الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّهُ أمَرَنا بِها قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ في النّاسِ مَن حَمَلَ الفَحْشاءَ عَلى ما كانُوا يُحَرِّمُونَهُ مِنَ البَحِيرَةِ والسّائِبَةِ وغَيْرِهِما، وفِيهِمْ مَن حَمَلَهُ عَلى أنَّهم كانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً الرِّجالُ والنِّساءُ، والأوْلى أنْ يُحْكَمَ بِالتَّعْمِيمِ، والفَحْشاءُ عِبارَةٌ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الكَبائِرِ. واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ أنَّ القَوْمَ كانُوا يُسَلِّمُونَ كَوْنَ تِلْكَ الأفْعالِ فَواحِشَ. ثُمَّ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ اللَّهَ أمَرَهم بِها، فَإنَّ ذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ. بَلِ المُرادُ أنَّ تِلْكَ الأشْياءَ كانَتْ في أنْفُسِها فَواحِشَ، والقَوْمُ كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّها طاعاتٌ، وأنَّ اللَّهَ أمَرَهم بِها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم كانُوا يَحْتَجُّونَ عَلى إقْدامِهِمْ عَلى تِلْكَ الفَواحِشِ بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: إنّا وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا. والثّانِي: إنَّ اللَّهَ أمَرَنا بِها. (p-٤٧)أمّا الحُجَّةُ الأُولى: فَما ذَكَرَ اللَّهُ عَنْها جَوابًا؛ لِأنَّها إشارَةٌ إلى مَحْضِ التَّقْلِيدِ، وقَدْ تَقَرَّرَ في عَقْلِ كُلِّ أحَدٍ أنَّهُ طَرِيقَةٌ فاسِدَةٌ؛ لِأنَّ التَّقْلِيدَ حاصِلٌ في الأدْيانِ المُتَناقِضَةِ، فَلَوْ كانَ التَّقْلِيدُ طَرِيقًا حَقًّا لَلَزِمَ الحُكْمُ بِكَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَناقِضَيْنِ حَقًّا، ومَعْلُومٌ أنَّهُ باطِلٌ، ولَمّا كانَ فَسادُ هَذا الطَّرِيقِ ظاهِرًا جَلِيًّا لِكُلِّ أحَدٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعالى الجَوابَ عَنْهُ. وأمّا الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: وهي قَوْلُهم: ﴿واللَّهُ أمَرَنا بِها﴾ فَقَدْ أجابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ والمَعْنى أنَّهُ ثَبَتَ عَلى لِسانِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ كَوْنُ هَذِهِ الأفْعالِ مُنْكَرَةً قَبِيحَةً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ القَوْلُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَنا بِها ؟ وأقُولُ: لِلْمُعْتَزِلَةِ أنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الشَّيْءَ إنَّما يَقْبُحُ لِوَجْهٍ عائِدٍ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَهى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لَمّا كانَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا في نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مِنَ الفَحْشاءِ امْتَنَعَ أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كَوْنُهُ في نَفْسِهِ مِنَ الفَحْشاءِ مُغايِرًا لِتَعَلُّقِ الأمْرِ والنَّهْبِ بِهِ، وذَلِكَ يُفِيدُ المَطْلُوبَ. وجَوابُهُ: يَحْتَمِلُ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْراءِ أنَّهُ تَعالى لا يَأْمُرُ إلّا بِما يَكُونُ مَصْلَحَةً لِلْعِبادِ، ولا يَنْهى إلّا عَمّا يَكُونُ مَفْسَدَةً لَهم، فَقَدْ صَحَّ هَذا التَّعْلِيلُ لِهَذا المَعْنى. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ أنْ يُقالَ: إنَّكم تَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أمَرَكم بِهَذِهِ الأفْعالِ المَخْصُوصَةِ، فَعِلْمُكم بِأنَّ اللَّهَ أمَرَكم بِها حَصَلَ؛ لِأنَّكم سَمِعْتُمْ كَلامَ اللَّهِ تَعالى ابْتِداءً مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، أوْ عَرَفْتُمْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ إلى الأنْبِياءِ. أمّا الأوَّلُ: فَمَعْلُومُ الفَسادِ بِالضَّرُورَةِ. وأمّا الثّانِي: فَباطِلٌ عَلى قَوْلِكم؛ لِأنَّكم تُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الأنْبِياءِ عَلى الإطْلاقِ؛ لِأنَّ هَذِهِ المُناظَرَةَ وقَعَتْ مَعَ كُفّارِ قُرَيْشٍ، وهم كانُوا يُنْكِرُونَ أصْلَ النُّبُوَّةِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَلا طَرِيقَ لَهم إلى تَحْصِيلِ العِلْمِ بِأحْكامِ اللَّهِ تَعالى، فَكانَ قَوْلُهم: إنَّ اللَّهَ أمَرَنا بِها؛ قَوْلًا عَلى اللَّهِ تَعالى بِما لا يَكُونُ مَعْلُومًا. وإنَّهُ باطِلٌ. البَحْثُ الثّانِي: نُفاةُ القِياسِ قالُوا: الحُكْمُ المُثْبَتُ بِالقِياسِ مَظْنُونٌ وغَيْرُ مَعْلُومٍ، وما لا يَكُونُ مَعْلُومًا لَمْ يَجُزِ القَوْلُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعالى في مَعْرِضِ الذَّمِّ والسُّخْرِيَةِ: ﴿أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وجَوابُ مُثْبِتِي القِياسِ عَنْ أمْثالِ هَذِهِ الدَّلالَةِ قَدْ ذَكَرْناهُ مِرارًا. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب