الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ .
(p-٨٠)اعْلَمْ أنّا بَيَّنّا أنَّ مَدارَ أمْرِ القُرْآنِ عَلى تَقْدِيرِ هَذِهِ المَسائِلِ الأرْبَعِ، وهي التَّوْحِيدُ والنُّبُوَّةُ والمَعادُ والقَضاءُ والقَدَرُ، ولا شَكَّ أنَّ مَدارَ إثْباتِ المَعادِ عَلى إثْباتِ التَّوْحِيدِ والقُدْرَةِ والعِلْمِ، فَلَمّا بالَغَ اللَّهُ تَعالى في تَقْرِيرِ أمْرِ المَعادِ عادَ إلى ذِكْرِ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ، وكَمالِ القُدْرَةِ، والعِلْمِ، لِتَصِيرَ تِلْكَ الدَّلائِلُ مُقَرِّرَةً لِأُصُولِ التَّوْحِيدِ، ومُقَرِّرَةً أيْضًا لِإثْباتِ المَعادِ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: حَكى الواحِدِيُّ عَنِ اللَّيْثِ أنَّهُ قالَ: الأصْلُ في السِّتِّ والسِّتَّةِ سِدْسٍ وسِدْسَةٍ، أبْدَلَ السِّينَ تاءً، ولَمّا كانَ مَخْرَجُ الدّالِ والتّاءِ قَرِيبًا أدْغَمَ أحَدَهُما في الآخَرِ واكْتَفى بِالتّاءِ عَلَيْهِ، فَإنَّكَ تَقُولُ في تَصْغِيرِ سِتَّةٍ سُدَيْسَةٌ، وكَذَلِكَ الأسْداسُ وجَمِيعُ تَصَرُّفاتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: (الخَلْقُ) التَّقْدِيرُ عَلى ما قَرَّرْناهُ فَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ إشارَةٌ إلى تَقْدِيرِ حالَةٍ مِن أحْوالِهِما، وذَلِكَ التَّقْدِيرُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً:
أوَّلُها: تَقْدِيرُ ذَواتِهِما بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أنَّ العَقْلَ يَقْضِي بِأنَّ الأزْيَدَ مِنهُ والأنْقَصَ مِنهُ جائِزٌ، فاخْتِصاصُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما بِمِقْدارِهِ المُعَيَّنِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى افْتِقارِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ إلى الفاعِلِ المُخْتارِ.
وثانِيها: أنَّ كَوْنَ هَذِهِ الأجْسامِ مُتَحَرِّكَةً في الأزَلِ مُحالٌ؛ لِأنَّ الحَرَكَةَ انْتِقالٌ مِن حالٍ إلى حالٍ، فالحَرَكَةُ يَجِبُ كَوْنُها مَسْبُوقَةً بِحالَةٍ أُخْرى، والأزَلُ يُنافِي المَسْبُوقِيَّةَ فَكانَ الجَمْعُ بَيْنَ الحَرَكَةِ وبَيْنَ الأزَلِ مُحالًا.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذِهِ الأفْلاكُ والكَواكِبُ، إمّا أنْ يُقالَ: أنَّ ذَواتَها كانَتْ مَعْدُومَةً في الأزَلِ ثُمَّ وُجِدَتْ، أوْ يُقالُ: إنَّها وإنْ كانَتْ مَوْجُودَةً لَكِنَّها كانَتْ واقِفَةً ساكِنَةً في الأزَلِ، ثُمَّ ابْتَدَأتْ بِالحَرَكَةِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَتِلْكَ الحَرَكاتُ ابْتَدَأتْ بِالحُدُوثِ والوُجُودِ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوازِ حُصُولِها قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ وبَعْدَهُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ اخْتِصاصُ ابْتِداءِ تِلْكَ الحَرَكاتِ بِتِلْكَ الأوْقاتِ المُعَيَّنَةِ تَقْدِيرًا وخَلْقًا، ولا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاخْتِصاصُ إلّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قادِرٍ ومُخْتارٍ.
وثالِثُها: أنَّ أجْرامَ الأفْلاكِ والكَواكِبِ والعَناصِرِ مُرَكَّبَةٌ مِن أجْزاءٍ صَغِيرَةٍ، ولا بُدَّ وأنْ يُقالَ: إنَّ بَعْضَ تِلْكَ الأجْزاءِ حَصَلَتْ في داخِلِ تِلْكَ الأجْسامِ وبَعْضُها حَصَلَتْ عَلى سُطُوحِها، فاخْتِصاصُ حُصُولِ كُلِّ واحِدَةٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ بِحَيِّزِهِ المُعَيَّنِ ووَضْعِهِ المُعَيَّنِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ المُخَصِّصِ القادِرِ المُخْتارِ.
ورابِعُها: أنَّ بَعْضَ الأفْلاكِ أعْلى مِن بَعْضٍ، وبَعْضُ الكَواكِبِ حَصَلَ في المِنطَقَةِ وبَعْضُها في القُطْبَيْنِ، فاخْتِصاصُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما بِمَوْضِعِهِ المُعَيَّنِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قادِرٍ مُخْتارٍ.
وخامِسُها: أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الأفْلاكِ مُتَحَرِّكٌ إلى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وحَرَكَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مَخْصُوصٍ مِنَ البُطْءِ والسُّرْعَةِ، وذَلِكَ أيْضًا خَلْقٌ وتَقْدِيرٌ ويَدُلُّ عَلى وُجُودِ المُخَصِّصِ القادِرِ.
وسادِسُها: أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الكَواكِبِ مُخْتَصٌّ بِلَوْنٍ مَخْصُوصٍ مِثْلُ كُمُودَةِ زُحَلٍ، ودُرِّيَّةِ المُشْتَرِي، وحُمْرَةِ المِرِّيخِ، وضِياءِ الشَّمْسِ، وإشْراقِ الزُّهَرَةِ، وصُفْرَةِ عُطارِدٍ، وزُهُورِ القَمَرِ، والأجْسامُ مُتَماثِلَةٌ في تَمامِ الماهِيَّةِ. فَكانَ اخْتِصاصُ كُلِّ واحِدٍ مِنها بِلَوْنِهِ المُعَيَّنِ خَلْقًا وتَقْدِيرًا ودَلِيلًا عَلى افْتِقارِها إلى الفاعِلِ المُخْتارِ.
وسابِعُها: أنَّ الأفْلاكَ والعَناصِرَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الأجْزاءِ الصَّغِيرَةِ، وواجِبُ الوُجُودِ لا يَكُونُ أكْثَرَ مِن واحِدٍ فَهي مُمْكِنَةُ الوُجُودِ في ذَواتِها، فَكُلُّ ما كانَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ فَهو مُحْتاجٌ إلى المُؤَثِّرِ، والحاجَةُ إلى المُؤَثِّرِ لا تَكُونُ في حالِ البَقاءِ، وإلّا لَزِمَ تَكَوُّنُ الكائِنِ، فَتِلْكَ الحاجَةُ لا تَحْصُلُ إلّا في زَمانِ الحُدُوثِ، أوْ في زَمانِ العَدَمِ. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ هَذِهِ الأجْزاءِ مُحْدَثَةً ومَتى كانَتْ مُحْدَثَةً كانَ حُدُوثُها مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وذَلِكَ خَلْقٌ (p-٨١)وتَقْدِيرٌ ويَدُلُّ عَلى الحاجَةِ إلى الصّانِعِ القادِرِ المُخْتارِ.
وثامِنُها: أنَّ هَذِهِ الأجْسامَ لا تَخْلُو عَنِ الحَرَكَةِ والسُّكُونِ وهُما مُحْدَثانِ، وما لا يَخْلُو عَنِ المُحْدَثِ فَهو مُحْدَثٌ، فَهَذِهِ الأجْسامُ مُحْدَثَةٌ، وكُلُّ مُحْدَثٍ فَقَدْ حَصَلَ حُدُوثُهُ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ، وذَلِكَ خَلْقٌ وتَقْدِيرٌ ولا بُدَّ لَهُ مِنَ الصّانِعِ القادِرِ المُخْتارِ.
وتاسِعُها: أنَّ الأجْسامَ مُتَماثِلَةٌ، فاخْتِصاصُ بَعْضِها بِالصِّفاتِ الَّتِي لِأجْلِها كانَتْ سَماواتٍ وكَواكِبَ، والبَعْضُ الآخَرُ بِالصِّفاتِ الَّتِي لِأجْلِها كانَتْ أرْضًا أوْ ماءً أوْ هَواءً أوْ نارًا لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ أمْرًا جائِزًا، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وهو المَطْلُوبُ.
وعاشِرُها: أنَّهُ كَما حَصَلَ الِامْتِيازُ المَذْكُورُ بَيْنَ الأفْلاكِ والعَناصِرِ فَقَدْ حَصَلَ أيْضًا مِثْلُ هَذا الِامْتِيازِ بَيْنَ الكَواكِبِ وبَيْنَ الأفْلاكِ وبَيْنَ العَناصِرِ، بَلْ حَصَلَ مِثْلُ هَذا الِامْتِيازِ بَيْنَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الكَواكِبِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى الِافْتِقارِ إلى الفاعِلِ القادِرِ المُخْتارِ.
واعْلَمْ أنَّ الخَلْقَ عِبارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، فَإذا دَلَّلْنا عَلى أنَّ الأجْسامَ مُتَماثِلَةٌ وجَبَ القَطْعُ بِأنَّ كُلَّ صِفَةٍ حَصَلَتْ لِجِسْمٍ مُعَيَّنٍ، فَإنَّ حُصُولَ تِلْكَ الصِّفَةِ مُمْكِنٌ لِسائِرِ الأجْسامِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ اخْتِصاصُ ذَلِكَ الجِسْمِ المُعَيَّنِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ المُعَيَّنَةِ خَلْقًا وتَقْدِيرًا فَكانَ داخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لِسائِلٍ أنْ يَسْألَ فَيَقُولَ: كَوْنُ هَذِهِ الأشْياءِ مَخْلُوقَةً في سِتَّةِ أيّامٍ لا يُمْكِنُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلى إثْباتِ الصّانِعِ ؟ وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ وجْهَ دَلالَةِ هَذِهِ المُحْدَثاتِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ هو حُدُوثُها أوْ إمْكانُها أوْ مَجْمُوعُهُما، فَأمّا وُقُوعُ ذَلِكَ الحُدُوثِ في سِتَّةِ أيّامٍ أوْ في يَوْمٍ واحِدٍ فَلا أثَرَ لَهُ في ذَلِكَ البَتَّةَ.
والثّانِي: أنَّ العَقْلَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحُدُوثَ عَلى جَمِيعِ الأحْوالِ جائِزٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لا يُمْكِنُ الجَزْمُ بِأنَّ هَذا الحُدُوثَ وقَعَ في سِتَّةِ أيّامٍ إلّا بِإخْبارِ مُخْبِرٍ صادِقٍ، وذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلى العِلْمِ بِوُجُودِ الإلَهِ الفاعِلِ المُخْتارِ، فَلَوْ جَعَلْنا هَذِهِ المُقَدِّمَةَ مُقَدِّمَةً في إثْباتِ الصّانِعِ لَزِمَ الدَّوْرُ.
والثّالِثُ: أنَّ حُدُوثَ السَّماواتِ والأرْضِ دُفْعَةً واحِدَةً أدَلُّ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ والعِلْمِ مِن حُدُوثِها في سِتَّةِ أيّامٍ.
إذا ثَبَتَ ما ذَكَرْناهُ مِنَ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ فَنَقُولُ: ما الفائِدَةُ في ذِكْرِ أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَها في سِتَّةِ أيّامٍ في إثْباتِ ذِكْرِ ما يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ ؟
والرّابِعُ: أنَّهُ ما السَّبَبُ في أنَّهُ اقْتَصَرَ هَهُنا عَلى ذِكْرِ السَّماواتِ والأرْضِ، ولَمْ يَذْكُرْ خَلْقَ سائِرِ الأشْياءِ ؟
السُّؤالُ الخامِسُ: اليَوْمُ إنَّما يَمْتازُ عَنِ اللَّيْلَةِ بِسَبَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وغُرُوبِها فَقَبْلَ خَلْقِ الشَّمْسِ والقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الأيّامِ ؟
والسُّؤالُ السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وما أمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ [القَمَرِ: ٥٠] وهَذا كالمُناقِضِ لِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ .
والسُّؤالُ السّابِعُ: أنَّهُ تَعالى خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في مُدَّةٍ مُتَراخِيَةٍ، فَما الحِكْمَةُ في تَقْيِيدِها وضَبْطِها بِالأيّامِ السِّتَّةِ ؟
فَنَقُولُ: أمّا عَلى مَذْهَبِنا فالأمْرُ في الكُلِّ سَهْلٌ واضِحٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، ولا اعْتِراضَ عَلَيْهِ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وكُلُّ شَيْءٍ صُنْعُهُ ولا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ. ثُمَّ نَقُولُ:
أمّا السُّؤالُ الأوَّلُ: فَجَوابُهُ أنَّهُ سُبْحانَهُ ذَكَرَ في أوَّلِ التَّوْراةِ أنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ (p-٨٢)والعَرَبُ كانُوا يُخالِطُونَ اليَهُودَ، والظّاهِرُ أنَّهم سَمِعُوا ذَلِكَ مِنهم فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ يَقُولُ: لا تَشْتَغِلُوا بِعِبادَةِ الأوْثانِ والأصْنامِ فَإنَّ رَبَّكم هو الَّذِي سَمِعْتُمْ مِن عُقَلاءِ النّاسِ أنَّهُ هو الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ عَلى غايَةِ عَظَمَتِها ونِهايَةِ جَلالَتِها في سِتَّةِ أيّامٍ.
وأمّا السُّؤالُ الثّالِثُ: فَجَوابُهُ أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وإنْ كانَ قادِرًا عَلى إيجادِ جَمِيعِ الأشْياءِ دُفْعَةً واحِدَةً، لَكِنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا مَحْدُودًا ووَقْتًا مُقَدَّرًا، فَلا يُدْخِلُهُ في الوُجُودِ إلّا عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ، فَهو وإنْ كانَ قادِرًا عَلى إيصالِ الثَّوابِ إلى المُطِيعِينَ في الحالِ، وعَلى إيصالِ العِقابِ إلى المُذْنِبِينَ في الحالِ، إلّا أنَّهُ يُؤَخِّرُهُما إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ.
فَهَذا التَّأْخِيرُ لَيْسَ لِأجْلِ أنَّهُ تَعالى أهْمَلَ العِبادَ بَلْ لِما ذَكَرْنا أنَّهُ خَصَّ كُلَّ شَيْءٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِسابِقِ مَشِيئَتِهِ فَلا يَفْتُرُ عَنْهُ، ويَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ ق: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ وما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾ ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ [ق: ٣٨، ٣٩] بَعْدَ أنْ قالَ قَبْلَ هَذا: ﴿وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هم أشَدُّ مِنهم بَطْشًا فَنَقَّبُوا في البِلادِ هَلْ مِن مَحِيصٍ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٦، ٣٧] فَأخْبَرَهم بِأنَّهُ قَدْ أهْلَكَ مِنَ المُشْرِكِينَ بِهِ والمُكَذِّبِينَ لِأنْبِيائِهِ مَن كانَ أقْوى بَطْشًا مِن مُشْرِكِي العَرَبِ، إلّا أنَّهُ أمْهَلَ هَؤُلاءِ لِما فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ، كَما خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ مُتَّصِلَةٍ لا لِأجْلِ لُغُوبٍ لَحِقَهُ في الإمْهالِ، ولَمّا بَيَّنَ بِهَذا الطَّرِيقِ أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ العالَمَ لا دُفْعَةً لَكِنْ قَلِيلًا قَلِيلًا قالَ بَعْدَهُ: ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ [ق: ٣٩] مِنَ الشِّرْكِ والتَّكْذِيبِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ العَذابَ، بَلْ تَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ تَعالى وفَوِّضِ الأمْرَ إلَيْهِ، وهَذا مَعْنى ما يَقُولُهُ المُفَسِّرُونَ مِن أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ العالَمَ في سِتَّةِ أيّامٍ لِيُعَلِّمَ عِبادَهُ الرِّفْقَ في الأُمُورِ والصَّبْرَ فِيها ولِأجْلِ أنْ لا يَحْمِلَ المُكَلَّفُ تَأخُّرَ الثَّوابِ والعِقابِ عَلى الإهْمالِ والتَّعْطِيلِ.
ومِنَ العُلَماءِ مَن ذَكَرَ فِيهِ وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الشَّيْءَ إذا أُحْدِثَ دُفْعَةً واحِدَةً ثُمَّ انْقَطَعَ طَرِيقُ الإحْداثِ فَلَعَلَّهُ يَخْطُرُ بِبالِ بَعْضِهِمْ أنَّ ذاكَ إنَّما وقَعَ عَلى سَبِيلِ الِاتِّفاقِ، أمّا إذا حَدَثَتِ الأشْياءُ عَلى التَّعاقُبِ والتَّواصُلِ مَعَ كَوْنِها مُطابِقَةً لِلْمَصْلَحَةِ والحِكْمَةِ، كانَ ذَلِكَ أقْوى في الدَّلالَةِ عَلى كَوْنِها واقِعَةً بِإحْداثِ مُحْدِثٍ قَدِيمٍ حَكِيمٍ، وقادِرٍ عَلِيمٍ رَحِيمٍ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ العاقِلَ أوَّلًا ثُمَّ يَخْلُقُ السَّماواتِ والأرْضَ بَعْدَهُ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ العاقِلَ إذا شاهَدَ في كُلِّ ساعَةٍ وحِينَ حُدُوثِ شَيْءٍ آخَرَ عَلى التَّعاقُبِ والتَّوالِي، كانَ ذَلِكَ أقْوى لِعِلْمِهِ وبَصِيرَتِهِ؛ لِأنَّهُ يَتَكَرَّرُ عَلى عَقْلِهِ ظُهُورُ هَذا الدَّلِيلِ لَحْظَةً بَعْدَ لَحْظَةٍ، فَكانَ ذَلِكَ أقْوى في إفادَةِ اليَقِينِ.
وأمّا السُّؤالُ الرّابِعُ: فَجَوابُهُ أنَّ ذِكْرَ السَّماواتِ والأرْضِ في هَذِهِ الآيَةِ يَشْتَمِلُ أيْضًا عَلى ذِكْرِ ما بَيْنَهُما، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ سائِرَ المَخْلُوقاتِ في سائِرِ الآياتِ فَقالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ ما لَكم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ﴾ وقالَ: ﴿وتَوَكَّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما﴾ [الفُرْقانِ: ٥٨، ٥٩] وقالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ [ق: ٣٨] .
وأمّا السُّؤالُ الخامِسُ: فَجَوابُهُ أنَّ المُرادَ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في مِقْدارِ سِتَّةِ أيّامٍ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ولَهم رِزْقُهم فِيها بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ [مريم: ٦٢] والمُرادُ عَلى مِقْدارِ البُكْرَةِ والعَشِيِّ في الدُّنْيا لِأنَّهُ لا لَيْلَ ثَمَّ ولا نَهارَ.
(p-٨٣)وأمّا السُّؤالُ السّادِسُ: فَجَوابُهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما أمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ [القَمَرِ: ٥٠] مَحْمُولٌ عَلى إيجادِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الذَّواتِ وعَلى إعْدامِ كُلِّ واحِدٍ مِنها؛ لِأنَّ إيجادَ الذّاتِ الواحِدَةِ وإعْدامَ المَوْجُودِ الواحِدِ لا يَقْبَلُ التَّفاوُتَ فَلا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إلّا دُفْعَةً واحِدَةً، وأمّا الإمْهالُ والمُدَّةُ فَذاكَ لا يَحْصُلُ إلّا في المُدَّةِ.
وأمّا السُّؤالُ السّابِعُ: وهو تَقْدِيرُ هَذِهِ المُدَّةِ بِسِتَّةِ أيّامٍ، فَهو غَيْرُ وارِدٍ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَوْ أحْدَثَهُ في مِقْدارٍ آخَرَ مِنَ الزَّمانِ لَعادَ ذَلِكَ السُّؤالُ، وأيْضًا قالَ بَعْضُهم: لِعَدَدِ السَّبْعَةِ شَرَفٌ عَظِيمٌ، وهو مَذْكُورٌ في تَقْرِيرِ أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ هي لَيْلَةُ السّابِعِ والعِشْرِينَ، وإذا ثَبَتَ هَذا قالُوا: فالأيّامُ السِّتَّةُ في تَخْلِيقِ العالَمِ واليَوْمُ السّابِعُ في حُصُولِ كَمالِ المُلْكِ والمَلَكُوتِ. وبِهَذا الطَّرِيقِ حَصَلَ الكَمالُ في الأيّامِ السَّبْعَةِ انْتَهى.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في هَذِهِ الآيَةِ بِشارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعُقَلاءِ لِأنَّهُ قالَ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ والمَعْنى أنَّ الَّذِي يُرَبِّيكم ويُصْلِحُ شَأْنَكم ويُوَصِّلُ إلَيْكُمُ الخَيْراتِ ويَدْفَعُ عَنْكُمُ المَكْرُوهاتِ، هو الَّذِي بَلَغَ كَمالَ قُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ إلى حَيْثُ خَلَقَ هَذِهِ الأشْياءَ العَظِيمَةَ وأوْدَعَ فِيها أصْنافَ المَنافِعِ وأنْواعَ الخَيْراتِ، ومَن كانَ لَهُ مُرَبٍّ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الحِكْمَةِ والقُدْرَةِ والرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أنْ يَرْجِعَ إلى غَيْرِهِ في طَلَبِ الخَيْراتِ أوْ يُعَوِّلَ عَلى غَيْرِهِ في تَحْصِيلِ السَّعاداتِ ؟
ثُمَّ في الآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرى فَإنَّهُ لَمْ يَقُلْ: أنْتُمْ عَبِيدُهُ، بَلْ قالَ: هو رَبُّكم، ودَقِيقَةٌ أُخْرى وهي أنَّهُ تَعالى لَمّا نَسَبَ نَفْسَهُ إلَيْنا سَمّى نَفْسَهُ في هَذِهِ الحالَةِ بِالرَّبِّ، وهو مُشْعِرٌ بِالتَّرْبِيَةِ وكَثْرَةِ الفَضْلِ والإحْسانِ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ مَن كانَ لَهُ مُرَبٍّ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ والفَضْلِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أنْ يَشْتَغِلَ بِعِبادَةِ غَيْرِهِ ؟
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ كَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا عَلى العَرْشِ ويَدُلُّ عَلى فَسادِهِ وُجُوهٌ عَقْلِيَّةٌ، ووُجُوهٌ نَقْلِيَّةٌ.
أمّا العَقْلِيَّةُ فَأُمُورٌ:
أوَّلُها: أنَّهُ لَوْ كانَ مُسْتَقِرًّا عَلى العَرْشِ لَكانَ مِنَ الجانِبِ الَّذِي يَلِي العَرْشَ مُتَناهِيًا وإلّا لَزِمَ كَوْنُ العَرْشِ داخِلًا في ذاتِهِ وهو مُحالٌ، وكُلُّ ما كانَ مُتَناهِيًا فَإنَّ العَقْلَ يَقْضِي بِأنَّهُ لا يَمْنَعُ أنْ يَصِيرَ أزْيَدَ مِنهُ أوْ أنْقَصَ مِنهُ بِذَرَّةٍ، والعِلْمُ بِهَذا الجَوازِ ضَرُورِيٌّ، فَلَوْ كانَ البارِي تَعالى مُتَناهِيًا مِن بَعْضِ الجَوانِبِ لَكانَتْ ذاتُهُ قابِلَةً لِلزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ كانَ اخْتِصاصُهُ بِذَلِكَ المِقْدارِ المُعَيَّنِ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ عَلى العَرْشِ لَكانَ مِنَ الجانِبِ الَّذِي يَلِي العَرْشَ مُتَناهِيًا، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ مُحْدَثًا وهَذا مُحالٌ فَكَوْنُهُ عَلى العَرْشِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُحالًا.
وثانِيها: لَوْ كانَ في مَكانٍ وجِهَةٍ لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَناهٍ مِن كُلِّ الجِهاتِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا في كُلِّ الجِهاتِ. وإمّا أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا مِن بَعْضِ الجِهاتِ دُونَ البَعْضِ والكُلُّ باطِلٌ، فالقَوْلُ بِكَوْنِهِ في المَكانِ والحَيِّزِ باطِلٌ قَطْعًا.
بَيانُ فَسادِ القِسْمِ الأوَّلِ: أنَّهُ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ ذاتُهُ مُخالِطَةً لِجَمِيعِ الأجْسامِ السُّفْلِيَّةِ والعُلْوِيَّةِ، وأنْ تَكُونَ مُخالِطَةً لِلْقاذُوراتِ والنَّجاساتِ، وتَعالى اللَّهُ عَنْهُ، وأيْضًا فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: تَكُونُ السَّماواتُ حالَّةً في ذاتِهِ، وتَكُونُ الأرْضُ أيْضًا حالَّةً في ذاتِهِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: الشَّيْءُ الَّذِي هو مَحَلُّ السَّماواتِ، إمّا أنْ يَكُونَ هو عَيْنَ الشَّيْءِ الَّذِي هو مَحَلُّ الأرَضِينَ أوْ غَيْرُهُ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ لَزِمَ كَوْنُ السَّماواتِ والأرَضِينَ حالَّتَيْنِ في مَحَلٍّ واحِدٍ مِن غَيْرِ امْتِيازٍ بَيْنَ مَحَلَّيْهِما أصْلًا، وكُلُّ حالَّيْنِ حَلّا في مَحَلٍّ واحِدٍ لَمْ يَكُنْ أحَدُهُما مُمْتازًا عَنِ الآخَرِ، فَلَزِمَ أنْ يُقالَ: (p-٨٤)السَّماواتُ لا تَمْتازُ عَنِ الأرَضِينَ في الذّاتِ، وذَلِكَ باطِلٌ، وإنْ كانَ الثّانِي: لَزِمَ أنْ تَكُونَ ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُرَكَّبَةً مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ وهو مُحالٌ.
والثّالِثُ: وهو أنَّ ذاتَ اللَّهِ تَعالى إذا كانَتْ حاصِلَةً في جَمِيعِ الأحْيازِ والجِهاتِ، فَإمّا أنْ يُقالَ: الشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ فَوْقُ هو عَيْنُ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ تَحْتُ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الذّاتُ الواحِدَةُ قَدْ حَصَلَتْ دُفْعَةً واحِدَةً في أحْيازٍ كَثِيرَةٍ، وإنْ عُقِلَ ذَلِكَ فَلِمَ لا يُعْقَلُ أيْضًا حُصُولُ الجِسْمِ الواحِدِ في أحْيازٍ كَثِيرَةٍ دُفْعَةً واحِدَةً ؟ وهو مُحالٌ في بَدِيهَةِ العَقْلِ.
وأمّا إنْ قِيلَ: الشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ فَوْقُ غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ تَحْتُ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ حُصُولُ التَّرْكِيبِ والتَّبْعِيضِ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى وهو مُحالٌ.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ: أنَّهُ تَعالى مُتَناهٍ مِن كُلِّ الجِهاتِ. فَنَقُولُ: كُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو قابِلٌ لِلزِّيادَةِ والنُّقْصانِ في بَدِيهَةِ العَقْلِ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ كانَ اخْتِصاصُهُ بِالمِقْدارِ المُعَيَّنِ لِأجْلِ تَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُحْدَثٌ، وأيْضًا فَإنْ جازَ أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ المَحْدُودُ مِن كُلِّ الجَوانِبِ قَدِيمًا أزَلِيًّا فاعِلًا لِلْعالَمِ، فَلِمَ لا يُعْقَلُ أنْ يُقالَ: خالِقُ العالَمِ هو الشَّمْسُ، أوِ القَمَرُ، أوْ كَوْكَبٌ آخَرُ، وذَلِكَ باطِلٌ بِاتِّفاقٍ.
وأمّا القِسْمُ الثّالِثُ: وهو أنْ يُقالَ: أنَّهُ مُتَناهٍ مِن بَعْضِ الجَوانِبِ، وغَيْرُ مُتَناهٍ مِن سائِرِ الجَوانِبِ، فَهَذا أيْضًا باطِلٌ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الجانِبَ الَّذِي صَدَقَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَناهِيًا غَيْرُ ما صَدَقَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَناهٍ، وإلّا لَصَدَقَ النَّقِيضانِ مَعًا وهو مُحالٌ. وإذا حَصَلَ التَّغايُرُ لَزِمَ كَوْنُهُ تَعالى مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ.
وثانِيها: أنَّ الجانِبَ الَّذِي صَدَقَ حُكْمُ العَقْلِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُتَناهِيًا، إمّا أنْ يَكُونَ مُساوِيًا لِلْجانِبِ الَّذِي صَدَقَ حُكْمُ العَقْلِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَناهٍ، وإمّا أنْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ الأشْياءَ المُتَساوِيَةَ في تَمامِ الماهِيَّةِ كُلُّ ما صَحَّ عَلى واحِدٍ مِنها صَحَّ عَلى الباقِي، وإذا كانَ كَذَلِكَ: فالجانِبُ لِلَّذِي هو غَيْرُ مُتَناهٍ يُمْكِنُ أنْ يَصِيرَ مُتَناهِيًا، والجانِبُ الَّذِي هو مُتَناهٍ يُمْكِنُ أنْ يَصِيرَ غَيْرَ مُتَناهٍ.
ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ النُّمُوُّ والذُّبُولُ والزِّيادَةُ والنُّقْصانُ والتَّفَرُّقُ والتَّمَزُّقُ عَلى ذاتِهِ مُمْكِنًا، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُحْدَثٌ، وذَلِكَ عَلى الإلَهِ القَدِيمِ مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ، لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَناهٍ مِن كُلِّ الجِهاتِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا مِن كُلِّ الجِهاتِ، أوْ كانَ مُتَناهِيًا مِن بَعْضِ الجِهاتِ، وغَيْرَ مُتَناهٍ مِن سائِرِ الجِهاتِ، فَثَبَتَ أنَّ الأقْسامَ الثَّلاثَةَ باطِلَةٌ، فَوَجَبَ أنْ نَقُولَ: القَوْلُ بِكَوْنِهِ تَعالى حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ مُحالٌ.
والبُرْهانُ الثّالِثُ: لَوْ كانَ البارِي تَعالى حاصِلًا في المَكانِ والجِهَةِ، لَكانَ الأمْرُ المُسَمّى بِالجِهَةِ إمّا أنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مُشارًا إلَيْهِ، وإمّا أنْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ، والقِسْمانِ باطِلانِ، فَكانَ القَوْلُ بِكَوْنِهِ تَعالى حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ باطِلًا.
أمّا بَيانُ فَسادِ القِسْمِ الأوَّلِ: فَلِأنَّهُ لَوْ كانَ المُسَمّى بِالحَيِّزِ والجِهَةِ مَوْجُودًا مُشارًا إلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ المُسَمّى بِالحَيِّزِ والجِهَةِ بُعْدًا وامْتِدادًا، والحاصِلُ فِيهِ أيْضًا يَجِبُ أنْ يَكُونَ لَهُ في نَفْسِهِ بُعْدٌ وامْتِدادٌ، وإلّا لامْتَنَعَ حُصُولُهُ فِيهِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَداخُلُ البُعْدَيْنِ، وذَلِكَ مُحالٌ لِلدَّلائِلِ الكَثِيرَةِ المَشْهُورَةِ في هَذا البابِ، وأيْضًا فَيَلْزَمُ مِن كَوْنِ البارِي تَعالى قَدِيمًا أزَلِيًّا كَوْنُ الحَيِّزِ والجِهَةِ أزَلِيَّيْنِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ في الأزَلِ مَوْجُودٌ قائِمٌ بِنَفْسِهِ سِوى اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ بِإجْماعِ أكْثَرِ العُقَلاءِ باطِلٌ.
(p-٨٥)وأمّا بَيانُ فَسادِ القِسْمِ الثّانِي: فَهو مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ العَدَمَ نَفْيٌ مَحْضٌ، وعَدَمٌ صِرْفٌ، وما كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ ظَرْفًا لِغَيْرِهِ وجِهَةً لِغَيْرِهِ.
وثانِيهِما: أنَّ كُلَّ ما كانَ حاصِلًا في جِهَةٍ فَجِهَتُهُ مُمْتازَةٌ في الحِسِّ عَنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، فَلَوْ كانَتْ تِلْكَ الجِهَةُ عَدَمًا مَحْضًا لَزِمَ كَوْنُ العَدَمِ المَحْضِ مُشارًا إلَيْهِ بِالحِسِّ، وذَلِكَ باطِلٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ حاصِلًا في حَيِّزٍ وجِهَةٍ لَأفْضى إلى أحَدِ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ الباطِلَيْنِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ القَوْلُ بِهِ باطِلًا.
فَإنْ قِيلَ: فَهَذا أيْضًا وارِدٌ عَلَيْكم في قَوْلِكم: الجِسْمُ حاصِلٌ في الحَيِّزِ والجِهَةِ.
فَنَقُولُ: نَحْنُ عَلى هَذا الطَّرِيقِ لا نُثْبِتُ لِلْجِسْمِ حَيِّزًا ولا جِهَةً أصْلًا البَتَّةَ، بِحَيْثُ تَكُونُ ذاتُ الجِسْمِ نافِدَةً فِيهِ وسارِيَةً فِيهِ، بَلِ المَكانُ عِبارَةٌ عَنِ السَّطْحِ الباطِنِ مِنَ الجِسْمِ الحاوِي المُماسِّ لِلسَّطْحِ الظّاهِرِ مِنَ الجِسْمِ المَحْوِيِّ، وهَذا المَعْنى مُحالٌ بِالِاتِّفاقِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، فَسَقَطَ هَذا السُّؤالُ.
البُرْهانُ الرّابِعُ: لَوِ امْتَنَعَ وُجُودُ البارِي تَعالى إلّا بِحَيْثُ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالحَيِّزِ والجِهَةِ، لَكانَتْ ذاتُ البارِي مُفْتَقِرَةً في تَحَقُّقِها ووُجُودِها إلى الغَيْرِ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، يَنْتُجُ أنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ وُجُودُ البارِي إلّا في الجِهَةِ والحَيِّزِ، لَزِمَ كَوْنُهُ مُمْكِنًا لِذاتِهِ، ولَمّا كانَ هَذا مُحالًا كانَ القَوْلُ بِوُجُوبِ حُصُولِهِ في الحَيِّزِ مُحالًا.
بَيانُ المَقامِ الأوَّلِ: هو أنَّهُ لَمّا امْتَنَعَ حُصُولُ ذاتِ اللَّهِ تَعالى، إلّا إذا كانَ مُخْتَصًّا بِالحَيِّزِ والجِهَةِ. فَنَقُولُ: لا شَكَّ أنَّ الحَيِّزَ والجِهَةَ أمْرٌ مُغايِرٌ لِذاتِ اللَّهِ تَعالى، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُفْتَقِرَةً في تَحَقُّقِها إلى أمْرٍ يُغايِرُها، وكُلُّ ما افْتَقَرَ تَحَقُّقُهُ إلى ما يُغايِرُهُ، كانَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ.
والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الواجِبَ لِذاتِهِ هو الَّذِي لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ غَيْرِهِ عَدَمُهُ، والمُفْتَقِرَ إلى الغَيْرِ هو الَّذِي يَلْزَمُ مِن عَدَمِ غَيْرِهِ عَدَمُهُ، فَلَوْ كانَ الواجِبُ لِذاتِهِ مُفْتَقِرًا إلى الغَيْرِ لَزِمَ أنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ النَّقِيضانِ، وهو مُحالٌ. فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ وجَبَ حُصُولُهُ في الحَيِّزِ لَكانَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ، لا واجِبًا لِذاتِهِ، وذَلِكَ مُحالٌ.
والوَجْهُ الثّانِي في تَقْرِيرِ هَذِهِ الحُجَّةِ: هو أنَّ المُمْكِنَ مُحْتاجٌ إلى الحَيِّزِ والجِهَةِ. أمّا عِنْدَ مَن يُثْبِتُ الخَلاءَ، فَلا شَكَّ أنَّ الحَيِّزَ والجِهَةَ تَتَقَرَّرُ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ، وأمّا عِنْدَ مَن يَنْفِي الخَلاءَ فَلا؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ مُعْتَقِدًا أنَّهُ لا بُدَّ مِن مُتَمَكِّنٍ يَحْصُلُ في الجِهَةِ، إلّا أنَّهُ لا يَقُولُ بِأنَّهُ لا بُدَّ لِتِلْكَ الجِهَةِ مِن مُتَمَكِّنٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ أيُّ شَيْءٍ كانَ فَقَدْ كَفى في كَوْنِهِ شاغِلًا لِذَلِكَ الحَيِّزِ إذا ثَبَتَ هَذا، فَلَوْ كانَ ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُخْتَصَّةً بِجِهَةٍ وحَيِّزٍ لَكانَتْ ذاتُهُ مُفْتَقِرَةً إلى ذَلِكَ الحَيِّزِ، وكانَ ذَلِكَ الحَيِّزُ غَنِيًّا تَحَقُّقُهُ عَنْ ذاتِ اللَّهِ تَعالى. وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ يُقالَ: الحَيِّزُ واجِبٌ لِذاتِهِ غَنِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ، وأنْ يُقالَ: ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُفْتَقِرَةٌ في ذاتِها واجِبَةٌ بِغَيْرِها، وذَلِكَ يَقْدَحُ في قَوْلِنا: الإلَهُ تَعالى واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ.
فَإنْ قِيلَ: الحَيِّزُ والجِهَةُ لَيْسَ بِأمْرٍ مَوْجُودٍ حَتّى يُقالَ ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ ومُحْتاجَةٌ إلَيْهِ.
فَنَقُولُ: هَذا باطِلٌ قَطْعًا؛ لِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يُقالَ إنَّ ذاتَ اللَّهِ تَعالى مُخْتَصَّةٌ بِجِهَةِ فَوْقٍ، فَإنَّما نُمَيِّزُ بِحَسَبِ الحِسِّ بَيْنَ تِلْكَ الجِهَةِ وبَيْنَ سائِرِ الجِهاتِ، وما حَصَلَ فِيهِ الِامْتِيازُ بِحَسَبِ الحِسِّ كَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يُقالَ إنَّهُ عَدَمٌ مَحْضٌ ونَفْيٌ صِرْفٌ ؟ ولَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَ مِثْلُهُ في كُلِّ المَحْسُوساتِ، وذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الشَّكِّ في وُجُودِ كُلِّ (p-٨٦)المَحْسُوساتِ، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ.
البُرْهانُ الخامِسُ في تَقْرِيرِ أنَّهُ تَعالى يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِالحَيِّزِ والجِهَةِ: نَقُولُ: الحَيِّزُ والجِهَةُ لا مَعْنى لَهُ إلّا الفَراغُ المَحْضُ، والخَلاءُ الصِّرْفُ، وصَرِيحُ العَقْلِ يَشْهَدُ أنَّ هَذا المَفْهُومَ مَفْهُومٌ واحِدٌ لا اخْتِلافَ فِيهِ البَتَّةَ. وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَتِ الأحْيازُ بِأسْرِها مُتَساوِيَةً في تَمامِ الماهِيَّةِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَوْ كانَ الإلَهُ تَعالى مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ، لَكانَ مُحْدَثًا، وهَذا مُحالٌ؛ فَذاكَ مُحالٌ.
وبَيانُ المُلازَمَةِ: أنَّ الأحْيازَ لَمّا ثَبَتَ أنَّها بِأسْرِها مُتَساوِيَةٌ، فَلَوِ اخْتَصَّ ذاتُ اللَّهِ تَعالى بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَكانَ اخْتِصاصُهُ بِهِ لِأجْلِ أنَّ مُخَصِّصًا خَصَّصَهُ بِذَلِكَ الحَيِّزِ. وكُلُّ ما كانَ فِعْلًا لِفاعِلٍ مُخْتارٍ فَهو مُحْدَثٌ. فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ اخْتِصاصُ ذاتِ اللَّهِ بِالحَيِّزِ المُعَيَّنِ مُحْدَثًا، فَإذا كانَتْ ذاتُهُ مُمْتَنِعَةَ الخُلُوِّ عَنِ الحُصُولِ في الحَيِّزِ، وثَبَتَ أنَّ الحُصُولَ في الحَيِّزِ مُحْدَثٌ، وبَدِيهَةُ العَقْلِ شاهِدَةٌ بِأنَّ ما لا يَخْلُو عَنِ المُحْدَثِ فَهو مُحْدَثٌ، لَزِمَ القَطْعُ بِأنَّهُ لَوْ كانَ حاصِلًا في الحَيِّزِ لَكانَ مُحْدَثًا، ولَمّا كانَ هَذا مُحالًا كانَ ذَلِكَ أيْضًا مُحالًا.
فَإنْ قالُوا: الأحْيازُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ أنَّ بَعْضَها عُلْوٌ وبَعْضَها سُفْلٌ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُخْتَصَّةٌ بِجِهَةِ عُلْوٍ ؟ فَنَقُولُ: هَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ كَوْنَ بَعْضِ تِلْكَ الجِهاتِ عُلْوًا وبَعْضِها سُفْلًا أحْوالٌ لا تَحْصُلُ إلّا بِالنِّسْبَةِ إلى وُجُودِ هَذا العالَمِ، فَلَمّا كانَ هَذا العالَمُ مُحْدَثًا كانَ قَبْلَ حُدُوثِهِ لا عُلْوٌ ولا سُفْلٌ ولا يَمِينٌ ولا يَسارٌ، بَلْ لَيْسَ إلّا الخَلاءُ المَحْضُ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الإلْزامُ المَذْكُورُ بِتَمامِهِ.
وأيْضًا لَوْ جازَ القَوْلُ بِأنَّ ذاتَ اللَّهِ تَعالى مُخْتَصَّةٌ بِبَعْضِ الأحْيازِ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ ؟ فَلِمَ لا يُعْقَلُ أيْضًا أنْ يُقالَ: إنَّ بَعْضَ الأجْسامِ اخْتَصَّ بِبَعْضِ الأحْيازِ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ ؟ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَذَلِكَ اسْمٌ لا يَكُونُ قابِلًا لِلْحَرَكَةِ والسُّكُونِ، فَلا يَجْرِي فِيهِ دَلِيلُ حُدُوثِ الأجْسامِ، والقائِلُ بِهَذا القَوْلِ لا يُمْكِنُهُ إقامَةُ الدَّلالَةِ عَلى حُدُوثِ كُلِّ الأجْسامِ بِطَرِيقِ الحَرَكَةِ والسُّكُونِ، والكَرّامِيَّةُ وافَقُونا عَلى أنَّ تَجْوِيزَ هَذا يُوجِبُ الكُفْرَ. واللَّهُ أعْلَمُ.
البُرْهانُ السّادِسُ: لَوْ كانَ البارِي تَعالى حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ لَكانَ مُشارًا إلَيْهِ بِحَسَبِ الحِسِّ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ، فَإمّا أنْ لا يَقْبَلَ القِسْمَةَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وإمّا أنْ يَقْبَلَ القِسْمَةَ.
فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ تَعالى يُمْكِنُ أنْ يُشارَ إلَيْهِ بِحَسَبِ الحِسِّ، مَعَ أنَّهُ لا يَقْبَلُ القِسْمَةَ المِقْدارِيَّةَ البَتَّةَ، كانَ ذَلِكَ نُقْطَةً لا تَنْقَسِمُ، وجَوْهَرًا فَرْدًا لا يَنْقَسِمُ، فَكانَ ذَلِكَ في غايَةِ الصِّغَرِ والحَقارَةِ، وهَذا باطِلٌ بِإجْماعِ جَمِيعِ العُقَلاءِ، وذَلِكَ لِأنَّ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَعالى في الجِهَةِ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَعالى كَذَلِكَ، والَّذِينَ يُثْبِتُونَ كَوْنَهُ تَعالى في الجِهَةِ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَعالى في الصِّغَرِ والحَقارَةِ مِثْلَ الجُزْءِ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا بِإجْماعِ العُقَلاءِ باطِلٌ.
وأيْضًا فَلَوْ جازَ ذَلِكَ، فَلِمَ لا يُعْقَلُ أنْ يُقالَ: إلَهُ العالَمِ جُزْءٌ مِن ألْفِ جُزْءٍ مِن رَأْسِ إبْرَةٍ، أوْ ذَرَّةٍ مُلْتَصِقَةٍ بِذَنَبِ قَمْلَةٍ، أوْ نَمْلَةٍ ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ قَوْلٍ يُفْضِي إلى مِثْلِ هَذِهِ الأشْياءِ، فَإنَّ صَرِيحَ العَقْلِ يُوجِبُ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعالى عَنْهُ.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنَّهُ يَقْبَلُ القِسْمَةَ، فَنَقُولُ: كُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَذاتُهُ مُرَكَّبَةٌ وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، وكُلُّ مُمْكِنٍ لِذاتِهِ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى المُوجِدِ والمُؤَثِّرِ، وذَلِكَ عَلى الإلَهِ الواجِبِ لِذاتِهِ مُحالٌ.
* * *
(p-٨٧)البُرْهانُ السّابِعُ: أنْ نَقُولَ: كُلُّ ذاتٍ قائِمَةٍ بِنَفْسِها مُشارٌ إلَيْها بِحَسَبِ الحِسِّ فَهو مُنْقَسِمٌ، وكُلُّ مُنْقَسِمٍ مُمْكِنٌ، فَكُلُّ ذاتٍ قائِمَةٍ بِنَفْسِها مُشارٌ إلَيْها بِحَسَبِ الحِسِّ فَهو مُمْكِنٌ. فَما لا يَكُونُ مُمْكِنًا لِذاتِهِ بَلْ كانَ واجِبًا لِذاتِهِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُشارًا إلَيْهِ بِحَسَبِ الحِسِّ.
أمّا المُقَدِّمَةُ الأُولى: فَلِأنَّ كُلَّ ذاتٍ قائِمَةٍ بِالنَّفْسِ مُشارٌ إلَيْها بِحَسَبِ الحِسِّ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ جانِبُ يَمِينِهِ مُغايِرًا لِجانِبِ يَسارِهِ، وكُلُّ ما هو كَذَلِكَ فَهو مُنْقَسِمٌ.
وأمّا المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: وهي أنَّ كُلَّ مُنْقَسِمٍ مُمْكِنٌ، فَإنَّهُ يَفْتَقِرُ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ، وكُلُّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ غَيْرُهُ، وكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى غَيْرِهِ، وكُلُّ مُفْتَقِرٍ إلى غَيْرِهِ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ.
واعْلَمْ أنَّ المُقَدِّمَةَ الأُولى مِن مُقَدِّماتِ هَذا الدَّلِيلِ إنَّما تَتِمُّ بِنَفْيِ الجَوْهَرِ الفَرْدِ.
البُرْهانُ الثّامِنُ: لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعالى في حَيِّزٍ لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ أعْظَمَ مِنَ العَرْشِ أوْ مُساوِيًا لَهُ أوْ أصْغَرَ مِنهُ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ كانَ مُنْقَسِمًا؛ لِأنَّ القَدْرَ الَّذِي مِنهُ يُساوِي العَرْشَ يَكُونُ مُغايِرًا لِلْقَدْرِ الَّذِي يَفْضُلُ عَلى العَرْشِ، وإنْ كانَ الثّانِيَ كانَ مُنْقَسِمًا لِأنَّ العَرْشَ مُنْقَسِمٌ والمُساوِي لِلْمُنْقَسِمِ مُنْقَسِمٌ، وإنْ كانَ الثّالِثُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ العَرْشُ أعْظَمَ مِنهُ وذَلِكَ باطِلٌ بِإجْماعِ الأُمَّةِ. أمّا عِنْدَنا فَظاهِرٌ، وأمّا عِنْدَ الخُصُومِ فَلِأنَّهم يُنْكِرُونَ كَوْنَ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى أعْظَمَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَثَبَتَ أنَّ هَذا المَذْهَبَ باطِلٌ.
البُرْهانُ التّاسِعُ: لَوْ كانَ الإلَهُ تَعالى حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا مِن كُلِّ الجَوانِبِ. وإمّا أنْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ، والقِسْمانِ باطِلانِ.
فالقَوْلُ بِكَوْنِهِ حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ باطِلٌ أيْضًا. أمّا بَيانُ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا مِن كُلِّ الجِهاتِ، فَلِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ فَوْقَهُ أحْيازٌ خالِيَةٌ، وهو تَعالى قادِرٌ عَلى خَلْقِ الجِسْمِ في ذَلِكَ الحَيِّزِ الخالِي، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لَوْ خَلَقَ هُناكَ عالَمًا آخَرَ لَحَصَلَ هو تَعالى تَحْتَ العالَمِ وذَلِكَ عِنْدَ الخَصْمِ مُحالٌ، وأيْضًا فَقَدْ كانَ يُمْكِنُ أنْ يَخْلُقَ مِنَ الجَوانِبِ السِّتَّةِ لِتِلْكَ الذّاتِ أجْسامًا أُخْرى، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَتَحْصُلُ ذاتُهُ في وسَطِ تِلْكَ الأجْسامِ مَحْصُورَةً فِيها ويَحْصُلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأجْسامِ الِاجْتِماعُ تارَةً والِافْتِراقُ أُخْرى، وكُلُّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَناهٍ مِن بَعْضِ الجِهاتِ فَهَذا أيْضًا مُحالٌ؛ لِأنَّهُ ثَبَتَ بِالبُرْهانِ أنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ بُعْدٍ لا نِهايَةَ لَهُ، وأيْضًا فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يُمْكِنُ إقامَةُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ العالَمَ مُتَناهٍ؛ لِأنَّ كُلَّ دَلِيلٍ يُذْكَرُ في تَناهِي الأبْعادِ، فَإنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ يَنْتَقِضُ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّهُ عَلى مَذْهَبِ الخَصْمِ بُعْدٌ لا نِهايَةَ لَهُ، وهو وإنْ كانَ لا يَرْضى بِهَذا اللَّفْظِ إلّا أنَّهُ يُساعِدُ عَلى المَعْنى، والمَباحِثُ العَقْلِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى المَعانِي لا عَلى المُشاحَّةِ في الألْفاظِ.
البُرْهانُ العاشِرُ: لَوْ كانَ الإلَهُ تَعالى حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ لَكانَ كَوْنُهُ تَعالى هُناكَ. إمّا أنْ يَمْنَعَ مِن حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ هُناكَ أوْ لا يَمْنَعَ، والقِسْمانِ باطِلانِ فَبَطَلَ القَوْلُ بِكَوْنِهِ حاصِلًا في الحَيِّزِ.
أمّا فَسادُ القِسْمِ الأوَّلِ: فَلِأنَّهُ لَمّا كانَ كَوْنُهُ هُناكَ مانَعًا مِن حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ هُناكَ. كانَ هو تَعالى مُساوِيًا لِسائِرِ الأجْسامِ في كَوْنِهِ حَجْمًا مُتَحَيِّزًا مُمْتَدًّا في الحَيِّزِ والجِهَةِ مانِعًا مِن حُصُولِ غَيْرِهِ في الحَيِّزِ الَّذِي هو فِيهِ، وإذا ثَبَتَ حُصُولُ المُساواةِ في ذَلِكَ المَفْهُومِ بَيْنَهُ وبَيْنَ سائِرِ الأجْسامِ، فَإمّا أنْ يَحْصُلَ بَيْنَهُ وبَيْنَها مُخالَفَةٌ (p-٨٨)مِن سائِرِ الوُجُوهِ أوْ لا يَحْصُلَ، والأوَّلُ باطِلٌ لِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ إذا حَصَلَتِ المُشارَكَةُ بَيْنَ ذاتِهِ تَعالى وبَيْنَ ذَواتِ الأجْسامِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ والمُخالَفَةُ مِن سائِرِ الوُجُوهِ، كانَ ما بِهِ المُشارَكَةُ مُغايِرًا لِما بِهِ المُخالَفَةُ، وحِينَئِذٍ تَكُونُ ذاتُ البارِي تَعالى مُرَكَّبَةٌ مِن هَذَيْنِ الِاعْتِبارَيْنِ.
وقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ فَواجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ مُمْكِنُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، هَذا خُلْفٌ.
والثّانِي: وهو أنَّ ما بِهِ المُشارَكَةُ وهو طَبِيعَةُ البُعْدِ والِامْتِدادِ، إمّا أنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِما بِهِ المُخالَفَةُ. وإمّا أنْ يَكُونَ حالًّا فِيهِ. وإمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ لا مَحَلَّ لَهُ ولا حالًّا فِيهِ.
أمّا الأوَّلُ: وهو أنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِما بِهِ المُخالَفَةُ، فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ طَبِيعَةُ البُعْدِ والِامْتِدادِ هي الجَوْهَرُ القائِمُ بِنَفْسِهِ، والأُمُورُ الَّتِي حَصَلَتْ بِها المُخالَفَةُ أعْراضٌ وصِفاتٌ، وإذا كانَتِ الذَّواتُ مُتَساوِيَةً في تَمامِ الماهِيَّةِ فَكُلُّ ما صَحَّ عَلى بَعْضِها وجَبَ أنْ يَصِحَّ عَلى البَواقِي، فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ كُلُّ ما صَحَّ عَلى جَمِيعِ الأجْسامِ، وجَبَ أنْ يَصِحَّ عَلى البارِي تَعالى وبِالعَكْسِ، ويَلْزَمَ مِنهُ صِحَّةُ التَّفَرُّقِ والتَّمَزُّقِ والنُّمُوِّ والذُّبُولِ والعُفُونَةِ والفَسادِ عَلى ذاتِ اللَّهِ تَعالى وكُلُّ ذَلِكَ مُحالٌ.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ: ما بِهِ المُخالَفَةُ مَحَلٌّ وذاتٌ، وما بِهِ المُشارَكَةُ حالٌّ وصِفَةٌ فَهَذا مُحالٌ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ طَبِيعَةُ البُعْدِ والِامْتِدادِ صِفَةً قائِمَةً بِمَحَلٍّ، وذَلِكَ المَحَلُّ إنْ كانَ لَهُ أيْضًا اخْتِصاصٌ بِحَيِّزِ وجِهَةٍ وجَبَ افْتِقارُهُ إلى مَحَلٍّ آخَرَ لا إلى نِهايَةٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَوْجُودًا مُجَرَّدًا لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالحَيِّزِ والجِهَةِ والإشارَةِ الحِسِّيَّةِ البَتَّةَ، وطَبِيعَةُ البُعْدِ والِامْتِدادِ واجِبَةُ الِاخْتِصاصِ بِالحَيِّزِ والجِهَةِ والإشارَةِ الحِسِّيَّةِ، وحُلُولُ ما هَذا شَأْنُهُ في ذَلِكَ المَحَلِّ يُوجِبُ الجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وهو مُحالٌ.
وأمّا القِسْمُ الثّالِثُ: وهو أنْ لا يَكُونَ أحَدُهُما حالًّا في الآخَرِ ولا مَحَلًّا لَهُ. فَنَقُولُ: فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُتَبايِنًا عَنِ الآخَرِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَتَكُونُ ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُساوِيَةً لِسائِرِ الذَّواتِ الجُسْمانِيَّةِ في تَمامِ الماهِيَّةِ؛ لِأنَّ ما بِهِ المُخالَفَةُ بَيْنَ ذاتِهِ وبَيْنَ سائِرِ الذَّواتِ لَيْسَتْ حالَّةً في هَذِهِ الذَّواتِ ولا مَحالًّا لَها، بَلْ أُمُورٌ أجْنَبِيَّةٌ عَنْها، فَتَكُونُ ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُساوِيَةً لِذَواتِ الأجْسامِ في تَمامِ الماهِيَّةِ، وحِينَئِذٍ يَعُودُ الإلْزامُ المَذْكُورُ، فَثَبَتَ أنَّ القَوْلَ: بِأنَّ ذاتَ اللَّهِ تَعالى مُخْتَصَّةٌ بِالحَيِّزِ والجِهَةِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِن حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ في ذَلِكَ الحَيِّزِ يُفْضِي إلى هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ الباطِلَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ باطِلًا.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ: إنَّ ذاتَ اللَّهِ تَعالى وإنْ كانَتْ مُخْتَصَّةً بِالحَيِّزِ والجِهَةِ، إلّا أنَّهُ لا يَمْنَعُ مِن حُصُولِ جِسْمٍ آخَرَ في ذَلِكَ الحَيِّزِ والجِهَةِ، فَهَذا أيْضًا مُحالٌ؛ لِأنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ ذاتِهِ مُخالِطَةً سارِيَةً في ذاتِ ذَلِكَ الجِسْمِ الَّذِي يَحْصُلُ في ذَلِكَ الجَنْبِ والحَيِّزِ، وذَلِكَ بِالإجْماعِ مُحالٌ، ولِأنَّهُ لَوْ عُقِلَ ذَلِكَ فَلِمَ لا يُعْقَلُ حُصُولُ الأجْسامِ الكَثِيرَةِ في الحَيِّزِ الواحِدِ ؟
فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ حاصِلًا في حَيِّزٍ لَكانَ: إمّا أنْ يَمْنَعَ حُصُولَ جِسْمٍ آخَرَ في ذَلِكَ الحَيِّزِ أوْ لا يَمْنَعَ، وثَبَتَ فَسادُ القِسْمَيْنِ، فَكانَ القَوْلُ بِحُصُولِهِ تَعالى في الحَيِّزِ والجِهَةِ مُحالًا باطِلًا.
البُرْهانُ الحادِي عَشَرَ: عَلى أنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ ذاتِ اللَّهِ تَعالى في الحَيِّزِ والجِهَةِ هو أنْ نَقُولَ: لَوْ كانَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وجِهَةٍ لَكانَ، إمّا أنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَحَرَّكَ عَنْ تِلْكَ الجِهَةِ أوْ لا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، والقِسْمانِ باطِلانِ، فَبَطَلَ القَوْلُ بِكَوْنِهِ حاصِلًا في الحَيِّزِ.
أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: وهو أنَّهُ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَحَرَّكَ فَنَقُولُ: هَذِهِ الذّاتُ لا تَخْلُو عَنِ الحَرَكَةِ والسُّكُونِ وهُما (p-٨٩)مُحْدَثانِ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ السُّكُونَ جائِزٌ عَلَيْهِ والحَرَكَةَ جائِزَةٌ عَلَيْهِ، ومَتى كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ المُؤَثِّرُ في تِلْكَ الحَرَكَةِ ولا في ذَلِكَ السُّكُونِ ذاتُهُ، وإلّا لامْتَنَعَ طَرَيانُ ضِدِّهِ والتَّقْدِيرُ: هو تَقْدِيرُ أنَّهُ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَحَرَّكَ وأنْ يَسْكُنَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ المُؤَثِّرُ في حُصُولِ تِلْكَ الحَرَكَةِ وذَلِكَ السُّكُونِ هو الفاعِلَ المُخْتارَ، وكُلُّ ما كانَ فِعْلًا لِفاعِلٍ مُخْتارٍ فَهو مُحْدَثٌ، فالحَرَكَةُ والسُّكُونُ مُحْدَثانِ وما لا يَخْلُو عَنِ المُحْدِثِ فَهو مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ أنْ تَكُونَ ذاتُهُ تَعالى مُحْدَثَةً وهو مُحالٌ.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنَّهُ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِحَيِّزِ وجِهَةٍ مَعَ أنَّهُ لا يَقْدِرُ أنْ يَتَحَرَّكَ عَنْهُ، فَهَذا أيْضًا مُحالٌ لِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ كالزَّمِنِ المُقْعَدِ العاجِزِ، وذَلِكَ نَقْصٌ، وهو عَلى اللَّهِ مُحالٌ.
والثّانِي: أنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ فَرْضُ مَوْجُودٍ حاصِلٍ في حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ حُصُولُهُ فِيهِ واجِبَ التَّقَرُّرِ مُمْتَنِعَ الزَّوالِ لَمْ يَبْعُدْ أيْضًا فَرْضُ أجْسامٍ أُخْرى مُخْتَصَّةٍ بَأحْيازٍ مُعَيَّنَةٍ، بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ خُرُوجُها عَنْ تِلْكَ الأحْيازِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلا يُمْكِنُ إثْباتُ حُدُوثِها بِدَلِيلِ الحَرَكَةِ والسُّكُونِ، والكَرّامِيَّةُ يُساعِدُونَ عَلى أنَّهُ كُفْرٌ.
والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ حاصِلًا في الحَيِّزِ والجِهَةِ كانَ مُساوِيًا لِلْأجْسامِ في كَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا شاغِلًا لِلْأحْيازِ، ثُمَّ نُقِيمُ الدَّلالَةَ المَذْكُورَةَ عَلى أنَّ المُتَحَيِّزاتِ لَمّا كانَتْ مُتَساوِيَةً في صِفَةِ التَّحَيُّزِ وجَبَ كَوْنُها مُتَساوِيَةً في تَمامِ الماهِيَّةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ خالَفَ بَعْضُها بَعْضًا لَكانَ ما بِهِ المُخالَفَةُ إمّا أنْ يَكُونَ حالًّا في المُتَحِيِّزِ أوْ مَحَلًّا لَهُ، أوْ لا حالًّا ولا مَحَلًّا.
والأقْسامُ الثَّلاثَةُ باطِلَةٌ عَلى ما سَبَقَ. وإذا كانَتْ مُتَساوِيَةً في تَمامِ الماهِيَّةِ فَكَما أنَّ الحَرَكَةَ صَحِيحَةٌ عَلى هَذِهِ الأجْسامِ وجَبَ القَوْلُ بِصِحَّتِها عَلى ذاتِ اللَّهِ تَعالى وحِينَئِذٍ يَتِمُّ الدَّلِيلُ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كانَ تَعالى مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَكُنّا إذا فَرَضْنا وُصُولَ إنْسانٍ إلى طَرَفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وحاوَلَ الدُّخُولَ فِيهِ. فَإمّا أنْ يُمْكِنَهُ النُّفُوذُ والدُّخُولُ فِيهِ أوْ لا يُمْكِنَهُ ذَلِكَ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ كانَ كالهَواءِ اللَّطِيفِ، والماءِ اللَّطِيفِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ قابِلًا لِلتَّفَرُّقِ والتَّمَزُّقِ. وإنْ كانَ الثّانِي كانَ صُلْبًا كالحَجَرِ الصَّلْدِ الَّذِي لا يُمْكِنُهُ النُّفُوذُ فِيهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ مُخْتَصًّا بِمَكانٍ وحَيِّزٍ وجِهَةٍ لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ رَقِيقًا سَهْلَ التَّفَرُّقِ والتَّمَزُّقِ كالماءِ والهَواءِ، وإمّا أنْ يَكُونَ صُلْبًا جاسِئًا كالحَجَرِ الصَّلْدِ، وقَدْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ إثْباتَ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ في حَقِّ الإلَهِ تَعالى كُفْرٌ وإلْحادٌ في صِفَتِهِ، وأيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَكانٍ وجِهَةٍ، لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ نُورانِيًّا وظُلْمانِيًّا، وجُمْهُورُ المُشَبِّهَةِ يَعْتَقِدُونَ أنَّهُ نُورٌ مَحْضٌ؛ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّ النُّورَ شَرِيفٌ والظُّلْمَةَ خَسِيسَةٌ، إلّا أنَّ الِاسْتِقْراءَ العامَّ دَلَّ عَلى أنَّ الأشْياءَ النُّورانِيَّةَ رَقِيقَةٌ لا تَمْنَعُ النّافِذَ مِنَ النُّفُوذِ فِيها، والدُّخُولِ فِيما بَيْنَ أجْزائِها.
وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَإنَّ ذَلِكَ الَّذِي يُنْفَذُ فِيهِ يُمْتَزَجُ بِهِ ويُفَرَّقُ بَيْنَ أجْزائِهِ ويَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ جارِيًا مَجْرى الهَواءِ الَّذِي يَتَّصِلُ تارَةً ويَنْفَصِلُ أُخْرى. ويَجْتَمِعُ تارَةً ويَتَمَزَّقُ أُخْرى، وذَلِكَ مِمّا لا يَلِيقُ بِالمُسْلِمِ أنْ يَصِفَ إلَهَ العالَمِ بِهِ، ولَوْ جازَ ذَلِكَ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّ خالِقَ العالَمِ هو بَعْضُ هَذِهِ الرِّياحِ الَّتِي تَهُبُّ ؟ أوْ يُقالَ إنَّهُ بَعْضُ هَذِهِ الأنْوارِ والأضْواءِ الَّتِي تُشْرِقُ عَلى الجُدْرانِ ؟
والَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ لا يَقْبَلُ التَّفَرُّقَ والتَّمَزُّقَ ولا يَتَمَكَّنُ النّافِذُ مِنَ النُّفُوذِ، فَإنَّهُ يُرْجِعُ حاصِلُ كَلامِهِمْ إلى أنَّهُ حَصَلَ فَوْقَ العالَمِ جَبَلٌ صُلْبٌ شَدِيدٌ، وإلَهُ هَذا العالَمِ هو ذَلِكَ الجَبَلُ الصُّلْبُ الواقِفُ في الحَيِّزِ العالِي، وأيْضًا فَإنْ كانَ لَهُ طَرَفٌ وحَدٌّ ونِهايَةٌ فَهَلْ حَصَلَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ عُمْقٌ وثُخْنٌ أوْ لَمْ يَحْصُلْ ؟
فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ظاهِرُهُ غَيْرَ باطِنِهِ وباطِنُهُ غَيْرَ ظاهِرِهِ، فَكانَ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا مِنَ الظّاهِرِ والباطِنِ مَعَ أنَّ باطِنَهُ غَيْرُ ظاهِرِهِ وظاهِرَهُ غَيْرُ باطِنِهِ، وإنْ كانَ الثّانِيَ (p-٩٠)فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذاتُهُ سَطْحًا رَقِيقًا في غايَةِ الرِّقَّةِ مِثْلَ قِشْرَةِ الثُّومِ، بَلْ أرَقُّ مِنهُ ألْفَ ألْفِ مَرَّةٍ، والعاقِلُ لا يَرْضى أنْ يَجْعَلَ مِثْلَ هَذا الشَّيْءِ إلَهَ العالَمِ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ تَعالى في الحَيِّزِ والجِهَةِ يُفْضِي إلى فَتْحِ بابِ هَذِهِ الأقْسامِ الباطِلَةِ الفاسِدَةِ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: العالَمُ كُرَةٌ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ إلَهُ العالَمِ حاصِلًا في جِهَةِ فَوْقُ.
أمّا المَقامُ الأوَّلُ: فَهو مُسْتَقْصًى في عِلْمِ الهَيْئَةِ إلّا أنّا نَقُولُ أنّا إذا اعْتَبَرْنا كُسُوفًا قَمَرِيًّا حَصَلَ في أوَّلِ اللَّيْلِ بِالبِلادِ الغَرْبِيَّةِ كانَ عَيْنُ ذَلِكَ الكُسُوفِ حاصِلًا في البِلادِ الشَّرْقِيَّةِ في أوَّلِ النَّهارِ، فَعَلِمْنا أنَّ أوَّلَ اللَّيْلِ بِالبِلادِ الغَرْبِيَّةِ هو بِعَيْنِهِ أوَّلُ النَّهارِ بِالبِلادِ الشَّرْقِيَّةِ، وذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا إذا كانَتِ الأرْضُ مُسْتَدِيرَةً مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأيْضًا إذا تَوَجَّهْنا إلى الجانِبِ الشَّمالِيِّ فَكُلَّما كانَ تَوَغُّلُنا أكْثَرَ، كانَ ارْتِفاعُ القُطْبِ الشَّمالِيِّ أكْثَرَ، وبِمِقْدارِ ما يَرْتَفِعُ القُطْبُ الشَّمالِيُّ يَنْخَفِضُ القُطْبُ الجَنُوبِيُّ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأرْضَ مُسْتَدِيرَةٌ مِنَ الشَّمالِ إلى الجَنُوبِ، ومَجْمُوعُ هَذَيْنِ الِاعْتِبارَيْنِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأرْضَ كُرَةٌ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا فَرَضْنا إنْسانَيْنِ وقَفَ أحَدُهُما عَلى نُقْطَةِ المَشْرِقِ والآخَرُ عَلى نُقْطَةِ المَغْرِبِ صارَ أخْمَصُ قَدَمَيْهِما مُتَقابِلَيْنِ، والَّذِي هو فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إلى أحَدِهِما يَكُونُ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إلى الثّانِي، فَلَوْ فَرَضْنا أنَّ إلَهَ العالَمِ حَصَلَ في الحَيِّزِ الَّذِي فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إلى أحَدِهِما، فَذَلِكَ الحَيِّزُ بِعَيْنِهِ هو تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إلى الثّانِي، وبِالعَكْسِ؛ فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ حَصَلَ في حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَكانَ ذَلِكَ الحَيِّزُ تَحْتًا بِالنِّسْبَةِ إلى أقْوامٍ مُعَيَّنِينَ، وكَوْنُهُ تَعالى تَحْتَ أهْلِ الدُّنْيا مُحالٌ بِالِاتِّفاقِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ حاصِلًا في حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ. وأيْضًا فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ أنَّهُ كُلَّما كانَ فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إلى أقْوامٍ كانَ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إلى أقْوامٍ آخَرِينَ، وكانَ يَمِينًا بِالنِّسْبَةِ إلى ثالِثٍ، وشِمالًا بِالنِّسْبَةِ إلى رابِعٍ، وقُدّامَ الوَجْهِ بِالنِّسْبَةِ إلى خامِسٍ، وخَلْفَ الرَّأْسِ بِالنِّسْبَةِ إلى سادِسٍ، فَإنَّ كَوْنَ الأرْضِ كُرَةً يُوجِبُ ذَلِكَ إلّا أنَّ حُصُولَ هَذِهِ الأحْوالِ بِإجْماعِ العُقَلاءِ مُحالٌ في حَقِّ إلَهِ العالَمِ إلّا إذا قِيلَ إنَّهُ مُحِيطٌ بِالأرْضِ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ فَيَكُونُ هَذا فَلَكًا مُحِيطًا بِالأرْضِ، وحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى أنَّ إلَهَ العالَمِ هو بَعْضُ الأفْلاكِ المُحِيطَةِ بِهَذا العالَمِ، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، واللَّهُ أعْلَمُ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كانَ إلَهُ العالَمِ فَوْقَ العَرْشِ، لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ مُماسًّا لِلْعَرْشِ، أوْ مُبايِنًا لَهُ بِبُعْدٍ مُتَناهٍ أوْ بِبُعْدٍ غَيْرِ مُتَناهٍ، والأقْسامُ الثَّلاثَةُ باطِلَةٌ، فالقَوْلُ بِكَوْنِهِ فَوْقَ العَرْشِ باطِلٌ.
أمّا بَيانُ فَسادِ القِسْمِ الأوَّلِ: فَهو أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَصِيرَ مُماسًّا لِلْعَرْشِ كانَ الطَّرَفُ الأسْفَلُ مِنهُ مُماسًّا لِلْعَرْشِ، فَهَلْ يَبْقى فَوْقَ ذَلِكَ الطَّرَفِ مِنهُ شَيْءٌ غَيْرُ مُماسٍّ لِلْعَرْشِ أوْ لَمْ يَبْقَ ؟ فَإنْ كانَ الأوَّلَ فالشَّيْءُ الَّذِي مِنهُ صارَ مُماسًّا لِطَرَفِ العَرْشِ غَيْرُ ما هو مِنهُ غَيْرُ مُماسٍّ لِطَرَفِ العَرْشِ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ذاتُ اللَّهِ تَعالى مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ فَتَكُونُ ذاتُهُ في الحَقِيقَةِ مُرَكَّبَةً مِن سُطُوحٍ مُتَلاقِيَةٍ مَوْضُوعَةٍ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، وذَلِكَ هو القَوْلُ بِكَوْنِهِ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ وذَلِكَ مُحالٌ، وإنْ كانَ الثّانِي فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذاتُ اللَّهِ تَعالى سَطْحًا رَقِيقًا لا ثُخْنَ لَهُ أصْلًا، ثُمَّ يَعُودُ التَّقْسِيمُ فِيهِ، وهو أنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ تَمَدُّدٌ في اليَمِينِ والشِّمالِ والقُدّامِ والخَلْفِ كانَ مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَمَدُّدٌ ولا ذَهابٌ في الأحْيازِ بِحَسَبِ الجِهاتِ السِّتَّةِ كانَ ذَرَّةً مِنَ الذَّرّاتِ وجُزْءًا لا يَتَجَزَّأُ مَخْلُوطًا بِالهَباآتِ، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ.
* * *
(p-٩١)وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ العالَمِ بُعْدٌ مُتَناهٍ، فَهَذا أيْضًا مُحالٌ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَرْتَفِعَ العالَمُ مِن حَيِّزِهِ إلى الجِهَةِ الَّتِي فِيها حَصَلَتْ ذاتُ اللَّهِ تَعالى إلى أنْ يَصِيرَ العالَمُ مُماسًّا لَهُ، وحِينَئِذٍ يَعُودُ المُحالُ المَذْكُورُ في القِسْمِ الأوَّلِ.
وأمّا القِسْمُ الثّالِثُ: وهو أنْ يُقالَ إنَّهُ تَعالى مُبايِنٌ لِلْعالَمِ بَيْنُونَةً غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ، فَهَذا أظْهَرُ فَسادًا مِن كُلِّ الأقْسامِ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ مُبايِنًا لِلْعالَمِ كانْتِ البَيْنُونَةُ بَيْنَهُ تَعالى وبَيْنَ غَيْرِهِ مَحْدُودَةً بِطَرَفَيْنِ وهُما ذاتُ اللَّهِ تَعالى وذاتُ العالَمِ، ومَحْصُورًا بَيْنَ هَذَيْنِ الحاصِرَيْنِ، والبُعْدُ المَحْصُورُ بَيْنَ الحاصِرَيْنِ والمَحْدُودُ بَيْنَ الحَدَّيْنِ والطَّرَفَيْنِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ بُعْدًا غَيْرَ مُتَناهٍ.
فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّهُ تَعالى مُتَقَدِّمٌ عَلى العالَمِ مِنَ الأزَلِ إلى الأبَدِ، فَتَقَدُّمُهُ عَلى العالَمِ مَحْصُورٌ بَيْنَ حاصِرَيْنِ ومَحْدُودٌ بَيْنَ حَدَّيْنِ وطَرَفَيْنِ؛ أحَدُهُما الأزَلُ، والثّانِي أوَّلُ وُجُودِ العالَمِ، ولَمْ يَلْزَمْ مِن كَوْنِ هَذا التَّقَدُّمِ مَحْصُورًا بَيْنَ حاصِرَيْنِ أنْ يَكُونَ لِهَذا التَّقَدُّمِ أوَّلٌ وبِدايَةٌ، فَكَذا هَهُنا ؟ وهَذا هو الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الهَيْثَمِ في دَفْعِ هَذا الإشْكالِ عَنْ هَذا القِسْمِ.
والجَوابُ: أنَّ هَذا هو مَحْضُ المُغالَطَةِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ الأزَلُ عِبارَةً عَنْ وقْتٍ مُعَيَّنٍ وزَمانٍ مُعَيَّنٍ حَتّى يُقالَ إنَّهُ تَعالى مُتَقَدِّمٌ عَلى العالَمِ مِن ذَلِكَ الوَقْتِ إلى الوَقْتِ الَّذِي هو أوَّلُ العالَمِ، فَإنَّ كُلَّ وقْتٍ مُعَيَّنٍ يُفْرَضُ مِن ذَلِكَ الوَقْتِ إلى الوَقْتِ الآخَرِ يَكُونُ مَحْدُودًا بَيْنَ حَدَّيْنِ ومَحْصُورًا بَيْنَ حاصِرَيْنِ، وذَلِكَ لا يُعْقَلُ فِيهِ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَناهٍ. بَلِ الأزَلُ عِبارَةٌ عَنْ نَفْيِ الأوَّلِيَّةِ مِن غَيْرِ أنْ يُشارَ بِهِ إلى وقْتٍ مُعَيَّنٍ البَتَّةَ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إمّا أنْ نَقُولَ: أنَّهُ تَعالى مُخْتَصٌّ بِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وحاصِلٌ في حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ، وإمّا أنْ لا نَقُولَ ذَلِكَ، فَإنْ قُلْنا بِالأوَّلِ كانَ البُعْدُ الحاصِلُ بَيْنَ ذَيْنِكَ الطَّرَفَيْنِ مَحْدُودًا بَيْنَ ذَيْنِكَ الحَدَّيْنِ، والبُعْدُ المَحْصُورُ بَيْنَ الحاصِرَيْنِ لا يُعْقَلُ كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَناهٍ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ مُتَناهٍ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ الحَدِّ والقَطْعِ والطَّرَفِ، وكَوْنُهُ مَحْصُورًا بَيْنَ الحاصِرَيْنِ مَعْناهُ إثْباتُ الحَدِّ والقَطْعِ والطَّرَفِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما يُوجِبُ الجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وهو مُحالٌ. ونَظِيرُهُ ما ذَكَرْناهُ: أنّا مَتى عَيَّنّا قَبْلَ العالَمِ وقْتًا مُعَيَّنًا كانَ البُعْدُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ أوَّلُ العالَمِ بُعْدًا مُتَناهِيًا لا مَحالَةَ. وأمّا إنْ قُلْنا بِالقِسْمِ الثّانِي: وهو أنَّهُ تَعالى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ وغَيْرُ حاصِلٍ في جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهَذا عِبارَةٌ عَنْ نَفْيِ كَوْنِهِ في الجِهَةِ؛ لِأنَّ كَوْنَ الذّاتِ المُعَيَّنَةِ حاصِلَةً لا في جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ في نَفْسِها قَوْلٌ مُحالٌ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُ مَن يَقُولُ: الأزَلُ لَيْسَ عِبارَةً عَنْ وقْتٍ مُعَيَّنٍ بَلْ إشارَةٌ إلى نَفْيِ الأوَّلِيَّةِ والحُدُوثِ، فَظَهَرَ أنَّ هَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ الهَيْثَمِ تَخْيِيلٌ خالٍ عَنِ التَّحْصِيلِ.
الحُجَّةُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ: أنَّهُ ثَبَتَ في العُلُومِ العَقْلِيَّةِ أنَّ المَكانَ: إمّا السَّطْحُ الباطِنُ مِنَ الجِسْمِ الحاوِي، وإمّا البُعْدُ المُجَرَّدُ والفَضاءُ المُمْتَدُّ، ولَيْسَ يُعْقَلُ في المَكانِ قِسْمٌ ثالِثٌ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنْ كانَ المَكانُ هو الأوَّلَ، فَنَقُولُ: ثَبَتَ أنَّ أجْسامَ العالَمِ مُتَناهِيَةٌ، فَخارِجُ العالَمِ الجُسْمانِيِّ لا خَلاءَ ولا مَلاءَ ولا مَكانَ ولا جِهَةَ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يَحْصُلَ الإلَهُ في مَكانٍ خارِجَ العالَمِ. وإنْ كانَ المَكانُ هو الثّانِيَ، فَنَقُولُ: طَبِيعَةُ البُعْدِ طَبِيعَةٌ واحِدَةٌ مُتَشابِهَةٌ في تَمامِ الماهِيَّةِ، فَلَوْ حَصَلَ الإلَهُ في حَيِّزٍ لَكانَ مُمْكِنَ الحُصُولِ في سائِرِ الأحْيازِ، وحِينَئِذٍ يَصِحُّ عَلَيْهِ الحَرَكَةُ والسُّكُونُ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ كانَ مُحْدَثًا (p-٩٢)بِالدَّلائِلِ المَشْهُورَةِ المَذْكُورَةِ في عِلْمِ الأُصُولِ، وهي مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ المُتَكَلِّمِينَ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ الإلَهِ مُحْدَثًا، وهو مُحالٌ. فَثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِأنَّهُ تَعالى حاصِلٌ في الحَيِّزِ والجِهَةِ قَوْلٌ باطِلٌ عَلى كُلِّ الِاعْتِباراتِ.
الحُجَّةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ: وهي حُجَّةٌ اسْتِقْرائِيَّةٌ اعْتِبارِيَّةٌ لَطِيفَةٌ جِدًّا، وهي أنّا رَأيْنا أنَّ الشَّيْءَ كُلَّما كانَ حُصُولُ مَعْنى الجِسْمِيَّةِ فِيهِ أقْوى وأثْبَتَ، كانَتِ القُوَّةُ الفاعِلِيَّةُ فِيهِ أضْعَفَ وأنْقَصَ، وكُلَّما كانَ حُصُولُ مَعْنى الجِسْمِيَّةِ فِيهِ أقَلَّ وأضْعَفَ، كانَ حُصُولُ القُوَّةِ الفاعِلِيَّةِ أقْوى وأكْمَلَ، وتَقْرِيرُهُ أنْ نَقُولَ: وجَدْنا الأرْضَ أكْثَفَ الأجْسامِ وأقْواها حَجْمِيَّةً، فَلا جَرَمَ لَمْ يَحْصُلْ فِيها إلّا خاصَّةَ قَبُولِ الأثَرِ فَقَطْ، فَأمّا أنْ يَكُونَ لِلْأرْضِ الخالِصَةِ تَأْثِيرٌ في غَيْرِهِ فَقَلِيلٌ جِدًّا. وأمّا الماءُ فَهو أقَلُّ كَثافَةً وحَجْمِيَّةً مِنَ الأرْضِ، فَلا جَرَمَ حَصَلَتْ فِيهِ قُوَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ، فَإنَّ الماءَ الجارِيَ بِطَبْعِهِ إذا اخْتَلَطَ بِالأرْضِ أثَّرَ فِيها أنْواعًا مِنَ التَّأْثِيراتِ. وأمّا الهَواءُ، فَإنَّهُ أقَلُّ حَجْمِيَّةً وكَثافَةً مِنَ الماءِ، فَلا جَرَمَ كانَ أقْوى عَلى التَّأْثِيرِ مِنَ الماءِ، فَلِذَلِكَ قالَ بَعْضُهم أنَّ الحَياةَ لا تَكْمُلُ إلّا بِالنَّفَسِ، وزَعَمُوا أنَّهُ لا مَعْنى لِلرُّوحِ إلّا الهَواءُ المُسْتَنْشَقُ. وأمّا النّارُ، فَإنَّها أقَلُّ كَثافَةً مِنَ الهَواءِ، فَلا جَرَمَ كانَتْ أقْوى الأجْسامِ العُنْصُرِيَّةِ عَلى التَّأْثِيرِ فَبِقُوَّةِ الحَرارَةِ يَحْصُلُ الطَّبْخُ والنُّضْجُ، وتَكُونُ المَوالِيدُ الثَّلاثَةُ أعْنِي المَعادِنَ والنَّباتَ والحَيَوانَ. وأمّا الأفْلاكُ، فَإنَّها ألْطَفُ مِنَ الأجْرامِ العُنْصُرِيَّةِ، فَلا جَرَمَ كانَتْ هي المُسْتَوْلِيَةَ عَلى مِزاجِ الأجْرامِ العُنْصُرِيَّةِ بَعْضِها البَعْضِ وتَوْلِيدِ الأنْواعِ والأصْنافِ المُخْتَلِفَةِ مِن تِلْكَ التَّمْزِيجاتِ.
فَهَذا الِاسْتِقْراءُ المُطَّرِدُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الشَّيْءَ كُلَّما كانَ أكْثَرَ حَجْمِيَّةً وجِرْمِيَّةً وجِسْمِيَّةً كانَ أقَلَّ قُوَّةً وتَأْثِيرًا، وكُلَّما كانَ أقْوى قُوَّةً وتَأْثِيرًا كانَ أقَلَّ حَجْمِيَّةً وجِرْمِيَّةً وجِسْمِيَّةً، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ أفادَ هَذا الِاسْتِقْراءُ ظَنًّا قَوِيًّا أنَّهُ حَيْثُ حَصَلَ كَمالُ القُوَّةِ والقُدْرَةِ عَلى الإحْداثِ والإبْداعِ لَمْ يَحْصُلْ هُناكَ البَتَّةَ مَعْنى الحَجْمِيَّةِ والجِرْمِيَّةِ والِاخْتِصاصِ بِالحَيِّزِ والجِهَةِ، وهَذا وإنْ كانَ بَحْثًا اسْتِقْرائِيًّا إلّا أنَّهُ عِنْدَ التَّأمُّلِ التّامِّ شَدِيدُ المُناسَبَةِ لِلْقَطْعِ بِكَوْنِهِ تَعالى مُنَزَّهًا عَنِ الجِسْمِيَّةِ والمَوْضِعِ والحَيِّزِ. وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الوُجُوهِ العَقْلِيَّةِ في بَيانِ كَوْنِهِ تَعالى مُنَزَّهًا عَنِ الِاخْتِصاصِ بِالحَيِّزِ والجِهَةِ.
* * *
أمّا الدَّلائِلُ السَّمْعِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ:
أوَّلُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخْلاصِ: ١] فَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أحَدًا، والأحَدُ مُبالَغَةٌ في كَوْنِهِ واحِدًا. والَّذِي يَمْتَلِئُ مِنهُ العَرْشُ ويَفْضُلُ عَنِ العَرْشِ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِن أجْزاءٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا فَوْقَ أجْزاءِ العَرْشِ، وذَلِكَ يُنافِي كَوْنَهُ أحَدًا. ورَأيْتُ جَماعَةً مِنَ الكَرّامِيَّةِ عِنْدَ هَذا الإلْزامِ يَقُولُونَ: إنَّهُ تَعالى ذاتٌ واحِدَةٌ، ومَعَ كَوْنِها واحِدَةً حَصَلَتْ في كُلِّ هَذِهِ الأحْيازِ دُفْعَةً واحِدَةً. قالُوا: فَلِأجْلِ أنَّهُ حَصَلَ دُفْعَةً واحِدَةً في جَمِيعِ الأحْيازِ امْتَلَأ العَرْشُ مِنهُ. فَقُلْتُ: حاصِلُ هَذا الكَلامِ يَرْجِعُ إلى أنَّهُ يَجُوزُ حُصُولُ الذّاتِ الشّاغِلَةِ لِلْحَيِّزِ والجِهَةِ في أحْيازٍ كَثِيرَةٍ دُفْعَةً واحِدَةً، والعُقَلاءُ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ العِلْمَ بِفَسادِ ذَلِكَ مِن أجَلِّ العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. وأيْضًا فَإنْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ فَلِمَ لا تُجَوِّزُونَ أنْ يُقالَ: إنَّ جَمِيعَ العالَمِ مِنَ العَرْشِ إلى ما تَحْتَ الثَّرى جَوْهَرٌ واحِدٌ ومَوْجُودٌ واحِدٌ إلّا أنَّ ذَلِكَ الجُزْءَ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ حَصَلَ في جُمْلَةِ هَذِهِ الأحْيازِ، فَيُظَنُّ أنَّها أشْياءُ كَثِيرَةٌ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن جَوَّزَهُ، فَقَدِ التَزَمَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ عَظِيمًا.
فَإنْ قالُوا: إنَّما عَرَفْنا هَهُنا حُصُولَ التَّغايُرِ بَيْنَ هَذِهِ الذَّواتِ لِأنَّ بَعْضَها يَفْنى مَعَ بَقاءِ الباقِي، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّغايُرَ، وأيْضًا فَنَرى بَعْضَها مُتَحَرِّكًا، وبَعْضَها ساكِنًا، والمُتَحَرِّكُ غَيْرُ السّاكِنِ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِالتَّغايُرِ، وهَذِهِ المَعانِي غَيْرُ حاصِلَةٍ في ذاتِ اللَّهِ، فَظَهَرَ الفَرْقُ. فَنَقُولُ: أمّا قَوْلُكَ بِأنّا نُشاهِدُ أنَّ هَذا الجُزْءَ يَبْقى مَعَ أنَّهُ (p-٩٣)يَفْنى ذَلِكَ الجُزْءُ الآخَرُ، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّغايُرَ. فَنَقُولُ: لا نُسَلِّمُ أنَّهُ فَنى شَيْءٌ مِنَ الأجْزاءِ بَلْ نَقُولُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ أنَّ جَمِيعَ أجْزاءِ العالَمِ جُزْءٌ واحِدٌ فَقَطْ ؟ ثُمَّ إنَّهُ حَصَلَ هَهُنا وهُناكَ، وأيْضًا حَصَلَ مَوْصُوفًا بِالسَّوادِ والبَياضِ وجَمِيعِ الألْوانِ والطُّعُومِ، فالَّذِي يَفْنى إنَّما هو حُصُولُهُ هُناكَ، فَأمّا أنْ يُقالَ إنَّهُ فَنى في نَفْسِهِ، فَهَذا غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وأمّا قَوْلُهُ: نَرى بَعْضَ الأجْسامِ مُتَحَرِّكًا وبَعْضَها ساكِنًا، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّغايُرَ؛ لِأنَّ الحَرَكَةَ والسُّكُونَ لا يَجْتَمِعانِ. فَنَقُولُ: إذا حَكَمْنا بِأنَّ الحَرَكَةَ والسُّكُونَ لا يَجْتَمِعانِ لِاعْتِقادِنا أنَّ الجِسْمَ الواحِدَ لا يَحْصُلُ دُفْعَةً واحِدَةً في حَيِّزَيْنِ، فَإذا رَأيْنا أنَّ السّاكِنَ بَقِيَ هُنا وأنَّ المُتَحَرِّكَ لَيْسَ هُنا، قَضَيْنا أنَّ المُتَحَرِّكَ غَيْرُ السّاكِنِ. وأمّا بِتَقْدِيرِ أنْ يَجُوزَ كَوْنُ الذّاتِ الواحِدَةِ حاصِلَةً في حَيِّزَيْنِ دُفْعَةً واحِدَةً، لَمْ يَمْتَنِعْ كَوْنُ الذّاتِ الواحِدَةِ مُتَحَرِّكَةً ساكِنَةً مَعًا؛ لِأنَّ أقْصى ما في البابِ أنَّ بِسَبَبِ السُّكُونِ بَقِيَ هُنا، وبِسَبَبِ الحَرَكَةِ حَصَلَ في الحَيِّزِ الآخَرِ، إلّا أنّا لَمّا جَوَّزْنا أنْ تَحْصُلَ الذّاتُ الواحِدَةُ دُفْعَةً واحِدَةً في حَيِّزَيْنِ مَعًا لَمْ يَبْعُدْ أنْ تَكُونَ الذّاتُ السّاكِنَةُ هي عَيْنَ الذّاتِ المُتَحَرِّكَةِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لَوْ جازَ أنْ يُقالَ أنَّهُ تَعالى في ذاتِهِ واحِدٌ لا يَقْبَلُ القِسْمَةَ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَمْتَلِئُ العَرْشُ مِنهُ، لَمْ يَبْعُدْ أيْضًا أنْ يُقالَ: العَرْشُ في نَفْسِهِ جَوْهَرٌ فَرْدٌ وجُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ، ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ في كُلِّ تِلْكَ الأحْيازِ، وحَصَلَ مِنهُ كُلُّ العَرْشِ، ومَعْلُومٌ أنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إلى فَتْحِ بابِ الجَهالاتِ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ﴾ [الحاقَّةِ: ١٧] فَلَوْ كانَ إلَهُ العالَمِ في العَرْشِ، لَكانَ حامِلُ العَرْشِ حامِلًا لِلْإلَهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الإلَهُ مَحْمُولًا حامِلًا، ومَحْفُوظًا حافِظًا، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى قالَ: (واللَّهُ الغَنِيُّ) [مُحَمَّدٍ: ٣٨] حَكَمَ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَلى الإطْلاقِ، وذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعالى غَنِيًّا عَنِ المَكانِ والجِهَةِ.
ورابِعُها: أنَّ فِرْعَوْنَ لَمّا طَلَبَ حَقِيقَةَ الإلَهِ تَعالى مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَمْ يَزِدْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ذِكْرِ صِفَةِ الخَلّاقِيَّةِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَإنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢٣] فَفي المَرَّةِ الأُولى قالَ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢٤]، وفي الثّانِيَةِ قالَ: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢٦]، وفي المَرَّةِ الثّالِثَةِ قالَ: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢٨] وكُلُّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى الخَلّاقِيَّةِ، وأمّا فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ فَإنَّهُ قالَ: ﴿ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ ﴿أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى﴾ [غافِرٍ: ٣٦، ٣٧] فَطَلَبَ الإلَهَ في السَّماءِ، فَعَلِمْنا أنَّ وصْفَ الإلَهِ بِالخَلّاقِيَّةِ، وعَدَمَ وصْفِهِ بِالمَكانِ والجِهَةِ دِينُ مُوسى وسائِرِ جَمِيعِ الأنْبِياءِ، وجَمِيعُ وصْفِهِ تَعالى بِكَوْنِهِ في السَّماءِ دِينُ فِرْعَوْنَ وإخْوانِهِ مِنَ الكَفَرَةِ.
وخامِسُها: أنَّهُ تَعالى قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ وكَلِمَةُ ”ثُمَّ“ لِلتَّراخِي، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما اسْتَوى عَلى العَرْشِ بَعْدَ تَخْلِيقِ السَّماواتِ والأرْضِ، فَإنْ كانَ المُرادُ مِنَ الِاسْتِواءِ الِاسْتِقْرارَ، لَزِمَ أنْ يُقالَ: أنَّهُ ما كانَ مُسْتَقِرًّا عَلى العَرْشِ، بَلْ كانَ مُعْوَجًّا مُضْطَرِبًا، ثُمَّ اسْتَوى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وذَلِكَ يُوجِبُ وصْفَهُ بِصِفاتِ سائِرِ الأجْسامِ مِنَ الِاضْطِرابِ والحَرَكَةِ تارَةً، والسُّكُونِ أُخْرى، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ.
وسادِسُها: هو أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ إنَّما طَعَنَ في إلَهِيَّةِ الكَوْكَبِ والقَمَرِ والشَّمْسِ بِكَوْنِها آفِلَةً غارِبَةً، فَلَوْ كانَ إلَهُ العالَمِ جِسْمًا، لَكانَ أبَدًا غارِبًا آفِلًا، وكانَ مُنْتَقِلًا مِنَ الِاضْطِرابِ والِاعْوِجاجِ إلى الِاسْتِواءِ والسُّكُونِ والِاسْتِقْرارِ، فَكُلُّ ما جَعَلَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ طَعْنًا في إلَهِيَّةِ الشَّمْسِ والكَوْكَبِ والقَمَرِ يَكُونُ حاصِلًا في إلَهِ العالَمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاعْتِرافُ بِإلَهِيَّتِهِ.
وسابِعُها: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ شَيْئًا وبَعْدَهُ شَيْئًا آخَرَ. أمّا الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذِهِ الكَلِمَةِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ (p-٩٤)وقَدْ بَيَّنّا أنَّ خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وأمّا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الكَلِمَةِ فَأشْياءُ:
أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ وذَلِكَ أحَدُ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى وُجُودِ اللَّهِ، وعَلى قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ.
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ﴾ وهو أيْضًا مِنَ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى الوُجُودِ والقُدْرَةِ والعِلْمِ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ وهو أيْضًا إشارَةٌ إلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: أوَّلُ الآيَةِ إشارَةٌ إلى ذِكْرِ ما يَدُلُّ عَلى الوُجُودِ والقُدْرَةِ والعِلْمِ، وآخِرُها يَدُلُّ أيْضًا عَلى هَذا المَطْلُوبِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ وجَبَ أنْ يَكُونَ أيْضًا دَلِيلًا عَلى كَمالِ القُدْرَةِ والعِلْمِ؛ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بَلْ كانَ المُرادُ كَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا عَلى العَرْشِ كانَ ذَلِكَ كَلامًا أجْنَبِيًّا عَمّا قَبْلَهُ وعَمّا بَعْدَهُ، فَإنَّ كَوْنَهُ تَعالى مُسْتَقِرًّا عَلى العَرْشِ لا يُمْكِنُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلى كَمالِهِ في القُدْرَةِ والحِكْمَةِ، ولَيْسَ أيْضًا مِن صِفاتِ المَدْحِ والثَّناءِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يُجْلِسَ جَمِيعَ أعْدادِ البَقِّ والبَعُوضِ عَلى العَرْشِ وعَلى ما فَوْقَ العَرْشِ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ جالِسًا عَلى العَرْشِ لَيْسَ مِن دَلائِلِ إثْباتِ الصِّفاتِ والذّاتِ ولا مِن صِفاتِ المَدْحِ والثَّناءِ، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ كَوْنَهُ جالِسًا عَلى العَرْشِ لَكانَ ذَلِكَ كَلامًا أجْنَبِيًّا عَمّا قَبْلَهُ وعَمّا بَعْدَهُ، وهَذا يُوجِبُ نِهايَةَ الرَّكاكَةِ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ مِنهُ لَيْسَ ذَلِكَ، بَلِ المُرادُ مِنهُ كَمالُ قُدْرَتِهِ في تَدابِيرِ المُلْكِ والمَلَكُوتِ حَتّى تَصِيرَ هَذِهِ الكَلِمَةُ مُناسِبَةً لِما قَبْلَها ولِما بَعْدَها وهو المَطْلُوبُ.
وثامِنُها: أنَّ السَّماءَ عِبارَةٌ عَنْ كُلِّ ما ارْتَفَعَ وسَما وعَلا، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى سَمّى السَّحابَ سَماءً حَيْثُ قالَ: ﴿ويُنَزِّلُ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ﴾ [الأنْفالِ: ١١] وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَكُلُّ ما لَهُ ارْتِفاعٌ وعُلُوٌّ وسُمُوٌّ كانَ سَماءً، فَلَوْ كانَ إلَهُ العالَمِ مَوْجُودًا فَوْقَ العَرْشِ، لَكانَ ذاتُ الإلَهِ تَعالى سَماءً لِساكِنِي العَرْشِ. فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ فَوْقَ العَرْشِ لَكانَ سَماءً، واللَّهُ تَعالى حَكَمَ بِكَوْنِهِ خالِقًا لِكُلِّ السَّماواتِ في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِنها هَذِهِ الآيَةُ وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ فَلَوْ كانَ فَوْقَ العَرْشِ سَماءً لِسُكّانِ أهْلِ العَرْشِ لَكانَ خالِقًا لِنَفْسِهِ وذَلِكَ مُحالٌ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ دالَّةٌ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ مِنَ المُتَشابِهاتِ الَّتِي يَجِبُ تَأْوِيلُها، وهَذِهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، ونَظِيرُ هَذا أنَّهُ تَعالى قالَ في أوَّلِ سُورَةِ الأنْعامِ: ﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ﴾ [الأنْعامِ: ٣] ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ: ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ [الأنْعامِ: ١٢] فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ المُتَأخِّرَةُ عَلى أنَّ كُلَّ ما في السَّماواتِ فَهو مِلْكٌ لِلَّهِ، فَلَوْ كانَ اللَّهُ في السَّماواتِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، وذَلِكَ مُحالٌ فَكَذا هَهُنا.
فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ والنَّقْلِيَّةِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ عَلى الجُلُوسِ والِاسْتِقْرارِ وشَغْلِ المَكانِ والحَيِّزِ، وعِنْدَ هَذا حَصَلَ لِلْعُلَماءِ الرّاسِخِينَ مَذْهَبانِ:
الأوَّلُ: أنْ نَقْطَعَ بِكَوْنِهِ تَعالى مُتَعالِيًا عَنِ المَكانِ والجِهَةِ ولا نَخُوضَ في تَأْوِيلِ الآيَةِ عَلى التَّفْصِيلِ، بَلْ نُفَوِّضُ عِلْمَها إلى اللَّهِ، وهو الَّذِي قَرَّرْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧] وهَذا المَذْهَبُ هو الَّذِي نَخْتارُهُ ونَقُولُ بِهِ ونَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنْ نَخُوضَ في تَأْوِيلِهِ عَلى التَّفْصِيلِ، وفِيهِ قَوْلانِ مُلَخَّصانِ:
الأوَّلُ: ما ذَكَرَهُ القَفّالُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فَقالَ: (العَرْشُ) في كَلامِهِمْ هو السَّرِيرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ المُلُوكُ، ثُمَّ جُعِلَ العَرْشُ كِنايَةً عَنْ (p-٩٥)نَفْسِ المَلِكِ، يُقالُ: ثُلَّ عَرْشُهُ أيِ انْتَفَضَ مُلْكُهُ وفَسَدَ. وإذا اسْتَقامَ لَهُ مُلْكُهُ واطَّرَدَ أمْرُهُ وحُكْمُهُ قالُوا: اسْتَوى عَلى عَرْشِهِ، واسْتَقَرَّ عَلى سَرِيرِ مُلْكِهِ، هَذا ما قالَهُ القَفّالُ. وأقُولُ: إنَّ الَّذِي قالَهُ حَقٌّ وصِدْقٌ وصَوابٌ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم لِلرَّجُلِ الطَّوِيلِ: فُلانٌ طَوِيلُ النِّجادِ، ولِلرَّجُلِ الَّذِي يُكْثِرُ الضِّيافَةَ: كَثِيرُ الرَّمادِ، ولِلرَّجُلِ الشَّيْخِ: فُلانٌ اشْتَعَلَ رَأْسُهُ شَيْبًا، ولَيْسَ المُرادُ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الألْفاظِ إجْراؤُها عَلى ظَواهِرِها، إنَّما المُرادُ مِنها تَعْرِيفُ المَقْصُودِ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ فَكَذا هَهُنا يَذْكُرُ الِاسْتِواءَ عَلى العَرْشِ، والمُرادُ نَفاذُ القُدْرَةِ وجَرَيانُ المَشِيئَةِ.
ثُمَّ قالَ القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى -: واللَّهُ تَعالى لَمّا دَلَّ عَلى ذاتِهِ وعَلى صِفاتِهِ وكَيْفِيَّةِ تَدْبِيرِهِ العالَمَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ألِفُوهُ مِن مُلُوكِهِمْ ورُؤَسائِهِمُ اسْتَقَرَّ في قُلُوبِهِمْ عَظَمَةُ اللَّهِ وكَمالُ جَلالِهِ، إلّا أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ، فَإذا قالَ: إنَّهُ عالِمٌ فَهِمُوا مِنهُ أنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْهِ تَعالى شَيْءٌ، ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ أنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ العِلْمُ بِفِكْرَةٍ ولا رَوِيَّةٍ ولا بِاسْتِعْمالِ حاسَّةٍ، وإذا قالَ: قادِرٌ عَلِمُوا مِنهُ أنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِن إيجادِ الكائِناتِ، وتَكْوِينِ المُمْكِناتِ، ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ أنَّهُ غَنِيٌّ في ذَلِكَ الإيجادِ والتَّكْوِينِ عَنِ الآلاتِ والأدَواتِ، وسَبَقَ المادَّةَ والمُدَّةَ والفِكْرَةَ والرَّوِيَّةَ، وهَكَذا القَوْلُ في كُلِّ صِفاتِهِ، وإذا أخْبَرَ أنَّ لَهُ بَيْتًا يَجِبُ عَلى عِبادِهِ حَجُّهُ فَهِمُوا مِنهُ أنَّهُ نَصَبَ لَهم مَوْضِعًا يَقْصِدُونَهُ لِمَسْألَةِ رَبِّهِمْ وطَلَبِ حَوائِجِهِمْ كَما يَقْصِدُونَ بُيُوتَ المُلُوكِ والرُّؤَساءِ لِهَذا المَطْلُوبِ، ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ نَفْيَ التَّشْبِيهِ، وأنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ البَيْتَ مَسْكَنًا لِنَفْسِهِ، ولَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ في دَفْعِ الحَرِّ والبَرْدِ بِعَيْنِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإذا أمَرَهم بِتَحْمِيدِهِ وتَمْجِيدِهِ فَهِمُوا مِنهُ أنَّهُ أمَرَهم بِنِهايَةِ تَعْظِيمِهِ، ثُمَّ عَلِمُوا بِعُقُولِهِمْ أنَّهُ لا يَفْرَحُ بِذَلِكَ التَّحْمِيدِ والتَّعْظِيمِ ولا يَغْتَمُّ بِتَرْكِهِ والإعْراضِ عَنْهُ.
إذا عَرَفْتَ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ كَما أرادَ وشاءَ مِن غَيْرِ مُنازِعٍ ولا مُدافِعٍ، ثُمَّ أخْبَرَ بَعْدَهُ أنَّهُ اسْتَوى عَلى العَرْشِ، أيْ حَصَلَ لَهُ تَدْبِيرُ المَخْلُوقاتِ عَلى ما شاءَ وأرادَ، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ أيْ بَعْدَ أنْ خَلَقَها اسْتَوى عَلى عَرْشِ المُلْكِ والجَلالِ. ثُمَّ قالَ القَفّالُ: والدَّلِيلُ عَلى أنَّ هَذا هو المُرادُ قَوْلُهُ في سُورَةِ يُونُسَ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ [يُونُسَ: ٣] فَقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ جَرى مَجْرى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: ﴿اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ وقالَ في هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ إشارَةٌ إلى ما ذَكَرْناهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَإذا حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ عَلى أنَّ المُرادَ: اسْتَوى عَلى المُلْكِ، وجَبَ أنْ يُقالَ: اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ.
قُلْنا: إنَّهُ تَعالى إنَّما كانَ قَبْلَ خَلْقِ العَوالِمِ قادِرًا عَلى تَخْلِيقِها وتَكْوِينِها، وما كانَ مُكَوِّنًا ولا مُوجِدًا لَها بِأعْيانِها بِالفِعْلِ؛ لِأنَّ إحْياءَ زَيْدٍ، وإماتَةَ عَمْرٍو، وإطْعامَ هَذا وإرْواءَ ذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ هَذِهِ الأحْوالِ، فَإذا فَسَّرْنا العَرْشَ بِالمُلْكِ والمُلْكَ بِهَذِهِ الأحْوالِ، صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى إنَّما اسْتَوى عَلى مُلْكِهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ بِمَعْنى أنَّهُ إنَّما ظَهَرَ تَصَرُّفُهُ في هَذِهِ الأشْياءِ وتَدْبِيرُهُ لَها بَعْدَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وهَذا جَوابُ حَقٍّ صَحِيحٍ في هَذا المَوْضِعِ.
(p-٩٦)والوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ أنْ يُقالَ: اسْتَوى بِمَعْنى اسْتَوْلى، وهَذا الوَجْهُ قَدْ أطَلْنا في شَرْحِهِ في سُورَةِ طه فَلا نُعِيدُهُ هُنا.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ نُفَسِّرَ العَرْشَ بِالمُلْكِ ونُفَسِّرَ اسْتَوى بِمَعْنى عَلا واسْتَعْلى عَلى المُلْكِ، فَيَكُونُ المَعْنى: أنَّهُ تَعالى اسْتَعْلى عَلى المُلْكِ بِمَعْنى أنَّ قُدْرَتَهُ نَفَذَتْ في تَرْتِيبِ المُلْكِ والمَلَكُوتِ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ في سُوَرٍ سَبْعٍ؛ إحْداها هَهُنا، وثانِيها في يُونُسَ، وثالِثُها في الرَّعْدِ، ورابِعُها في طه، وخامِسُها في الفُرْقانِ، وسادِسُها في السَّجْدَةِ، وسابِعُها في الحَدِيدِ، وقَدْ ذَكَرْنا في كُلِّ مَوْضِعٍ فَوائِدَ كَثِيرَةٍ، فَمَن ضَمَّ تِلْكَ الفَوائِدَ بَعْضَها إلى بَعْضٍ كَثُرَتْ وبَلَغَتْ مَبْلَغًا كَثِيرًا وافِيًا بِإزالَةِ شُبَهِ التَّشْبِيهِ عَنِ القَلْبِ والخاطِرِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٍ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ ”يُغْشِي“ بِتَخْفِيفِ الغَيْنِ وفي الرَّعْدِ هَكَذا، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وعاصِمٌ بِرِوايَةِ أبِي بَكْرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وفي الرَّعْدِ هَكَذا. قالَ الواحِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإغْشاءُ والتَّغْشِيَةُ إلْباسُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وقَدْ جاءَ التَّنْزِيلُ بِالتَّشْدِيدِ والتَّخْفِيفِ، فَمِنَ التَّشْدِيدِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَغَشّاها ما غَشّى﴾ [النَّجْمِ: ٥٤] ومِنَ اللُّغَةِ الثّانِيَةِ قَوْلُهُ: ﴿فَأغْشَيْناهم فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩] والمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ عَلى مَعْنى فَأغْشَيْناهُمُ العَمى وفَقْدَ الرُّؤْيَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ يُلْحِقُ اللَّيْلَ بِالنَّهارِ، وأنْ يَكُونَ المُرادُ النَّهارَ بِاللَّيْلِ، واللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُما مَعًا ولَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ، والدَّلِيلُ عَلى الثّانِي قِراءَةُ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ ”يَغْشى اللَّيْلَ النَّهارُ“ بِفَتْحِ الياءِ ونَصْبِ اللَّيْلِ ورَفْعِ النَّهارِ أيْ يُدْرِكُ النَّهارُ اللَّيْلَ ويَطْلُبُهُ. قالَ القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا أخْبَرَ عِبادَهُ بِاسْتِوائِهِ عَلى العَرْشِ عَنِ اسْتِمْرارِ أصْعَبِ المَخْلُوقاتِ عَلى وفْقِ مَشِيئَتِهِ، أراهم ذَلِكَ عِيانًا فِيما يُشاهِدُونَهُ مِنها لِيَضُمَّ العِيانُ إلى الخَبَرِ، وتَزُولَ الشُّبَهُ عَنْ كُلِّ الجِهاتِ، فَقالَ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ لِأنَّهُ تَعالى أخْبَرَ في هَذا الكِتابِ الكَرِيمِ بِما في تَعاقُبِ اللَّيْلِ والنَّهارِ مِنَ المَنافِعِ العَظِيمَةِ، والفَوائِدِ الجَلِيلَةِ، فَإنَّ بِتَعاقُبِهِما يَتِمُّ أمْرُ الحَياةِ، وتَكْمُلُ المَنفَعَةُ والمَصْلَحَةُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ قالَ اللَّيْثُ: الحَثُّ: الإعْجالُ، يُقالُ: حَثَثْتُ فُلانًا فاحْتَثَّ، فَهو حَثِيثٌ ومَحْثُوثٌ، أيُ مُجِدٌّ سَرِيعٌ.
واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وصَفَ هَذِهِ الحَرَكَةَ بِالسُّرْعَةِ والشِّدَّةِ، وذَلِكَ هو الحَقُّ؛ لِأنَّ تَعاقُبَ اللَّيْلِ والنَّهارِ إنَّما يَحْصُلُ بِحَرَكَةِ الفَلَكِ الأعْظَمِ، وتِلْكَ الحَرَكَةُ أشَدُّ الحَرَكاتِ سُرْعَةً، وأكْمَلُها شِدَّةً، حَتّى إنَّ الباحِثِينَ عَنْ أحْوالِ المَوْجُوداتِ قالُوا: الإنْسانُ إذا كانَ في العَدْوِ الشَّدِيدِ الكامِلِ، فَإلى أنْ يَرْفَعَ رِجْلَهُ ويَضَعَها يَتَحَرَّكُ الفَلَكُ الأعْظَمُ ثَلاثَةَ آلافِ مِيلٍ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَتْ تِلْكَ الحَرَكَةُ في غايَةِ الشِّدَّةِ والسُّرْعَةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] فَشَبَّهَ ذَلِكَ السَّيْرَ وتِلْكَ الحَرَكَةَ بِالسِّباحَةِ في الماءِ، والمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلى سُرْعَتِها وسُهُولَتِها وكَمالِ إيصالِها.
* * *
(p-٩٧)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ”والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ“ بِالرَّفْعِ عَلى مَعْنى الِابْتِداءِ والباقُونَ بِالنَّصْبِ عَلى مَعْنى وجَعَلَ الشَّمْسَ والقَمَرَ، قالَ الواحِدِيُّ: والنَّصْبُ هو الوَجْهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٧] فَكَما صَرَّحَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ سَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يُحْمَلَ عَلى أنَّهُ خَلَقَها في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ﴾ وهَذا النَّصْبُ عَلى الحالِ أيْ خَلَقَ هَذِهِ الأشْياءَ حالَ كَوْنِها مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفاتِ والآثارِ والأفْعالِ. وحُجَّةُ ابْنِ عامِرٍ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ ومِن جُمْلَةِ ما في السَّماءِ الشَّمْسُ والقَمَرُ، فَلَمّا أخْبَرَ أنَّهُ تَعالى سَخَّرَها حَسُنَ الإخْبارُ عَنْها بِأنَّها مُسَخَّرَةٌ كَما أنَّكَ إذا قُلْتَ ضَرَبْتُ زَيْدًا اسْتَقامَ أنْ تَقُولَ زَيْدٌ مَضْرُوبٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في هَذِهِ الآيَةِ لَطائِفُ:
فالأُولى: أنَّ الشَّمْسَ لَها نَوْعانِ مِنَ الحَرَكَةِ:
أحَدُ النَّوْعَيْنِ: حَرَكَتُها بِحَسَبِ ذاتِها وهي إنَّما تَتِمُّ في سَنَةٍ كامِلَةٍ، وبِسَبَبِ هَذِهِ الحَرَكَةِ تَحْصُلُ السَّنَةُ.
والنَّوْعُ الثّانِي: حَرَكَتُها بِسَبَبِ حَرَكَةِ الفَلَكِ الأعْظَمِ وهَذِهِ الحَرَكَةُ تَتِمُّ في اليَوْمِ بِلَيْلَةٍ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اللَّيْلُ والنَّهارُ لا يَحْصُلُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ وإنَّما يَحْصُلُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ السَّماءِ الأقْصى الَّتِي يُقالُ لَها العَرْشُ، فَلِهَذا السَّبَبِ لَمّا ذَكَرَ العَرْشَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ رَبَطَ بِهِ قَوْلَهُ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ سَبَبَ حُصُولِ اللَّيْلِ والنَّهارِ هو حَرَكَةُ الفَلَكِ الأقْصى لا حَرَكَةَ الشَّمْسِ والقَمَرِ وهَذِهِ دَقِيقَةٌ عَجِيبَةٌ.
والثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ كَيْفِيَّةَ تَخْلِيقِ السَّماواتِ. قالَ: ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها﴾ [فُصِّلَتْ: ١٢] فَدَلَّتْ تِلْكَ الآيَةُ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ خَصَّ كُلَّ ذَلِكَ بِلَطِيفَةٍ نُورانِيَّةٍ رَبّانِيَّةٍ مِن عالِمِ الأمْرِ.
ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ وهو إشارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ ما سِوى اللَّهِ تَعالى إمّا مِن عالَمِ الخَلْقِ أوْ مِن عالَمِ الأمْرِ، أمّا الَّذِي هو مِن عالَمِ الخَلْقِ، فالخَلْقُ عِبارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وكُلُّ ما كانَ جِسْمًا أوْ جُسْمانِيًّا كانَ مَخْصُوصًا بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ، فَكانَ مِن عالَمِ الخَلْقِ، وكُلُّ ما كانَ بَرِيئًا عَنِ الحَجْمِيَّةِ والمِقْدارِ كانَ مِن عالَمِ الأرْواحِ ومِن عالَمِ الأمْرِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ خَصَّ كُلُّ واحِدٍ مِن أجْرامِ الأفْلاكِ والكَواكِبِ الَّتِي هي مِن عالَمِ الخَلْقِ بِمَلَكٍ مِنَ المَلائِكَةِ، وهم مِن عالَمِ الأمْرِ. والأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُطابِقَةٌ لِذَلِكَ، وهي ما رُوِيَ في الأخْبارِ أنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يُحَرِّكُونَ الشَّمْسَ والقَمَرَ عِنْدَ الطُّلُوعِ وعِنْدَ الغُرُوبِ، وكَذا القَوْلُ في سائِرِ الكَواكِبِ. وأيْضًا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ﴾ [الحاقَّةِ: ١٧] إشارَةٌ إلى أنَّ المَلائِكَةَ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحِفْظِ العَرْشِ ثَمانِيَةٌ، ثُمَّ إذا دَقَّقْتَ النَّظَرَ عَلِمْتَ أنَّ عالَمَ الخَلْقِ في تَسْخِيرِ اللَّهِ وعالَمَ الأمْرِ في تَدْبِيرِ اللَّهِ واسْتِيلاءَ الرُّوحانِيّاتِ عَلى الجُسْمانِيّاتِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ .
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَ یَطۡلُبُهُۥ حَثِیثࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَ ٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦۤۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











