا حُجَّةً، فَإنْ كانَ قَدْ أمَرَهم بِالإنْذارِ بِها عَلى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، فَهَذا باطِلٌ، لِما أنَّ القَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ باطِلٌ. وأيْضًا فاللَّهُ تَعالى قَدْ مَلَأ القُرْآنَ مِن ذَمِّ التَّقْلِيدِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ المَعْصُومِ الدَّعْوَةُ إلى التَّقْلِيدِ ؟ وإنْ كانَ قَدْ أمَرَهم بِالإقْرارِ بِها مَعَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ، فَهَذا الدَّلِيلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، وصِحَّةَ المَعادِ، وذَلِكَ تَنْبِيهٌ مِنهُ تَعالى عَلى أنَّ أحَدًا مِنَ الأنْبِياءِ لا يَدْعُو أحَدًا إلى هَذِهِ الأُصُولِ إلّا بِذِكْرِ الحُجَّةِ والدَّلِيلِ. أقْصى ما في البابِ أنَّهُ تَعالى ما حَكى عَنْ نُوحٍ تِلْكَ الدَّلائِلَ في هَذا المَقامِ إلّا أنَّ تِلْكَ الدَّلائِلَ لَمّا كانَتْ مَعْلُومَةً لَمْ يَكُنْ إلى ذِكْرِها حاجَةٌ في هَذا المَقامِ، فَتَرَكَ اللَّهُ تَعالى ذِكْرَ الدَّلائِلِ لِهَذا السَّبَبِ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَ أوَّلًا قَوْلَهُ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وثانِيًا قَوْلَهُ: ﴿ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ والثّانِي كالعِلَّةِ لِلْأوَّلِ؛ لِأنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ لَهم إلَهٌ غَيْرُهُ كانَ كُلُّ ما حَصَلَ عِنْدَهم مِن وُجُوهِ النَّفْعِ والإحْسانِ والبِرِّ واللُّطْفِ حاصِلًا مِنَ اللَّهِ، ونِهايَةُ الإنْعامِ تُوجِبُ نِهايَةَ التَّعْظِيمِ، فَإنَّما وجَبَتْ عِبادَةُ اللَّهِ لِأجْلِ العِلْمِ بِأنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، (p-١٢٢)ويَتَفَرَّعُ عَلى هَذا البَحْثِ مَسْألَةٌ وهي: إنّا قَبْلَ العِلْمِ بِأنْ لا إلَهَ واحِدٌ أوْ أكْثَرُ مِن واحِدٍ لا نَعْلَمُ أنَّ المُنْعِمَ عَلَيْنا بِوُجُوهِ النِّعَمِ الحاصِلَةِ عِنْدَنا هو هَذا أمْ ذاكَ ؟ وإذا جَهِلْنا ذَلِكَ فَقَدْ جَهِلْنا مَن كانَ هو المُنْعِمَ في حَقِّنا، وحِينَئِذٍ لا يَحْسُنُ عِبادَتُهُ، فَعَلى هَذا القَوْلِ كانَ العِلْمُ بِالتَّوْحِيدِ شَرْطًا لِلْعِلْمِ بِحُسْنِ العِبادَةِ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ في هَذِهِ الآيَةِ: أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ الإلَهُ هو الَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ إثْباتٌ ونَفْيٌ، فَيَجِبُ أنْ يَتَوارَدا عَلى مَفْهُومٍ واحِدٍ حَتّى يَسْتَقِيمَ الكَلامُ، فَكانَ المَعْنى: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن مَعْبُودٍ غَيْرُهُ، حَتّى يَتَطابَقَ النَّفْيُ والإثْباتُ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّ الإلَهَ لَيْسَ هو المَعْبُودَ، وإلّا لَوَجَبَ كَوْنُ الأصْنامِ آلِهَةً، وأنْ لا يَكُونَ الإلَهُ إلَهًا في الأزَلِ لِأجْلِ أنَّهُ في الأزَلِ غَيْرُ مَعْبُودٍ، فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الإلَهِ عَلى أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ. واعْلَمْ أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكُمْ﴾ هَلْ هو اليَقِينُ، أوِ الخَوْفُ بِمَعْنى الظَّنِّ والشَّكِّ ؟ قالَ قَوْمٌ: المُرادُ مِنهُ الجَزْمُ واليَقِينُ؛ لِأنَّهُ كانَ جازِمًا بِأنَّ العَذابَ يَنْزِلُ بِهِمْ إمّا في الدُّنْيا وإمّا في الآخِرَةِ إنْ لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ الدِّينَ. وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ مِنهُ الشَّكُّ وتَقْرِيرُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ إنَّما قالَ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكُمْ﴾ لِأنَّهُ جَوَّزَ أنْ يُؤْمِنُوا كَما جَوَّزَ أنْ يَسْتَمِرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ، ومَعَ هَذا التَّجْوِيزِ لا يَكُونُ قاطِعًا بِنُزُولِ العَذابِ، فَوَجَبَ أنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظِ الخَوْفِ. والثّانِي: أنَّ حُصُولَ العِقابِ عَلى الكُفْرِ والمَعْصِيَةِ أمْرٌ لا يُعْرَفُ إلّا بِالسَّمْعِ، ولَعَلَّ اللَّهَ تَعالى ما بَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ المَسْألَةِ، فَلا جَرَمَ بَقِيَ مُتَوَقِّفًا مُجَوِّزًا أنَّهُ تَعالى هَلْ يُعاقِبُهم عَلى ذَلِكَ الكُفْرِ أمْ لا ؟ . والثّالِثُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الخَوْفِ الحَذَرَ كَما قالَ في المَلائِكَةِ: ﴿يَخافُونَ رَبَّهُمْ﴾ [النحل: ٥٠] أيْ يَحْذَرُونَ المَعاصِيَ خَوْفًا مِنَ العِقابِ. الرّابِعُ: أنَّهُ بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ قاطِعًا بِنُزُولِ أصْلِ العَذابِ، لَكِنَّهُ ما كانَ عارِفًا بِمِقْدارِ ذَلِكَ العَذابِ، وهو أنَّهُ عَظِيمٌ جِدًّا أوْ مُتَوَسِّطٌ، فَكانَ هَذا الشَّكُّ راجِعًا إلى وصْفِ العِقابِ، وهو كَوْنُهُ عَظِيمًا أمْ لا، لا في أصْلِ حُصُولِهِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى ما ذَكَرَهُ في قَوْمِهِ، فَقالَ: ﴿قالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: ”المَلَأُ“ الكُبَراءُ والسّاداتُ الَّذِينَ جَعَلُوا أنْفُسَهم أضْدادَ الأنْبِياءِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن قَوْمِهِ﴾ يَقْتَضِي أنَّ ذَلِكَ المَلَأ بَعْضُ قَوْمِهِ، وذَلِكَ البَعْضُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةٍ لِأجْلِها اسْتَحَقُّوا هَذا الوَصْفَ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَمْلَئُونَ صُدُورَ المَجالِسِ، وتَمْتَلِئُ القُلُوبُ مِن هَيْبَتِهِمْ، وتَمْتَلِئُ الأبْصارُ مِن رُؤْيَتِهِمْ، وتَتَوَجَّهُ العُيُونُ في المَحافِلِ إلَيْهِمْ، وهَذِهِ الصِّفاتُ لا تَحْصُلُ إلّا في الرُّؤَساءِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ المَلَأِ الرُّؤَساءُ والأكابِرُ. وقَوْلُهُ: ﴿إنّا لَنَراكَ﴾ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ بِمَعْنى الِاعْتِقادِ والظَّنِّ دُونَ المُشاهَدَةِ والرُّؤْيَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أيْ في خَطَأٍ ظاهِرٍ وضَلالٍ بَيِّنٍ، ولا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُرادُهم نِسْبَةَ نُوحٍ إلى الضَّلالِ في المَسائِلِ الأرْبَعِ الَّتِي بَيَّنّا أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَها، وهي التَّكْلِيفُ والتَّوْحِيدُ والنُّبُوَّةُ والمَعادُ، ولَمّا ذَكَرُوا هَذا الكَلامَ أجابَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿ياقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ . فَإنْ قالُوا: إنَّ القَوْمَ قالُوا: ﴿إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ . فَجَوابُهُ أنْ يُقالَ: لَيْسَ بِي ضَلالٌ، فَلِمَ تَرَكَ هَذا الكَلامَ، وقالَ: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ؟ قُلْتُ: لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ أيْ لَيْسَ بِي نَوْعٌ مِن أنْواعِ الضَّلالَةِ البَتَّةَ، فَكانَ هَذا أبْلَغَ في عُمُومِ السَّلْبِ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا نَفى عَنْ نَفْسِهِ العَيْبَ الَّذِي وصَفُوهُ بِهِ، ووَصَفَ نَفْسَهُ بِأشْرَفِ الصِّفاتِ (p-١٢٣)وأجَلِّها، وهو كَوْنُهُ رَسُولًا إلى الخَلْقِ مِن رَبِّ العالَمِينَ - ذَكَرَ ما هو المَقْصُودُ مِنَ الرِّسالَةِ، وهو أمْرانِ: الأوَّلُ: تَبْلِيغُ الرِّسالَةِ. والثّانِي: تَقْرِيرُ النَّصِيحَةِ. فَقالَ: ﴿أُبَلِّغُكم رِسالاتِ رَبِّي وأنْصَحُ لَكُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو عَمْرٍو ”أُبْلِغُكم“ بِالتَّخْفِيفِ، مِن ”أبْلَغَ“، والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. قالَ الواحِدِيُّ: وكِلا الوَجْهَيْنِ جاءَ في التَّنْزِيلِ، فالتَّخْفِيفُ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ﴾ [هود: ٥٧] والتَّشْدِيدُ ﴿فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الفَرْقُ بَيْنَ تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ وبَيْنَ النَّصِيحَةِ هو أنَّ تَبْلِيغَ الرِّسالَةِ مَعْناهُ: أنْ يُعَرِّفَهم أنْواعَ تَكالِيفِ اللَّهِ وأقْسامَ أوامِرِهِ ونَواهِيهِ، وأمّا النَّصِيحَةُ: فَهو أنَّهُ يُرَغِّبُهُ في الطّاعَةِ، ويُحَذِّرُهُ عَنِ المَعْصِيَةِ، ويَسْعى في تَقْرِيرِ ذَلِكَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ بِأبْلَغِ الوُجُوهِ، وقَوْلُهُ: ﴿رِسالاتِ رَبِّي﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى حَمَّلَهُ أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ الرِّسالَةِ. وهي أقْسامُ التَّكالِيفِ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي، وشَرْحُ مَقادِيرِ الثَّوابِ والعِقابِ في الآخِرَةِ، ومَقادِيرِ الحُدُودِ والزَّواجِرِ في الدُّنْيا، وقَوْلُهُ: ﴿وأنْصَحُ لَكُمْ﴾ قالَ الفَرّاءُ: لا تَكادُ العَرَبُ تَقُولُ: نَصَحْتُكَ، إنَّما تَقُولُ: نَصَحْتُ لَكَ، ويَجُوزُ أيْضًا نَصَحْتُكَ. قالَ النّابِغَةُ: ؎نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا رَسُولِي ولَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسائِلِي وحَقِيقَةُ النُّصْحِ الإرْسالُ إلى المَصْلَحَةِ مَعَ خُلُوصِ النِّيَّةِ مِن شَوائِبِ المَكْرُوهِ، والمَعْنى: أنِّي أُبَلِّغُ إلَيْكم تَكالِيفَ اللَّهِ، ثُمَّ أُرْشِدُكم إلى الأصْوَبِ الأصْلَحِ، وأدْعُوكم إلى ما دَعانِي، وأُحَبِّبُ إلَيْكم ما أُحِبَّهُ لِنَفْسِي. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وأعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: وأعْلَمُ أنَّكم إنْ عَصَيْتُمْ أمْرَهُ عاقَبَكم بِالطُّوفانِ. الثّانِي: وأعْلَمُ أنَّهُ يُعاقِبُكم في الآخِرَةِ عِقابًا شَدِيدًا خارِجًا عَمّا تَتَصَوَّرُهُ عُقُولُكم. الثّالِثُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: وأعْلَمُ مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ وصِفاتِ جَلالِهِ ما لا تَعْلَمُونَ. ويَكُونُ المَقْصُودُ مِن ذِكْرِ هَذا الكَلامِ حَمْلَ القَوْمِ عَلى أنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ في طَلَبِ تِلْكَ العُلُومِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب