الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ ﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ والرَّحْمَةِ، وعِنْدَ هَذا تَمَّ التَّكْلِيفُ المُتَوَجِّهُ إلى تَحْصِيلِ المَعارِفِ النَّفْسانِيَّةِ، والعُلُومِ الحَقِيقِيَّةِ، أتْبَعَهُ بِذِكْرِ الأعْمالِ اللّائِقَةِ بِتِلْكَ المَعارِفِ وهو الِاشْتِغالُ بِالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ، فَإنَّ الدُّعاءَ مُخُّ العِبادَةِ، فَقالَ: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
قالَ بَعْضُهم: ”اعْبُدُوا“ .
وقالَ آخَرُونَ: هو الدُّعاءُ.
ومَن قالَ بِالأوَّلِ عَقَلَ مِنَ الدُّعاءِ أنَّهُ طَلَبُ الخَيْرِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهَذِهِ صِفَةُ العِبادَةِ؛ لِأنَّهُ يُفْعَلُ تَقَرُّبًا وطَلَبًا لِلْمُجازاةِ لِأنَّهُ تَعالى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ والمَعْطُوفُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. والقَوْلُ الثّانِي هو الأظْهَرُ؛ لِأنَّ الدُّعاءَ مُغايِرٌ لِلْعِبادَةِ في المَعْنى.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في الدُّعاءِ، فَمِنهم مَن أنْكَرَهُ. واحْتَجَّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِأشْياءَ:
الأوَّلُ: أنَّ المَطْلُوبَ بِالدُّعاءِ إنْ كانَ مَعْلُومَ الوُقُوعِ كانَ واجِبَ الوُقُوعِ لِامْتِناعِ وُقُوعِ التَّغْيِيرِ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى، وما كانَ واجِبَ الوُقُوعِ لَمْ يَكُنْ في طَلَبِهِ فائِدَةٌ، وإنْ كانَ مَعْلُومَ الوُقُوعِ كانَ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ فَلا فائِدَةَ أيْضًا في طَلَبِهِ.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى إنْ كانَ قَدْ أرادَ في الأزَلِ إحْداثَ ذَلِكَ المَطْلُوبِ، فَهو حاصِلٌ سَواءٌ حَصَلَ هَذا الدُّعاءُ أوْ لَمْ يَحْصُلْ، وإنْ كانَ قَدْ أرادَ في الأزَلِ أنْ لا يُعْطِيَهُ فَهو مُمْتَنِعُ الوُقُوعِ فَلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ، وإنْ قُلْنا أنَّهُ ما أرادَ في الأزَلِ إحْداثَ ذَلِكَ الشَّيْءِ لا وُجُودَهُ ولا عَدَمَهُ، ثُمَّ إنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ الدُّعاءِ، صارَ مُرِيدًا لَهُ لَزِمَ وُقُوعُ التَّغَيُّرِ في ذاتِ اللَّهِ وفي صِفاتِهِ، وهو مُحالٌ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ: يَصِيرُ إقْدامُ العَبْدِ عَلى الدُّعاءِ عِلَّةً لِحُدُوثِ صِفَةٍ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ العَبْدُ مُتَصَرِّفًا في صِفَةِ اللَّهِ بِالتَّبْدِيلِ والتَّغْيِيرِ، وهو مُحالٌ.
والثّالِثُ: أنَّ المَطْلُوبَ بِالدُّعاءِ إنِ اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ والمَصْلَحَةُ إعْطاءَهُ، فَهو تَعالى يُعْطِيهِ مِن غَيْرِ هَذا الدُّعاءِ (p-١٠٥)لِأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يَكُونَ بَخِيلًا، وإنِ اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ مَنعَهُ، فَهو لا يُعْطِيهِ سَواءٌ أقَدَمَ العَبْدُ عَلى الدُّعاءِ أوْ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ.
والرّابِعُ: أنَّ الدُّعاءَ غَيْرُ الأمْرِ، ولا تَفاوُتَ بَيْنَ البابَيْنِ إلّا كَوْنُ الدّاعِي أقَلَّ رُتْبَةً، وكَوْنُ الآمِرِ أعْلى رُتْبَةً، وإقْدامُ العَبْدِ عَلى أمْرِ اللَّهِ سُوءُ أدَبٍ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ.
الخامِسُ: الدُّعاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ عَلى إرْشادِ رَبِّهِ وإلَهِهِ إلى فِعْلِ الأصْلَحِ والأصْوَبِ، وذَلِكَ سُوءُ أدَبٍ، أوْ أنَّهُ يُنَبِّهُ الإلَهَ عَلى شَيْءٍ ما كانَ مُنْتَبِهًا لَهُ وذَلِكَ كُفْرٌ، وأنَّهُ تَعالى قَصَّرَ في الإحْسانِ والفَضْلِ، فَأنْتَ بِهَذا تَحْمِلُهُ عَلى الإقْدامِ عَلى الإحْسانِ والفَضْلِ، وذَلِكَ جَهْلٌ.
السّادِسُ: أنَّ الإقْدامَ عَلى الدُّعاءِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ غَيْرَ راضٍ بِالقَضاءِ إذْ لَوْ رَضِيَ بِما قَضاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَتَرَكَ تَصَرُّفَ نَفْسِهِ ولَما طَلَبَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا عَلى التَّعْيِينِ، وتَرْكُ الرِّضا بِالقَضاءِ أمْرٌ مِنَ المُنْكَراتِ.
السّابِعُ: كَثِيرًا ما يَظُنُّ العَبْدُ بِشَيْءٍ كَوْنَهُ نافِعًا وخَيِّرًا، ثُمَّ إنَّهُ عِنْدَ دُخُولِهِ في الوُجُودِ يَصِيرُ سَبَبًا لِلْآفاتِ الكَثِيرَةِ والمَفاسِدِ العَظِيمَةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ طَلَبُ الشَّيْءِ المُعَيَّنِ مِنَ اللَّهِ غَيْرَ جائِزٍ، بَلِ الأوْلى طَلَبُ ما هو المَصْلَحَةُ والخَيْرُ، وذَلِكَ حاصِلٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى سَواءٌ طَلَبَهُ العَبْدُ بِالدُّعاءِ أوْ لَمْ يَطْلُبْهُ. فَلَمْ يَبْقَ في الدُّعاءِ فائِدَةٌ.
الثّامِنُ: أنَّ الدُّعاءَ عِبارَةٌ عَنْ تَوَجُّهِ القَلْبِ إلى طَلَبِ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وتَوَجُّهُ القَلْبِ إلى طَلَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ المُعَيَّنِ يَمْنَعُ القَلْبَ مِنَ الِاسْتِغْراقِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، وفي مَحَبَّتِهِ، وفي عُبُودِيَّتِهِ، وهَذِهِ مَقاماتٌ عالِيَةٌ شَرِيفَةٌ، وما يَمْنَعُ مِن حُصُولِ المَقاماتِ العالِيَةِ الشَّرِيفَةِ كانَ مَذْمُومًا.
التّاسِعُ: رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ حاكِيًا عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ: ”«مَن شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطِي السّائِلِينَ» “ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأوْلى تَرْكُ الدُّعاءِ.
العاشِرُ: أنَّ عِلْمَ الحَقِّ مُحِيطٌ بِحاجَةِ العَبْدِ، والعَبْدُ إذا عَلِمَ أنَّ مَوْلاهُ عالِمٌ بِاحْتِياجِهِ، فَسَكَتَ ولَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الحاجَةَ كانَ ذَلِكَ أدْخَلَ في الأدَبِ، وفي تَعْظِيمِ المَوْلى مِمّا إذا أخَذَ يَشْرَحُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الحالَةِ، ويَطْلُبُ ما يَدْفَعُ تِلْكَ الحاجَةَ، وإذا كانَ الحالُ عَلى هَذا الوَجْهِ في الشّاهِدِ، وجَبَ اعْتِبارُ مِثْلِهِ في حَقِّ اللَّهِ سُبْحانَهُ، ولِذَلِكَ يُقالُ إنَّ الخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا وُضِعَ في المَنجَنِيقِ لِيُرْمى إلى النّارِ، قالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ادْعُ رَبَّكَ، فَقالَ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: حَسْبِي مِن سُؤالِي عِلْمُهُ بِحالِي. فَهَذِهِ الوُجُوهُ هي المَذْكُورَةُ في هَذا البابِ.
واعْلَمْ أنَّ الدُّعاءَ نَوْعٌ مِن أنْواعِ العِبادَةِ، والأسْئِلَةُ المَذْكُورَةُ وارِدَةٌ في جَمِيعِ أنْواعِ العِباداتِ، فَإنَّهُ يُقالُ إنْ كانَ هَذا الإنْسانُ سَعِيدًا في عِلْمِ اللَّهِ فَلا حاجَةَ إلى الطّاعاتِ والعِباداتِ، وإنْ كانَ شَقِيًّا في عِلْمِهِ فَلا فائِدَةَ في تِلْكَ العِباداتِ، وأيْضًا يُقالُ وجَبَ أنْ لا يُقْدِمَ الإنْسانُ عَلى أكْلِ الخُبْزِ وشُرْبِ الماءِ لِأنَّهُ إنْ كانَ هَذا الإنْسانُ شَبْعانَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى فَلا حاجَةَ إلى أكْلِ الخُبْزِ، وإنْ كانَ جائِعًا فَلا فائِدَةَ في أكْلِ الخُبْزِ، وكَما أنَّ هَذا الكَلامَ باطِلٌ هَهُنا، فَكَذا فِيما ذَكَرُوهُ، بَلْ نَقُولُ: الدُّعاءُ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ ذِلَّةِ العُبُودِيَّةِ ويُفِيدُ مَعْرِفَةَ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وهَذا هو المَقْصُودُ الأشْرَفُ الأعْلى مِن جَمِيعِ العِباداتِ، وبَيانُهُ أنَّ الدّاعِيَ لا يُقْدِمُ عَلى الدُّعاءِ إلّا إذا عَرَفَ مِن نَفْسِهِ كَوْنَهُ مُحْتاجًا إلى ذَلِكَ المَطْلُوبِ وكَوْنَهُ عاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِهِ وعَرَفَ مِن رَبِّهِ وإلَهِهِ أنَّهُ يَسْمَعُ دُعاءَهُ، ويَعْلَمُ حاجَتَهُ وهو قادِرٌ عَلى دَفْعِ تِلْكَ الحاجَةِ وهو رَحِيمٌ تَقْتَضِي رَحْمَتُهُ إزالَةَ تِلْكَ الحاجَةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَهو لا يُقْدِمُ عَلى الدُّعاءِ إلّا إذا عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِالحاجَةِ وبِالعَجْزِ وعَرَفَ كَوْنَ الإلَهِ سُبْحانَهُ مَوْصُوفًا بِكَمالِ العِلْمِ والقُدْرَةِ والرَّحْمَةِ، فَلا مَقْصُودَ مِن جَمِيعِ التَّكالِيفِ إلّا مَعْرِفَةُ ذُلِّ العُبُودِيَّةِ وعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ، فَإذا كانَ الدُّعاءُ مُسْتَجْمِعًا لِهَذَيْنِ المَقامَيْنِ لا جَرَمَ كانَ الدُّعاءُ أعْظَمَ أنْواعِ العِباداتِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ إشارَةٌ إلى المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ لِأنَّ التَّضَرُّعَ لا يَحْصُلُ إلّا مِنَ النّاقِصِ في حَضْرَةِ الكامِلِ، فَما لَمْ يَعْتَقِدِ (p-١٠٦)العَبْدُ نُقْصانَ نَفْسِهِ وكَمالَ مَوْلاهُ في العِلْمِ والقُدْرَةِ والرَّحْمَةِ لَمْ يُقْدِمْ عَلى التَّضَرُّعِ، فَثَبَتَ أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الدُّعاءِ ما ذَكَرْناهُ، فَثَبَتَ أنَّ لَفْظَ القُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. والَّذِي يُقَوِّي ما ذَكَرْناهُ ما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«ما مِن شَيْءٍ أكْرَمَ عَلى اللَّهِ مِنَ الدُّعاءِ» «والدُّعاءُ هو العِبادَةُ“ ثُمَّ قَرَأ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ»﴾ ) [غافِرٍ: ٦٠] وتَمامُ الكَلامِ في حَقائِقِ الدُّعاءِ مَذْكُورٌ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٦] واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَقْرِيرِ شَرائِطِ الدُّعاءِ.
اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الدُّعاءِ أنْ يَصِيرَ العَبْدُ مُشاهِدًا لِحاجَةِ نَفْسِهِ ولِعَجْزِ نَفْسِهِ ومُشاهِدًا لِكَوْنِ مَوْلاهُ مَوْصُوفًا بِكَمالِ العِلْمِ والقُدْرَةِ والرَّحْمَةِ، فَكُلُّ هَذِهِ المَعانِي دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا﴾ ثُمَّ إذا حَصَلَتْ هَذِهِ الأحْوالُ عَلى سَبِيلِ الخُلُوصِ، فَلا بُدَّ مِن صَوْنِها عَنِ الرِّياءِ المُبْطِلِ لِحَقِيقَةِ الإخْلاصِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخُفْيَةً﴾، والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ التَّضَرُّعِ تَحْقِيقُ الحالَةِ الأصْلِيَّةِ المَطْلُوبَةِ مِنَ الدُّعاءِ، والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ الإخْفاءِ صَوْنُ ذَلِكَ الإخْلاصِ عَنْ شَوائِبَ الرِّياءِ، وإذا عَرَفْتَ هَذا المَعْنى ظَهَرَ لَكَ أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ مُشْتَمِلٌ عَلى كُلِّ ما يُرادُ تَحْقِيقُهُ وتَحْصِيلُهُ في شَرائِطِ الدُّعاءِ، وأنَّهُ لا يَزِيدُ عَلَيْهِ البَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وأمّا تَفْصِيلُ الكَلامِ في تِلْكَ الشَّرائِطِ، فَقَدْ بالَغَ في شَرْحِها الشَّيْخُ سُلَيْمانُ الحَلِيمِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ في كِتابِ المِنهاجِ فَيُطْلَبُ مِن هُناكَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ”التَّضَرُّعُ“ التَّذَلُّلُ والتَّخَشُّعُ، وهو إظْهارُ ذُلِّ النَّفْسِ مِن قَوْلِهِمْ: ضَرِعَ فُلانٌ لِفُلانٍ، وتَضَرَّعَ لَهُ إذا أظْهَرَ الذُّلَّ لَهُ في مَعْرِضِ السُّؤالِ، ”والخُفْيَةُ“ ضِدُّ العَلانِيَةِ، يُقالُ: أخْفَيْتُ الشَّيْءَ إذا سَتَرْتُهُ، ويُقالُ ”خِفْيَةٌ“ أيْضًا بِالكَسْرِ، وقَرَأ عاصِمٌ وحْدَهُ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ عَنْهُ ”خِفْيَةً“ بِكَسْرِ الخاءِ هَهُنا، وفي الأنْعامِ، والباقُونَ بِالضَّمِّ، وهُما لُغَتانِ.
واعْلَمْ أنَّ الإخْفاءَ مُعْتَبَرٌ في الدُّعاءِ، ويَدُلُّ عَلى وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: هَذِهِ الآيَةُ فَإنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِالدُّعاءِ مَقْرُونًا بِالإخْفاءِ، وظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإنْ لَمْ يَحْصُلِ الوُجُوبُ، فَلا أقَلَّ مِن كَوْنِهِ نَدْبًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى بَعْدَهُ: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ والأظْهَرُ أنَّ المُرادَ أنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ في تَرْكِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، وهُما التَّضَرُّعُ والإخْفاءُ، فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّهُ، ومَحَبَّةُ اللَّهِ تَعالى عِبارَةٌ عَنِ الثَّوابِ، فَكانَ المَعْنى أنَّ مَن تَرَكَ في الدُّعاءِ التَّضَرُّعَ والإخْفاءَ، فَإنَّ اللَّهَ لا يُثِيبُهُ البَتَّةَ، ولا يُحْسِنُ إلَيْهِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ مِن أهْلِ العِقابِ لا مَحالَةَ، فَظَهَرَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ كالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ عَلى تَرْكِ التَّضَرُّعِ والإخْفاءِ في الدُّعاءِ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى أثْنى عَلى زَكَرِيّا فَقالَ: ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٣] أيْ أخْفاهُ عَنِ العِبادِ وأخْلَصَهُ لِلَّهِ وانْقَطَعَ بِهِ إلَيْهِ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: ما رَوى أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ، أنَّهم كانُوا في غَزاةٍ فَأشْرَفُوا عَلى وادٍ فَجَعَلُوا يُكَبِّرُونَ ويُهَلِّلُونَ رافِعِي أصْواتِهِمْ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ارْفِقُوا عَلى أنْفُسِكم إنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائِبًا إنَّكم تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وإنَّهُ لَمَعَكم» “ .
(p-١٠٧)الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«دَعْوَةٌ في السِّرِّ تَعْدِلُ سَبْعِينَ دَعْوَةً في العَلانِيَةِ» “ وعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ وخَيْرُ الرِّزْقِ ما يَكْفِي» “ وعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: إنَّ الرَّجُلَ كانَ يَجْمَعُ القُرْآنَ وما يَشْعُرُ بِهِ جارُهُ، يَفْقَهُ الكَثِيرَ وما يَشْعُرُ بِهِ النّاسُ، ويُصَلِّي الصَّلاةَ الطَّوِيلَةَ في لَيْلِهِ وعِنْدَهُ الزّائِرُونَ وما يَشْعُرُونَ بِهِ. ولَقَدْ أدْرَكْنا أقْوامًا كانُوا يُبالِغُونَ في إخْفاءِ الأعْمالِ، ولَقَدْ كانَ المُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ في الدُّعاءِ وما يُسْمَعُ صَوْتُهم إلّا هَمْسًا؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ وذَكَرَ اللَّهُ عَبْدَهُ زَكَرِيّا فَقالَ: ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٣] .
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: المَعْقُولُ وهو أنَّ النَّفْسَ شَدِيدَةُ المَيْلِ عَظِيمَةُ الرَّغْبَةِ في الرِّياءِ والسُّمْعَةِ، فَإذا رَفَعَ صَوْتَهُ في الدُّعاءِ امْتَزَجَ الرِّياءُ بِذَلِكَ الدُّعاءِ فَلا يَبْقى فِيهِ فائِدَةٌ البَتَّةَ، فَكانَ الأوْلى إخْفاءُ الدُّعاءِ لِيَبْقى مَصُونًا عَنِ الرِّياءِ.
وهَهُنا مَسائِلُ عَظُمَ اخْتِلافُ أرْبابِ الطَّرِيقَةِ فِيها، وهي: أنَّهُ هَلِ الأوْلى إخْفاءُ العِباداتِ أمْ إظْهارُها ؟ فَقالَ بَعْضُهم: الأوْلى إخْفاؤُها صَوْنًا لَها عَنِ الرِّياءِ، وقالَ آخَرُونَ: الأوْلى إظْهارُها لِيَرْغَبَ الغَيْرُ في الِاقْتِداءِ بِهِ في أداءِ تِلْكَ العِباداتِ. وتَوَسَّطَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسى الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فَقالَ: إنْ كانَ خائِفًا عَلى نَفْسِهِ مِنَ الرِّياءِ، الأوْلى الإخْفاءُ صَوْنًا لِعَمَلِهِ عَنِ البُطْلانِ، وإنْ كانَ قَدْ بَلَغَ في الصَّفاءِ وقُوَّةِ اليَقِينِ إلى حَيْثُ صارَ آمِنًا عَنْ شائِبَةِ الرِّياءِ كانَ الأوْلى في حَقِّهِ الإظْهارَ لِتَحْصُلْ فائِدَةُ الِاقْتِداءِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إخْفاءُ التَّأْمِينِ أفْضَلُ. وقالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إعْلانُهُ أفْضَلُ، واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ، قالَ: في قَوْلِهِ: ”آمِينَ“ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ دُعاءٌ.
والثّانِي: أنَّهُ مِن أسْماءِ اللَّهِ.
فَإنْ كانَ دُعاءً وجَبَ إخْفاؤُهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ وإنْ كانَ اسْمًا مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى وجَبَ إخْفاؤُهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً﴾ [الأعْرافِ: ٢٥] فَإنْ لَمْ يَثْبُتِ الوُجُوبُ فَلا أقَلَّ مِنَ النَّدْبِيَّةِ. ونَحْنُ بِهَذا القَوْلِ نَقُولُ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ المَحَبَّةَ صِفَةٌ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ القُرْآنَ نَطَقَ بِإثْباتِها في آياتٍ كَثِيرَةٍ. واتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لَيْسَ مَعْناها شَهْوَةَ النَّفْسِ ومَيْلَ الطَّبْعِ وطَلَبَ التَّلَذُّذِ بِالشَّيْءِ؛ لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ بِالِاتِّفاقِ، واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ المَحَبَّةِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ:
فالقَوْلُ الأوَّلُ: أنَّها عِبارَةٌ عَنْ إيصالِ اللَّهِ الثَّوابَ والخَيْرَ والرَّحْمَةَ إلى العَبْدِ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعالى مُرِيدًا لِإيصالِ الثَّوابِ والخَيْرِ إلى العَبْدِ. وهَذا الِاخْتِلافُ بِناءً عَلى مَسْألَةٍ أُخْرى وهي: أنَّهُ تَعالى هَلْ هو مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الإرادَةِ أمْ لا ؟ قالَ الكَعْبِيُّ وأبُو الحُسَيْنِ: إنَّهُ تَعالى غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالإرادَةِ البَتَّةَ، فَكَوْنُهُ تَعالى مُرِيدًا لِأفْعالِ نَفْسِهِ أنَّهُ مُوجِدٌ لَها وفاعِلٌ لَها، وكَوْنُهُ تَعالى مُرِيدًا لِأفْعالِ غَيْرِهِ كَوْنُهُ آمِرًا بِها، ولا يَجُوزُ كَوْنُهُ تَعالى مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الإرادَةِ. وأمّا أصْحابُنا ومُعْتَزِلَةُ البَصْرَةِ فَقَدْ أثْبَتُوا كَوْنَهُ تَعالى مَوْصُوفًا بِصِفَةِ المُرِيدِيَّةِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَمَن نَفى الإرادَةَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى فَسَّرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ إيصالِ الثَّوابِ إلى العَبْدِ، ومَن أثْبَتَ الإرادَةَ لِلَّهِ تَعالى فَسَّرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ بِإرادَتِهِ لِإيصالِ الثَّوابِ إلَيْهِ.
(p-١٠٨)والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعالى لِلْعَبْدِ صِفَةً وراءَ كَوْنِهِ تَعالى مُرِيدًا لِإيصالِ الثَّوابِ إلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنّا نَجِدُ في الشّاهِدِ أنَّ الأبَ يُحِبُّ ابْنَهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلى تِلْكَ المَحَبَّةِ إرادَةُ إيصالِ الخَيْرِ إلى ذَلِكَ الِابْنِ فَكانَتْ هَذِهِ الإرادَةُ أثَرًا مِن آثارِ تِلْكَ المَحَبَّةِ وثَمَرَةً مِن ثَمَراتِها وفائِدَةً مِن فَوائِدِها.
أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذِهِ المَحَبَّةَ في الشّاهِدِ عِبارَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ ومَيْلِ الطَّبْعِ ورَغْبَةِ النَّفْسِ وذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، إلّا أنّا نَقُولُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعالى صِفَةٌ أُخْرى سِوى الشَّهْوَةِ ومَيْلِ الطَّبْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْها إرادَةُ إيصالِ الخَيْرِ والثَّوابِ إلى العَبْدِ ؟ أقْصى ما في البابِ، أنّا لا نَعْرِفُ أنَّ تِلْكَ المَحَبَّةَ ما هي وكَيْفَ هي ؟ ! إلّا أنَّ عَدَمَ العِلْمِ بِالشَّيْءِ لا يُوجِبُ العِلْمَ بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ. ألا تَرى أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ كَوْنَهُ تَعالى مَرْئِيًّا، ثُمَّ يَقُولُونَ أنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ مُخالِفَةٌ لِرُؤْيَةِ الأجْسامِ والألْوانِ، بَلْ هي رُؤْيَةٌ بِلا كَيْفٍ، فَلِمَ لا يَقُولُونَ هَهُنا أيْضًا: إنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مَحَبَّةٌ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مَيْلِ الطَّبْعِ وشَهْوَةِ النَّفْسِ بَلْ هي مَحَبَّةٌ بِلا كَيْفٍ ؟ فَثَبَتَ أنَّ جَزْمَ المُتَكَلِّمِينَ بِأنَّهُ لا مَعْنى لِمَحَبَّةِ اللَّهِ إلّا إرادَةُ إيصالِ الثَّوابِ لَيْسَ لَهم عَلى هَذا الحَصْرِ دَلِيلٌ قاطِعٌ. بَلْ أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ لا دَلِيلَ عَلى إثْباتِ صِفَةٍ أُخْرى سِوى الإرادَةِ فَوَجَبَ نَفْيُها، لَكِنّا بَيَّنّا في كِتابِ نِهايَةِ العُقُولِ أنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ ضَعِيفَةٌ ساقِطَةٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ أيِ المُجاوِزِينَ ما أُمِرُوا بِهِ. قالَ الكَلْبِيُّ وابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ الِاعْتِداءِ رَفْعُ الصَّوْتِ في الدُّعاءِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَن خالَفَ أمْرَ اللَّهِ تَعالى ونَهْيَهُ، فَقَدِ اعْتَدى وتَعَدّى، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ مَن لا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَإنَّهُ يُعَذِّبُهُ، فَظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ مَن خالَفَ أمْرَ اللَّهِ ونَهْيَهُ، فَإنَّهُ يَكُونُ مُعاقَبًا. والمُعْتَزِلَةُ تُمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى القَطْعِ بِوَعِيدِ الفُسّاقِ، وقالُوا لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: المُرادُ مِنهُ الِاعْتِداءُ في رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعاءِ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ لَفْظَ ”المُعْتَدِينَ“ لَفْظٌ عامٌّ دَخَلَهُ الألِفُ واللّامُ، فَيُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ، غايَتُهُ أنَّهُ إنَّما ورَدَ في هَذِهِ الصُّورَةِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
الثّانِي: أنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالدُّعاءِ لَيْسَ مِنَ المُحَرَّماتِ بَلْ غايَتُهُ أنْ يُقالَ: الأوْلى تَرْكُهُ، وإذا لَمْ يَكُنْ مِنَ المُحَرَّماتِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذا الوَعِيدِ.
والجَوابُ المُسْتَقْصى ما ذَكَرْناهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ أنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ العُمُوماتِ لا يُفِيدُ القَطْعَ بِالوَعِيدِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها﴾ مَعْناهُ ولا تُفْسِدُوا شَيْئًا في الأرْضِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ المَنعُ مِن إفْسادِ النُّفُوسِ بِالقَتْلِ وبِقَطْعِ الأعْضاءِ، وإفْسادِ الأمْوالِ بِالغَصْبِ والسَّرِقَةِ ووُجُوهِ الحِيَلِ، وإفْسادِ الأدْيانِ بِالكَفْرِ والبِدْعَةِ، وإفْسادِ الأنْسابِ بِسَبَبِ الإقْدامِ عَلى الزِّنا واللِّواطَةِ وسَبَبِ القَذْفِ، وإفْسادِ العُقُولِ بِسَبَبِ شُرْبِ المُسْكِراتِ، وذَلِكَ لِأنَّ المَصالِحَ المُعْتَبَرَةَ في الدُّنْيا هي هَذِهِ الخَمْسَةُ: النُّفُوسُ والأمْوالُ والأنْسابُ والأدْيانُ والعُقُولُ. فَقَوْلُهُ: ﴿ولا تُفْسِدُوا﴾ مَنعٌ عَنْ إدْخالِ ماهِيَّةِ الإفْسادِ في الوُجُودِ، والمَنعُ مِن إدْخالِ الماهِيَّةِ في الوُجُودِ يَقْتَضِي المَنعَ مِن جَمِيعِ أنْواعِهِ وأصْنافِهِ، فَيَتَناوَلُ المَنعَ مِنَ الإفْسادِ في هَذِهِ الأقْسامِ الخَمْسَةِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿بَعْدَ إصْلاحِها﴾ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بَعْدَ أنْ أصْلَحَ خِلْقَتَها عَلى الوَجْهِ المُطابِقِ لِمَنافِعِ الخَلْقِ والمُوافِقِ لِمَصالِحِ المُكَلَّفِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بَعْدَ إصْلاحِ الأرْضِ بِسَبَبِ إرْسالِ (p-١٠٩)الأنْبِياءِ وإنْزالِ الكُتُبِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: لَمّا أصْلَحْتُ مَصالِحَ الأرْضِ بِسَبَبِ إرْسالِ الأنْبِياءِ وإنْزالِ الكُتُبِ وتَفْصِيلِ الشَّرائِعِ فَكُونُوا مُنْقادِينَ لَها، ولا تُقْدِمُوا عَلى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وإنْكارِ الكُتُبِ والتَّمَرُّدِ عَنْ قَبُولِ الشَّرائِعِ، فَإنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الهَرَجِ والمَرَجِ في الأرْضِ، فَيَحْصُلُ الإفْسادُ بَعْدَ الإصْلاحِ، وذَلِكَ مُسْتَكْرَهٌ في بَداهَةِ العُقُولِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأصْلَ في المَضارِّ الحُرْمَةُ والمَنعُ عَلى الإطْلاقِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنْ وجَدْنا نَصًّا خاصًّا دَلَّ عَلى جَوازِ الإقْدامِ عَلى بَعْضِ المَضارِّ قَضَيْنا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخاصِّ عَلى العامِّ وإلّا بَقِيَ عَلى التَّحْرِيمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذا النَّصُّ.
واعْلَمْ أنّا كُنّا قَدْ ذَكَرْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعْرافِ: ٣٢] أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأصْلَ في المَنافِعِ واللَّذّاتِ الإباحَةُ والحِلُّ، ثُمَّ بَيَّنّا أنَّهُ لَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ دَخَلَ تَحْتَ تِلْكَ الآيَةِ جَمِيعُ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى، فَكَذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ الأصْلَ في المَضارِّ والآلامِ الحُرْمَةُ.
وإذا ثَبَتَ هَذا كانَ جَمِيعُ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى داخِلًا تَحْتَ عُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ، وجَمِيعُ ما ذَكَرْناهُ مِنَ المَباحِثِ واللَّطائِفِ في تِلْكَ الآيَةِ فَهي مَوْجُودَةٌ في هَذِهِ الآيَةِ، فَتِلْكَ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ الأصْلَ في المَنافِعِ الحِلُّ، وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ الأصْلَ في جَمِيعِ المَضارِّ الحُرْمَةُ، وكُلُّ واحِدَةٍ مِن هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مُطابِقَةٌ لِلْأُخْرى مُؤَكِّدَةٌ لِمَدْلُولِها مُقَرِّرَةٌ لِمَعْناها، وتَدُلُّ عَلى أنَّ أحْكامَ جَمِيعِ الوَقائِعِ داخِلَةٌ تَحْتَ هَذِهِ العُمُوماتِ، وأيْضًا هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ كُلَّ عَقْدٍ وقَعَ التَّراضِي عَلَيْهِ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ، فَإنَّهُ انْعَقَدَ وصَحَّ وثَبَتَ؛ لِأنَّ رَفْعَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ يَكُونُ إفْسادًا بَعْدَ الإصْلاحِ، والنَّصُّ دَلَّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: أنَّ مَدْلُولَ هَذِهِ الآيَةِ مِن هَذا الوَجْهِ مُتَأكِّدٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ [المائِدَةِ: ١] وبِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصَّفِّ: ٢، ٣] وتَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ هم لِأماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٨] وتَحْتَ سائِرِ العُمُوماتِ الوارِدَةِ في وُجُوبِ الوَفاءِ بِالعُهُودِ والعُقُودِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنْ وجَدْنا نَصًّا دالًّا عَلى أنَّ بَعْضَ العُقُودِ الَّتِي وقَعَ التَّراضِي بِهِ مِنَ الجانِبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَضَيْنا فِيهِ بِالبُطْلانِ تَقْدِيمًا لِلْخاصِّ عَلى العامِّ، وإلّا حَكَمْنا فِيهِ بِالصِّحَّةِ رِعايَةً لِمَدْلُولِ هَذِهِ العُمُوماتِ. وبِهَذا الطَّرِيقِ البَيِّنِ الواضِحِ ثَبَتَ أنَّ القُرْآنَ وافٍ بِبَيانِ جَمِيعِ أحْكامِ الشَّرِيعَةِ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ وفِيهِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: قالَ في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿ولا تُفْسِدُوا﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿وادْعُوهُ﴾ وهَذا يَقْتَضِي عَطْفَ الشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ وهو باطِلٌ.
والجَوابُ: أنَّ الَّذِينَ قالُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا﴾ أيِ اعْبُدُوهُ، إنَّما قالُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِن هَذا الإشْكالِ.
(p-١١٠)فَإنْ قُلْنا بِهَذا التَّفْسِيرِ فَقَدْ زالَ السُّؤالُ، وإنْ قُلْنا المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا﴾ هو الدُّعاءُ كانَ الجَوابُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الدُّعاءَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالتَّضَرُّعِ وبِالإخْفاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ في قَوْلِهِ ﴿وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ أنَّ فائِدَةَ الدُّعاءِ هو أحَدُ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، فَكانَتِ الآيَةُ الأُولى في بَيانِ شَرْطِ صِحَّةِ الدُّعاءِ، والآيَةُ الثّانِيَةُ في بَيانِ فائِدَةِ الدُّعاءِ ومَنفَعَتِهِ.
السُّؤالُ الثّانِي: أنَّ المُتَكَلِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ مَن عَبَدَ ودَعا لِأجْلِ الخَوْفِ مِنَ العِقابِ والطَّمَعِ في الثَّوابِ لَمْ تَصِحَّ عِبادَتُهُ، وذَلِكَ لِأنَّ المُتَكَلِّمِينَ فَرِيقانِ: مِنهم مَن قالَ التَّكالِيفُ إنَّما ورَدَتْ بِمُقْتَضى الإلَهِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ، فَكَوْنُهُ إلَهًا لَنا وكَوْنُنا عَبِيدًا لَهُ يَقْتَضِي أنْ يَحْسُنَ مِنهُ أنْ يَأْمُرَ عَبِيدَهُ بِما شاءَ، فَلا يُعْتَبَرُ مِنهُ كَوْنُهُ في نَفْسِهِ صَلاحًا وحُسْنًا، وهَذا قَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ. ومِنهم مَن قالَ: التَّكالِيفُ إنَّما ورَدَتْ لِكَوْنِها في أنْفُسِها مَصالِحَ؛ وهَذا هو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: أمّا عَلى القَوْلِ الأوَّلِ: فَوَجْهُ وُجُوبِ بَعْضِ الأعْمالِ وحُرْمَةِ بَعْضِها مُجَرَّدُ أمْرِ اللَّهِ بِما أوْجَبَهُ، ونَهْيِهِ عَمّا حَرَّمَهُ، فَمَن أتى بِهَذِهِ العِباداتِ صَحَّتْ. أمّا مَن أتى بِها خَوْفًا مِنَ العِقابِ، أوْ طَمَعًا في الثَّوابِ وجَبَ أنْ لا يَصِحَّ؛ لِأنَّهُ ما أتى بِها لِأجْلِ وجْهِ وُجُوبِها. وأمّا عَلى القَوْلِ الثّانِي: فَوَجْهُ وُجُوبِها هو كَوْنُها في أنْفُسِها مَصالِحَ، فَمَن أتى بِها لِلْخَوْفِ مِنَ العِقابِ، أوْ لِلطَّمَعِ في الثَّوابِ، فَلَمْ يَأْتِ بِها لِوَجْهِ وُجُوبِها، فَوَجَبَ أنْ لا تَصِحَّ، فَثَبَتَ أنَّ عَلى كِلا المَذْهَبَيْنِ مَن أتى بِالدُّعاءِ وسائِرِ العِباداتِ لِأجْلِ الخَوْفِ مِنَ العِقابِ، والطَّمَعِ في الثَّوابِ، وجَبَ أنْ لا يَصِحَّ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى أمَرَ المُكَلَّفَ بِأنْ يَأْتِيَ بِالدُّعاءِ لِهَذا الغَرَضِ، وقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ فَسادُهُ، فَكَيْفَ طَرِيقُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ ما ذَكَرْناهُ مِنَ المَعْقُولِ ؟ .
والجَوابُ: لَيْسَ المُرادُ مِنَ الآيَةِ ما ظَنَنْتُمْ، بَلِ المُرادُ: وادْعُوهُ مَعَ الخَوْفِ مِن وُقُوعِ التَّقْصِيرِ، في بَعْضِ الشَّرائِطِ المُعْتَبَرَةِ في قَبُولِ ذَلِكَ الدُّعاءِ، ومَعَ الطَّمَعِ في حُصُولِ تِلْكَ الشَّرائِطِ بِأسْرِها، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالسُّؤالُ زائِلٌ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ الدّاعِيَ لا بُدَّ وأنْ يَحْصُلَ في قَلْبِهِ هَذا الخَوْفُ والطَّمَعُ ؟
والجَوابُ: أنَّ العَبْدَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَقْطَعَ بِكَوْنِهِ آتِيًا بِجَمِيعِ الشَّرائِطِ المُعْتَبَرَةِ في قَبُولِ الدُّعاءِ، ولِأجْلِ هَذا المَعْنى يَحْصُلُ الخَوْفُ، وأيْضًا لا يَقْطَعُ بِأنَّ تِلْكَ الشَّرائِطَ مَفْقُودَةٌ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ طامِعًا في قَبُولِها فَلا جَرَمَ.
قُلْنا: بِأنَّ الدّاعِيَ لا يَكُونُ داعِيًا إلّا إذا كانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿خَوْفًا وطَمَعًا﴾ أيْ أنْ تَكُونُوا جامِعِينَ في نُفُوسِكم بَيْنَ الخَوْفِ والرَّجاءِ في كُلِّ أعْمالِكم، ولا تَقْطَعُوا أنَّكم وإنِ اجْتَهَدْتُمْ فَقَدْ أدَّيْتُمْ حَقَّ رَبِّكم. ويَتَأكَّدُ هَذا بِقَوْلِهِ: ﴿يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٦٠] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفُوا في أنَّ الرَّحْمَةَ عِبارَةٌ عَنْ إيصالِ الخَيْرِ والنِّعْمَةِ أوْ عَنْ إرادَةِ إيصالِ الخَيْرِ والنِّعْمَةِ، فَعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ تَكُونُ الرَّحْمَةُ مِن صِفاتِ الأفْعالِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ الثّانِي تَكُونُ مِن صِفاتِ الذّاتِ، وقَدِ اسْتَقْصَيْنا هَذِهِ المَسْألَةَ في تَفْسِيرِ ”بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ“ .
(p-١١١)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُ أصْحابِنا: لَيْسَ لِلَّهِ في حَقِّ الكافِرِ رَحْمَةٌ ولا نِعْمَةٌ. واحْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ، وبَيانُهُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ ما كانَ رَحْمَةً فَهي قَرِيبَةٌ مِنَ المُحْسِنِينَ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ كُلُّ ما لا يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ المُحْسِنِينَ، أنْ لا يَكُونَ رَحْمَةً، والَّذِي حَصَلَ في حَقِّ الكافِرِ غَيْرُ قَرِيبٍ مِنَ المُحْسِنِينَ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ ولا نِعْمَةً مِنهُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ، فَلَمّا كانَ كُلُّ هَذِهِ الماهِيَّةِ حَصَلَ لِلْمُحْسِنِينَ وجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ مِنها نَصِيبٌ لِغَيْرِ المُحْسِنِينَ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ شَيْءٌ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ في حَقِّ الكافِرِينَ، والعَفْوُ عَنِ العَذابِ رَحْمَةٌ، والتَّخَلُّصُ مِنَ النّارِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيها رَحْمَةٌ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ مِنَ المُحْسِنِينَ، والعُصاةُ وأصْحابُ الكَبائِرِ لَيْسُوا مُحْسِنِينَ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ لَهُمُ العَفْوُ عَنِ العِقابِ، وأنْ لا يَحْصُلَ لَهُمُ الخَلاصُ مِنَ النّارِ.
والجَوابُ: أنَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وأقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ فَقَدْ أحْسَنَ، بِدَلِيلِ أنَّ الصَّبِيَّ إذا بَلَغَ وقْتَ الضَّحْوَةِ وآمَنَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وماتَ قَبْلَ الوُصُولِ إلى الظُّهْرِ فَقَدْ أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى﴾ [يُونُسَ: ٢٦] ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا الشَّخْصَ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنَ الطّاعاتِ سِوى المَعْرِفَةِ والإقْرارِ؛ لِأنَّهُ لَمّا بَلَغَ بَعْدَ الصُّبْحِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ صَلاةُ الصُّبْحِ، ولَمّا ماتَ قَبْلَ الظُّهْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ صَلاةُ الظُّهْرِ، وظاهِرُهُ أنَّ سائِرَ العِباداتِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ مُحْسِنٌ، وثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنهُ إلّا المَعْرِفَةُ والإقْرارُ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَذا القَدْرِ إحْسانًا، فَيَكُونُ فاعِلُهُ مُحْسِنًا.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: كُلُّ مَن حَصَلَ لَهُ الإقْرارُ والمَعْرِفَةُ كانَ مِنَ المُحْسِنِينَ، ودَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ أنْ تَصِلَ إلى صاحِبِ الكَبِيرَةِ مِن أهْلِ الصَّلاةِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وحِينَئِذٍ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
فَإنْ قالُوا: المُحْسِنُونَ هُمُ الَّذِينَ أتَوْا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الإحْسانِ، فَنَقُولُ: هَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ المُحْسِنَ مَن صَدَرَ عَنْهُ مُسَمّى الإحْسانِ ولَيْسَ مِن شَرْطِ كَوْنِهِ مُحْسِنًا أنْ يَكُونَ آتِيًا بِكُلِّ وُجُوهِ الإحْسانِ كَما أنَّ العالِمَ هو الَّذِي لَهُ العِلْمُ ولَيْسَ مِن شَرْطِهِ أنْ يَحْصُلَ جَمِيعُ أنْواعِ العِلْمِ. فَثَبَتَ بِهَذا أنَّ السُّؤالَ الَّذِي ذَكَرُوهُ ساقِطٌ وأنَّ الحَقَّ ما ذَهَبْنا إلَيْهِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: مُقْتَضى عِلْمِ الإعْرابِ أنْ يُقالَ: إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبَةٌ مِنَ المُحْسِنِينَ فَما السَّبَبُ في حَذْفِ عَلامَةِ التَّأْنِيثِ ؟ وذَكَرُوا في الجَوابِ عَنْهُ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: أنَّ الرَّحْمَةَ تَأْنِيثُها لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، وما كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ والتَّأْنِيثُ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ.
الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: إنَّما قالَ: ﴿قَرِيبٌ﴾ لِأنَّ الرَّحْمَةَ والغُفْرانَ والعَفْوَ والإنْعامَ بِمَعْنًى واحِدٍ فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ بِمَعْنى: إنْعامُ اللَّهِ قَرِيبٌ وثَوابُ اللَّهِ قَرِيبٌ، فَأجْرى حُكْمَ أحَدِ اللَّفْظَيْنِ عَلى الآخَرِ.
الثّالِثُ: قالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ ومِن حَقِّ المَصادِرِ التَّذْكِيرُ كَقَوْلِهِ: ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٧٥] فَهَذا راجِعٌ إلى قَوْلِ الزَّجّاجِ لِأنَّ المَوْعِظَةَ أُرِيدَ بِها الوَعْظُ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ؛ قالَ الشّاعِرُ:
؎إنَّ السَّماحَةَ والمُرُوءَةَ ضُمِّنا قَبْرًا بِمَرْوَ عَلى الطَّرِيقِ الواضِحِ
(p-١١٢)قِيلَ: أرادَ بِالسَّماحَةِ السَّخاءَ وبِالمُرُوءَةِ الكَرَمَ. والرّابِعُ: أنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ ذاتُ مَكانٍ قَرِيبٍ مِنَ المُحْسِنِينَ، كَما قالُوا: حائِضٌ ولابِنٌ وتامِرٌ أيْ ذاتُ حَيْضٍ ولَبَنٍ وتَمْرٍ. قالَ الواحِدِيُّ: أخْبَرَنِي العَرُوضِيُّ عَنِ الأزْهَرِيِّ عَنِ المُنْذِرِيِّ عَنِ الحَرّانِيِّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ قالَ: تَقُولُ العَرَبُ: هو قَرِيبٌ مِنِّي وهُما قَرِيبٌ مِنِّي وهم قَرِيبٌ مِنِّي وهي قَرِيبٌ مِنِّي؛ لِأنَّهُ في تَأْوِيلِ هو في مَكانٍ قَرِيبٍ مِنِّي، وقَدْ يَجُوزُ أيْضًا قَرِيبَةٌ وبَعِيدَةٌ تَنْبِيهًا عَلى مَعْنى قَرَبَتْ وبَعُدَتْ بِنَفْسِها.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: تَفْسِيرُ هَذا القُرْبِ هو أنَّ الإنْسانَ يَزْدادُ في كُلِّ لَحْظَةٍ قُرْبًا مِنَ الآخِرَةِ، وبُعْدًا مِنَ الدُّنْيا، فَإنَّ الدُّنْيا كالماضِي، والآخِرَةَ كالمُسْتَقْبَلِ، والإنْسانُ في كُلِّ ساعَةٍ ولَحْظَةٍ ولَمْحَةٍ يَزْدادُ بُعْدًا عَنِ الماضِي، وقُرْبًا مِنَ المُسْتَقْبَلِ. ولِذَلِكَ قالَ الشّاعِرُ:
؎فَلا زالَ ما تَهْواهُ أقْرَبُ مِن غَدِ ∗∗∗ ولا زالَ ما تَخْشاهُ أبْعَدُ مِن أمْسِ
ولَمّا ثَبَتَ أنَّ الدُّنْيا تَزْدادُ بُعْدًا في كُلِّ ساعَةٍ، وأنَّ الآخِرَةَ تَزْدادُ قُرْبًا في كُلِّ ساعَةٍ، وثَبَتَ أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ إنَّما تَحْصُلُ بَعْدَ المَوْتِ، لا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ بِناءً عَلى هَذا التَّأْوِيلِ.
{"ayahs_start":55,"ayahs":["ٱدۡعُوا۟ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةًۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ","وَلَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفࣰا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"],"ayah":"وَلَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفࣰا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











