الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ وكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ﴾ ﴿لَهم مِن جَهَنَّمَ مِهادٌ ومِن فَوْقِهِمْ غَواشٍ وكَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ . (p-٦٣)اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ إتْمامُ الكَلامِ في وعِيدِ الكُفّارِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾، ثُمَّ شَرَحَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الخُلُودِ في حَقِّ أُولَئِكَ المُكَذِّبِينَ المُسْتَكْبِرِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ أيْ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى المَسائِلِ الَّتِي هي أُصُولُ الدِّينِ، فالدَّهْرِيَّةُ يُنْكِرُونَ دَلائِلَ إثْباتِ الذّاتِ والصِّفاتِ، والمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ، ومُنْكِرُو النُّبُوّاتِ يُكَذِّبُونَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى صِحَّةِ النُّبُوّاتِ، ومُنْكِرُو نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ يُنْكِرُونَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، ومُنْكِرُو المَعادِ يُنْكِرُونَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى صِحَّةِ المَعادِ، فَقَوْلُهُ: ﴿كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ يَتَناوَلُ الكُلَّ، ومَعْنى الِاسْتِكْبارِ طَلَبُ التَّرَفُّعِ بِالباطِلِ، وهَذا اللَّفْظُ في حَقِّ البَشَرِ يَدُلُّ عَلى الذَّمِّ، قالَ تَعالى في صِفَةِ فِرْعَوْنَ: ﴿واسْتَكْبَرَ هو وجُنُودُهُ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو عَمْرٍو (لا تُفْتَحُ) بِالتّاءِ خَفِيفَةً، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِالياءِ خَفِيفَةً، والباقُونَ بِالتّاءِ مُشَدَّدَةً. أمّا القِراءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فَوَجْهُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنْعامِ: ٤٤]، ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ﴾ [القَمَرِ: ١١] وأمّا قِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ فَوَجْهُها أنَّ الفِعْلَ مُتَقَدِّمٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ﴾ أقْوالٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ لا تُفَتَّحُ لِأعْمالِهِمْ ولا لِدُعائِهِمْ ولا لِشَيْءٍ مِمّا يُرِيدُونَ بِهِ طاعَةَ اللَّهِ، وهَذا التَّأْوِيلُ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطِرٍ: ١٠] ومِن قَوْلِهِ: ﴿كَلّا إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيِّينَ﴾ [المُطَفِّفِينَ: ١٨] وقالَ السُّدِّيُّ وغَيْرُهُ: لا تُفَتَّحُ لِأرْواحِهِمْ أبْوابُ السَّماءِ وتُفَتَّحُ لِأرْواحِ المُؤْمِنِينَ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ ما رُوِيَ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «أنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ يُعْرَجُ بِها إلى السَّماءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَها، فَيُقالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي كانَتْ في الجَسَدِ الطَّيِّبِ، ويُقالُ لَها ذَلِكَ حَتّى تَنْتَهِيَ إلى السَّماءِ السّابِعَةِ، ويُسْتَفْتَحُ لِرُوحِ الكافِرِ فَيُقالُ لَها: ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإنَّهُ لا تُفْتَحُ لَكِ أبْوابُ السَّماءِ» . والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ الجَنَّةَ في السَّماءِ فالمَعْنى: لا يُؤْذَنُ لَهم في الصُّعُودِ إلى السَّماءِ. ولا تَطَرُّقَ لَهم إلَيْها لِيَدْخُلُوا الجَنَّةَ. والقَوْلُ الرّابِعُ: لا تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ البِرْكَةُ والخَيْرُ، وهو مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ [القَمَرِ: ١١] وأقُولُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأرْواحَ إنَّما تَكُونُ سَعِيدَةً؛ إمّا بِأنْ يَنْزِلَ عَلَيْها مِنَ السَّماءِ أنْواعُ الخَيْراتِ، وإمّا بِأنْ يَصْعَدَ أعْمالُ تِلْكَ الأرْواحِ إلى السَّماواتِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ السَّماواتِ مَوْضِعُ بَهْجَةِ الأرْواحِ وأماكِنُ سَعادَتِها، ومِنها تَنْزِلُ الخَيْراتُ والبَرَكاتُ، وإلَيْها تَصْعَدُ الأرْواحُ حالَ فَوْزِها بِكَمالِ السَّعاداتِ، ولَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ: ﴿لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ﴾ مِن أعْظَمِ أنْواعِ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ”الوُلُوجُ“ الدُّخُولُ. والجَمَلُ مَشْهُورٌ، و”السَّمُّ“ بِفَتْحِ السِّينِ وضَمِّها ثُقْبُ الإبْرَةِ، قَرَأ ابْنُ سِيرِينَ (سُمِّ) بِالضَّمِّ، وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: يُرْوى (سَمِّ) بِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ، وكُلُّ ثُقْبٍ في البَدَنِ لَطِيفٌ فَهو سَمٌّ وجَمْعُهُ سُمُومٌ، ومِنهُ قِيلَ: السُّمُّ القاتِلُ. لِأنَّهُ يَنْفُذُ بِلُطْفِهِ في مَسامِّ البَدَنِ حَتّى يَصِلَ إلى (p-٦٤)القَلْبِ، و(الخِياطِ) ما يُخاطُ بِهِ. قالَ الفَرّاءُ: ويُقالُ: خِياطٌ ومِخْيَطٌ، كَما يُقالُ: إزارٌ ومِئْزَرٌ، ولِحافٌ ومِلْحَفٌ، وقِناعٌ ومِقْنَعٌ، وإنَّما خُصَّ الجَمَلُ مِن بَيْنِ سائِرِ الحَيَواناتِ؛ لِأنَّهُ أكْبَرُ الحَيَواناتِ جِسْمًا عِنْدَ العَرَبِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎جِسْمُ الجِمالِ وأحْلامُ العَصافِيرِ فَجِسْمُ الجَمَلِ أعْظَمُ الأجْسامِ، وثُقْبُ الإبْرَةِ أضْيَقُ المَنافِذِ، فَكانَ وُلُوجُ الجَمَلِ في تِلْكَ الثُّقْبَةِ الضَّيِّقَةِ مُحالًا، فَلَمّا وقَفَ اللَّهُ تَعالى دُخُولَهُمُ الجَنَّةَ عَلى حُصُولِ هَذا الشَّرْطِ، وكانَ هَذا شَرْطًا مُحالًا، وثَبَتَ في العُقُولِ أنَّ المَوْقُوفَ عَلى المُحالِ مُحالٌ، وجَبَ أنْ يَكُونَ دُخُولُهُمُ الجَنَّةَ مَأْيُوسًا مِنهُ قَطْعًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ (الجُمَّلُ) بِوَزْنِ القُمَّلِ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (الجُمَلُ) بِوَزْنِ النُّغَرِ. وقُرِئَ (الجُمْلُ) بِوَزْنِ القُفْلِ، و(الجُمُلُ) بِوَزْنِ النُّصُبِ، و(الجَمْلُ) بِوَزْنِ الحَبْلِ، ومَعْناها: القَلْسُ الغَلِيظُ؛ لِأنَّهُ حِبالٌ جُمِعَتْ وجُعِلَتْ جُمْلَةً واحِدَةً، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ اللَّهَ تَعالى أحْسَنُ تَشْبِيهًا مِن أنْ يُشَبِّهَ بِالجَمَلِ. يَعْنِي: أنَّ الحَبْلَ مُناسِبٌ لِلْخَيْطِ الَّذِي يَسْلُكُ في سَمِّ الإبْرَةِ، والبَعِيرُ لا يُناسِبُهُ. إلّا أنّا ذَكَرْنا الفائِدَةَ فِيهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: القائِلُونَ بِالتَّناسُخِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: إنِ الأرْواحَ الَّتِي كانَتْ في أجْسادِ البَشَرِ لَمّا عَصَتْ وأذْنَبَتْ، فَإنَّها بَعْدَ مَوْتِ الأبْدانِ تُرَدُّ مِن بَدَنٍ إلى بَدَنٍ، ولا تَزالُ تَبْقى في التَّعْذِيبِ حَتّى أنَّها تَنْتَقِلُ مِن بَدَنِ الجَمَلِ إلى بَدَنِ الدُّودَةِ الَّتِي تَنْفُذُ في سَمِّ الخِياطِ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ مُطَهَّرَةً عَنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ والمَعاصِي، وحِينَئِذٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ وتَصِلُ إلى السَّعادَةِ. واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ بِالتَّناسُخِ باطِلٌ وهَذا الِاسْتِدْلالُ ضَعِيفٌ. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ﴾ أيْ: ومِثْلُ هَذا الَّذِي وصَفْنا نَجْزِي المُجْرِمِينَ، والمُجْرِمُونَ -واللَّهُ أعْلَمُ- هَهُنا هُمُ الكافِرُونَ؛ لِأنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن صِفَتِهِمْ هو التَّكْذِيبُ بِآياتِ اللَّهِ، والِاسْتِكْبارُ عَنْها. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ مِن حالِهِمْ أنَّهم لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ البَتَّةَ بَيَّنَ أيْضًا أنَّهم يَدْخُلُونَ النّارَ، فَقالَ: ﴿لَهم مِن جَهَنَّمَ مِهادٌ ومِن فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: ”المِهادُ“ جَمْعُ مَهْدٍ، وهو الفِراشُ. قالَ الأزْهَرِيُّ: أصْلُ المَهْدِ في اللُّغَةِ الفَرْشُ، يُقالُ لِلْفِراشِ مِهادٌ لِمُواتاتِهِ، والغَواشِي جُمَعُ غاشِيَةٍ، وهي كُلُّ ما يَغْشاكَ، أيْ: يُجَلِّلُكَ، وجَهَنَّمُ لا تَنْصَرِفُ لِاجْتِماعِ التَّأْنِيثِ فِيها والتَّعْرِيفِ، وقِيلَ اشْتِقاقُها مِنَ الجَهْمَةِ وهي الغِلَظُ، يُقالُ: رَجُلٌ جَهْمُ الوَجْهِ غَلِيظُهُ، وسُمِّيَتْ بِهَذا لِغِلَظِ أمْرِها في العَذابِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ الإخْبارُ عَنْ إحاطَةِ النّارِ بِهِمْ مِن كُلِّ جانِبٍ، فَلَهم مِنها غِطاءٌ ووِطاءٌ، وفِراشٌ ولِحافٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ غَواشٍ، عَلى وزْنِ فَواعِلَ، فَيَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ، فَكَيْفَ دَخَلَهُ التَّنْوِينُ ؟ وجَوابُهُ عَلى مَذْهَبِ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ أنَّ هَذا جَمْعٌ، والجَمْعُ أثْقَلُ مِنَ الواحِدِ، وهو أيْضًا الجَمْعُ الأكْبَرُ الَّذِي تَتَناهى الجُمُوعُ إلَيْهِ، فَزادَهُ ذَلِكَ ثِقَلًا، ثُمَّ وقَعَتِ الياءُ في آخِرِهِ وهي ثَقِيلَةٌ، فَلَمّا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الأشْياءُ خَفَّفُوها بِحَذْفِ يائِهِ، فَلَمّا حُذِفَتِ الياءُ نَقَصَ عَنْ مِثالِ فَواعِلَ، وصارَ غَواشٍ بِوَزْنِ جَناحٍ، فَدَخَلَهُ (p-٦٥)التَّنْوِينُ لِنُقْصانِهِ عَنْ هَذا المِثالِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ الَّذِينَ أشْرَكُوا بِاللَّهِ واتَّخَذُوا مِن دُونِهِ إلَهًا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فالظّالِمُونَ هَهُنا هُمُ الكافِرُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب