الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنالُهم نَصِيبُهم مِنَ الكِتابِ حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهم قالُوا أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا وشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ﴾ يَرْجِعُ إلى قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها﴾ وقَوْلِهِ: (فَمَن أظْلَمُ) أيْ: فَمَن أعْظَمُ ظُلْمًا مِمَّنْ يَقُولُ عَلى اللَّهِ ما لَمْ يَقُلْهُ أوْ كَذَّبَ ما قالَهُ. والأوَّلُ: هو الحُكْمُ بِوُجُودِ ما لَمْ يُوجَدْ. والثّانِي: هو الحُكْمُ بِإنْكارِ ما وُجِدَ. والأوَّلُ: دَخَلَ فِيهِ قَوْلُ مَن أثْبَتَ الشَّرِيكَ لِلَّهِ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ الشَّرِيكُ عِبارَةً عَنِ الأصْنامِ أوْ عَنِ الكَواكِبِ، أوْ عَنْ مَذْهَبِ القائِلِينَ بِيَزْدانُ وأهْرَمَنُ. ويَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ مَن أثْبَتَ البَناتَ والبَنِينَ لِلَّهِ تَعالى، ويَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ مَن أضافَ الأحْكامَ الباطِلَةَ إلى اللَّهِ تَعالى. والثّانِي: يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ مَن أنْكَرَ كَوْنَ القُرْآنِ كِتابًا نازِلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، وقَوْلُ مَن أنْكَرَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ . (p-٥٩)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يَنالُهم نَصِيبُهم مِنَ الكِتابِ﴾ واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِذَلِكَ النَّصِيبِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ مِنهُ العَذابُ، والمَعْنى يَنالُهم ذَلِكَ العَذابُ المُعَيَّنُ الَّذِي جَعَلَهُ نَصِيبًا لَهم في الكِتابِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ العَذابِ المُعَيَّنِ، فَقالَ بَعْضُهم: هو سَوادُ الوَجْهِ وزُرْقَةُ العَيْنِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿ويَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠] وقالَ الزَّجّاجُ: هو المَذْكُورُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأنْذَرْتُكم نارًا تَلَظّى﴾ [اللَّيْلِ: ١٤] وفي قَوْلِهِ: ﴿يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا﴾ [الجِنِّ: ١٧] وفي قَوْلِهِ: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ﴾ [غافِرٍ: ٧١] فَهَذِهِ الأشْياءُ هي نَصِيبُهم مِنَ الكِتابِ عَلى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ في كُفْرِهِمْ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذا النَّصِيبِ شَيْءٌ سِوى العَذابِ، واخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى يَجِبُ لَهم عَلَيْنا إذا كانُوا أهْلَ ذِمَّةٍ لَنا أنْ لا نَتَعَدّى عَلَيْهِمْ وأنْ نُنْصِفَهم وأنْ نَذُبَّ عَنْهم، فَذَلِكَ هو مَعْنى النَّصِيبِ مِنَ الكِتابِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُولَئِكَ يَنالُهم نَصِيبُهم مِنَ الكِتابِ. أيْ: ما سَبَقَ لَهم في حُكْمِ اللَّهِ وفي مَشِيئَتِهِ مِنَ الشَّقاوَةِ والسَّعادَةِ، فَإنْ قَضى اللَّهُ لَهم بِالخَتْمِ عَلى الشَّقاوَةِ، أبْقاهم عَلى كُفْرِهِمْ، وإنْ قَضى لَهم بِالخَتْمِ عَلى السَّعادَةِ نَقَلَهم إلى الإيمانِ والتَّوْحِيدِ. وقالَ الرَّبِيعُ وابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي ما كَتَبَ لَهم مِنَ الأرْزاقِ والأعْمالِ والأعْمارِ، فَإذا فَنِيَتْ وانْقَرَضَتْ وفَرَغُوا مِنها ﴿جاءَتْهم رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاخْتِلافَ إنَّما حَصَلَ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿أُولَئِكَ يَنالُهم نَصِيبُهم مِنَ الكِتابِ﴾ ولَفْظُ ”النَّصِيبِ“ مُجْمَلٌ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: حَمْلُهُ عَلى العُمُرِ والرِّزْقِ أوْلى؛ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهم وإنْ بَلَغُوا في الكُفْرِ ذَلِكَ المَبْلَغَ العَظِيمَ، إلّا أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمانِعٍ مِن أنْ يَنالَهم ما كُتِبَ لَهم مِن رِزْقٍ وعُمُرٍ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، لِكَيْ يُصْلِحُوا ويَتُوبُوا، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ لِلتَّوَفِّي كالغايَةِ لِحُصُولِ ذَلِكَ النَّصِيبِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حُصُولُ ذَلِكَ النَّصِيبِ مُتَقَدِّمًا عَلى حُصُولِ الوَفاةِ، والمُتَقَدِّمُ عَلى حُصُولِ الوَفاةِ لَيْسَ إلّا العُمُرَ والرِّزْقَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهم قالُوا أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: لا يَجُوزُ إمالَةُ ”حَتّى“ و”ألّا“ و”أمّا“ وهَذِهِ ألِفاتٌ أُلْزِمَتِ الفَتْحَ؛ لِأنَّها أواخِرُ حُرُوفٍ جاءَتْ لِمَعانٍ، يُفْصَلُ بَيْنَها وبَيْنَ أواخِرِ الأسْماءِ الَّتِي فِيها الألِفُ، نَحْوَ: حُبْلى وهُدًى. إلّا أنَّ ”حَتّى“ كُتِبَتْ بِالياءِ لِأنَّها عَلى أرْبَعَةِ أحْرُفٍ فَأشْبَهَتْ سَكْرى. وقالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لا يَجُوزُ إمالَةُ ”حَتّى“ لِأنَّها حَرْفٌ لا يَتَصَرَّفُ، والإمالَةُ ضَرْبٌ مِنَ التَّصَرُّفِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: المُرادُ هو قَبْضُ الأرْواحِ؛ لِأنَّ لَفْظَ الوَفاةِ يُفِيدُ هَذا المَعْنى. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَوْتُ قِيامَةُ الكافِرِ، فالمَلائِكَةُ يُطالِبُونَهم بِهَذِهِ الأشْياءِ عِنْدَ المَوْتِ عَلى سَبِيلِ الزَّجْرِ والتَّوْبِيخِ والتَّهْدِيدِ، وهَؤُلاءِ الرُّسُلُ هم مَلَكُ المَوْتِ وأعْوانُهُ. والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ الحَسَنِ، وأحَدُ قَوْلَيِ الزَّجّاجِ أنَّ هَذا لا يَكُونُ في الآخِرَةِ ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا﴾ أيْ: مَلائِكَةُ العَذابِ (يَتَوَفَّوْنَهم) أيْ: يَتَوَفَّوْنَ مُدَّتَهم عِنْدَ حَشْرِهِمْ إلى النّارِ عَلى مَعْنى أنَّهم يَسْتَكْمِلُونَ عِدَّتَهم، حَتّى لا يَنْفَلِتَ مِنهم أحَدٌ. (p-٦٠)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ مَعْناهُ: أيْنَ الشُّرَكاءُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَدْعُونَهم وتَعْبُدُونَهم مِن دُونِ اللَّهِ. ولَفْظَةُ ”ما“ وقَعَتْ مَوْصُولَةً بِأيْنَ في خَطِّ المُصْحَفِ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وكانَ حَقُّها أنْ تُفْصَلَ؛ لِأنَّها مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى: أيْنَ الآلِهَةُ الَّذِينَ تَدْعُونَ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿ضَلُّوا عَنّا﴾ أيْ بَطَلُوا وذَهَبُوا وشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ عِنْدَ مُعايَنَةِ المَوْتِ. واعْلَمْ أنَّ عَلى جَمِيعِ الوُجُوهِ، فالمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ زَجْرُ الكُفّارِ عَنِ الكُفْرِ؛ لِأنَّ التَّهْوِيلَ بِذِكْرِ هَذِهِ الأحْوالِ مِمّا يَحْمِلُ العاقِلَ عَلى المُبالَغَةِ في النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ والتَّسَدُّدِ في الِاحْتِرازِ عَنِ التَّقْلِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب