الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ فِي الآيَةِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: أسْكَنَ حَمْزَةُ الياءَ مِن (رَبِّيَ) والباقُونَ فَتَحُوها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّ الَّذِي حَرَّمُوهُ لَيْسَ بِحَرامٍ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنْواعَ المُحَرَّماتِ، فَحَرَّمَ أوَّلًا الفَواحِشَ، وثانِيًا الإثْمَ، واخْتَلَفُوا في الفَرْقِ بَيْنَهُما عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: إنَّ الفَواحِشَ عِبارَةٌ عَنِ الكَبائِرِ؛ لِأنَّهُ قَدْ تَفاحَشَ قُبْحُها أيْ تَزايَدَ، والإثْمُ عِبارَةٌ عَنِ الصَّغائِرِ، فَكانَ مَعْنى الآيَةِ: أنَّهُ حَرَّمَ الكَبائِرَ والصَّغائِرَ، وطَعَنَ القاضِي فِيهِ، فَقالَ: هَذا يَقْتَضِي أنْ يُقالَ: الزِّنا، والسَّرِقَةُ، والكُفْرُ لَيْسَ بِإثْمٍ. وهو بَعِيدٌ. القَوْلُ الثّانِي: إنَّ الفاحِشَةَ اسْمٌ لا يَجِبُ فِيهِ الحَدُّ، والإثْمَ اسْمٌ لِما يَجِبُ فِيهِ الحَدُّ، وهَذا وإنْ كانَ مُغايِرًا لِلْأوَّلِ إلّا أنَّهُ قَرِيبٌ مِنهُ، والسُّؤالُ فِيهِ ما تَقَدَّمَ. والقَوْلُ الثّالِثُ: إنَّ الفاحِشَةَ اسْمٌ لِلْكَبِيرَةِ، والإثْمُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الذَّنْبِ سَواءٌ كانَ كَبِيرًا أوْ صَغِيرًا، والفائِدَةُ فِيهِ: أنَّهُ تَعالى لَمّا حَرَّمَ الكَبِيرَةَ أرْدَفَها بِتَحْرِيمِ مُطْلَقِ الذَّنْبِ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُودٌ عَلى الكَبِيرَةِ، وعَلى هَذا القَوْلِ اخْتِيارُ القاضِي. والقَوْلُ الرّابِعُ: إنَّ الفاحِشَةَ وإنْ كانَتْ بِحَسَبِ أصْلِ اللُّغَةِ اسْمًا لِكُلِّ ما تَفاحَشَ وتَزايَدَ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، إلّا أنَّهُ في العُرْفِ مَخْصُوصٌ بِالزِّيادَةِ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى قالَ في الزِّنا: ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ (النِّساءِ: ٢٢) ولِأنَّ لَفْظَ الفاحِشَةِ إذا أُطْلِقَ لَمْ يُفْهَمْ مِنهُ إلّا ذَلِكَ، وإذا قِيلَ: فُلانٌ فَحّاشٌ، فُهِمَ أنَّهُ يَشْتُمُ النّاسَ بِألْفاظِ الوِقاعِ، فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الفاحِشَةِ عَلى الزِّنا فَقَطْ. (p-٥٥)إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: في قَوْلِهِ: ﴿ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ وجْهانِ: الأوَّلُ: يُرِيدُ سِرَّ الزِّنا، وهو الَّذِي يَقَعُ عَلى سَبِيلِ العِشْقِ والمَحَبَّةِ، وما ظَهَرَ مِنها بِأنْ يَقَعَ عَلانِيَةً. والثّانِي: أنْ يُرادَ بِما ظَهَرَ مِنَ الزِّنا المُلامَسَةُ والمُعانَقَةُ (وما بَطَنَ) الدُّخُولُ. وأمّا الإثْمُ فَيَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالخَمْرِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ في صِفَةِ الخَمْرِ: ﴿وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ (البَقَرَةِ: ٢١٩) وبِهَذا التَّقْدِيرِ فَإنَّهُ يَظْهَرُ الفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. النَّوْعُ الثّالِثُ مِنَ المُحَرَّماتِ: قَوْلُهُ: ﴿والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ فَنَقُولُ: أمّا الَّذِينَ قالُوا: المُرادُ بِالفَواحِشِ جَمِيعُ الكَبائِرِ، وبِالإثْمِ جَمِيعُ الذُّنُوبِ. قالُوا: إنَّ البَغْيَ والشِّرْكَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونا داخِلَيْنِ تَحْتَ الفَواحِشِ وتَحْتَ الإثْمِ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى خَصَّهُما بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُما أقْبَحُ أنْواعِ الذُّنُوبِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ (البَقَرَةِ: ٩٨) وفي قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ﴾ (الأحْزابِ: ٧)، وأمّا الَّذِينَ قالُوا: الفاحِشَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالزِّنا، والإثْمُ بِالخَمْرِ، قالُوا: البَغْيُ والشِّرْكُ عَلى هَذا التَّقْرِيرِ غَيْرُ داخِلَيْنِ تَحْتَ الفَواحِشِ والإثْمِ. فَنَقُولُ: البَغْيُ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا في الإقْدامِ عَلى الغَيْرِ نَفْسًا، أوْ مالًا، أوْ عِرْضًا، وأيْضًا قَدْ يُرادُ بِالبَغْيِ الخُرُوجُ عَلى سُلْطانِ الوَقْتِ. فَإنْ قِيلَ: البَغْيُ لا يَكُونُ إلّا بِغَيْرِ الحَقِّ، فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِ هَذا الشَّرْطِ ؟ قُلْنا: إنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ (الأنْعامِ: ١٥١) والمَعْنى: لا تُقْدِمُوا عَلى إيذاءِ النّاسِ بِالقَتْلِ والقَهْرِ، إلّا أنْ يَكُونَ لَكم فِيهِ حَقٌّ، فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِن أنْ يَكُونَ بَغْيًا. والنَّوْعُ الرّابِعُ مِنَ المُحَرَّماتِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ وفِيهِ سُؤالٌ: وهو أنَّ هَذا يُوهِمُ أنَّ في الشِّرْكِ بِاللَّهِ ما قَدْ أنْزَلَ بِهِ سُلْطانًا، وجَوابُهُ: المُرادُ مِنهُ أنَّ الإقْرارَ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ عَلى ثُبُوتِهِ حُجَّةٌ، ولا سُلْطانٌ مُمْتَنِعٌ، فَلَمّا امْتَنَعَ حُصُولُ الحُجَّةِ والتَّنْبِيهِ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِالشِّرْكِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ القَوْلُ بِهِ باطِلًا عَلى الإطْلاقِ، وهَذِهِ الآيَةُ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى أنَّ القَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ باطِلٌ. والنَّوْعُ الخامِسُ مِنَ المُحَرَّماتِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وبَقِيَ في الآيَةِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: كَلِمَةُ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ﴾ كَذا وكَذا يُفِيدُ الحَصْرَ، والمُحَرَّماتُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ في هَذِهِ الأشْياءِ. والجَوابُ: إنْ قُلْنا: الفاحِشَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى مُطْلَقِ الكَبائِرِ، والإثْمُ عَلى مُطْلَقِ الذَّنْبِ دَخَلَ كُلُّ الذُّنُوبِ فِيهِ، وإنْ حَمْلَنا الفاحِشَةَ عَلى الزِّنا، والإثْمَ عَلى الخَمْرِ. قُلْنا: الجِناياتُ مَحْصُورَةٌ في خَمْسَةِ أنْواعٍ: أحَدُها: الجِناياتُ عَلى الأنْسابِ، وهي إنَّما تَحْصُلُ بِالزِّنا، وهي المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ﴾ . وثانِيها: الجِناياتُ عَلى العُقُولِ، وهي شُرْبُ الخَمْرِ، وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: (والإثْمَ) . وثالِثُها: الجِناياتُ عَلى الأعْراضِ. ورابِعُها: الجِناياتُ عَلى النُّفُوسِ وعَلى الأمْوالِ، وإلَيْهِما الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ . وخامِسُها: الجِناياتُ عَلى الأدْيانِ، وهي مِن وجْهَيْنِ: أحَدُها: الطَّعْنُ في تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: (وأنْ) (p-٥٦)﴿تُشْرِكُوا بِاللَّهِ﴾ . وثانِيها: القَوْلُ في دِينِ اللَّهِ مِن غَيْرِ مَعْرِفَةٍ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ فَلَمّا كانَتْ أُصُولُ الجِناياتِ هي هَذِهِ الأشْياءَ، وكانَتِ البَواقِي كالفُرُوعِ والتَّوابِعِ، لا جَرَمَ جَعَلَ تَعالى ذِكْرَها جارِيًا مَجْرى ذِكْرِ الكُلِّ، فَأدْخَلَ فِيها كَلِمَةَ ”إنَّما“ المُفِيدَةِ لِلْحَصْرِ. السُّؤالُ الثّانِي: الفاحِشَةُ والإثْمُ هو الَّذِي نَهى اللَّهُ عَنْهُ، فَصارَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ المُحَرَّماتِ، وهو كَلامٌ خالٍ عَنِ الفائِدَةِ. والجَوابُ كَوْنُ الفِعْلِ فاحِشَةً هو عِبارَةٌ عَنِ اشْتِمالِهِ في ذاتِهِ عَلى أُمُورٍ بِاعْتِبارِها يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَسْقُطُ السُّؤالُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب