الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ أبُو زَيْدٍ: «لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: كَيْفَ يا رَبِّ والغَضَبُ ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ»﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ نَزْغَ الشَّيْطانِ عِبارَةٌ عَنْ وساوِسِهِ ونَخْسِهِ في القَلْبِ بِما يُسَوِّلُ لِلْإنْسانِ مِنَ المَعاصِي، عَنْ أبِي زَيْدٍ: نَزَغْتُ بَيْنَ القَوْمِ إذا أفْسَدْتُ ما بَيْنَهم، وقِيلَ: النَّزْغُ الإزْعاجُ، وأكْثَرُ ما يَكُونُ عِنْدَ الغَضَبِ، وأصْلُهُ الإزْعاجُ بِالحَرَكَةِ إلى الشَّرِّ، وتَقْرِيرُ الكَلامِ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَهُ بِالعُرْفِ فَعِنْدَ ذَلِكَ رُبَّما يُهَيِّجُ سَفِيهٌ ويُظْهِرُ السَّفاهَةَ فَعِنْدَ ذَلِكَ أمَرَهُ تَعالى بِالسُّكُوتِ عَنْ مُقابَلَتِهِ فَقالَ: ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ ولَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ عِنْدَ إقْدامِ السَّفِيهِ عَلى السَّفاهَةِ يُهَيِّجُ الغَضَبَ والغَيْظَ ولا يَبْقى الإنْسانُ عَلى حالَةِ السَّلامَةِ، وعِنْدَ تِلْكَ الحالَةِ يَجِدُ الشَّيْطانُ مَجالًا في حَمْلِ ذَلِكَ الإنْسانِ عَلى ما لا يَنْبَغِي، لا جَرَمَ بَيَّنَ تَعالى ما يَجْرِي مَجْرى العِلاجِ لِهَذا الغَرَضِ فَقالَ: ﴿فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ والكَلامُ في تَفْسِيرِ الِاسْتِعاذَةِ قَدْ سَبَقَ في أوَّلِ الكِتابِ عَلى الِاسْتِقْصاءِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ بِهَذِهِ الآيَةِ وقالُوا: لَوْلا أنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الرَّسُولِ الإقْدامُ عَلى المَعْصِيَةِ أوِ الذَّنْبِ، وإلّا لَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ . والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ حاصِلَ هَذا الكَلامِ أنَّهُ تَعالى قالَ لَهُ: إنْ حَصَلَ في قَلْبِكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ، كَما أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٥] ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ أشْرَكَ. (p-٨٠)وقالَ: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٢] ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ حَصَلَ فِيهِما آلِهَةٌ. الثّانِي: هَبْ أنّا سَلَّمْنا أنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلّا أنَّ هَذا لا يَقْدَحُ في عِصْمَتِهِ، إنَّما القادِحُ في عِصْمَتِهِ لَوْ قَبِلَ الرَّسُولُ وسْوَسَتَهُ، والآيَةُ لا تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”ما مِن إنْسانٍ إلّا ومَعَهُ شَيْطانٌ“ قالُوا: وأنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: وأنا ولَكِنَّهُ أسْلَمَ بِعَوْنِ اللَّهِ، فَلَقَدْ أتانِي فَأخَذْتُ بِحَلْقِهِ، ولَوْلا دَعْوَةُ سُلَيْمانَ لَأصْبَحَ في المَسْجِدِ طَرِيحًا» . وهَذا كالدَّلالَةِ عَلى أنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ إلى الرَّسُولِ ﷺ، وقالَ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحَجِّ: ٥٢] . الثّالِثُ: هَبْ أنّا سَلَّمْنا أنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ وأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَقْبَلُ أثَرَ وسْوَسَتِهِ، إلّا أنّا نَخُصُّ هَذِهِ الحالَةَ بِتَرْكِ الأفْضَلِ والأوْلى، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«وإنَّهُ لَيُغانُ عَلى قَلْبِي وإنِّي لَأسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» “ . المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الِاسْتِعاذَةُ بِاللَّهِ عِنْدَ هَذِهِ الحالَةِ أنْ يَتَذَكَّرَ المَرْءُ عَظِيمَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وشَدِيدَ عِقابِهِ فَيَدْعُوهُ كُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ إلى الإعْراضِ عَنْ مُقْتَضى الطَّبْعِ والإقْبالِ عَلى أمْرِ الشَّرْعِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: هَذا الخِطابُ وإنْ خَصَّ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ إلّا أنَّهُ تَأْدِيبٌ عامٌّ لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ؛ لِأنَّ الِاسْتِعاذَةَ بِاللَّهِ عَلى السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ لُطْفٌ مانِعٌ مِن تَأْثِيرِ وساوِسِ الشَّيْطانِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٩٨] وإذا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أنَّ لِهَذِهِ الِاسْتِعاذَةِ أثَرًا في دَفْعِ نَزْغِ الشَّيْطانِ وجَبَتِ المُواظَبَةُ عَلَيْهِ في أكْثَرِ الأحْوالِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِعاذَةَ بِاللِّسانِ لا تُفِيدُ إلّا إذا حَضَرَ في القَلْبِ العِلْمُ بِمَعْنى الِاسْتِعاذَةِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: اذْكُرْ لَفْظَ الِاسْتِعاذَةِ بِلِسانِكَ فَإنِّي سَمِيعٌ، واسْتَحْضِرْ مَعانِيَ الِاسْتِعاذَةِ بِعَقْلِكَ وقَلْبِكَ فَإنِّي عَلِيمٌ بِما في ضَمِيرِكَ، وفي الحَقِيقَةِ القَوْلُ اللِّسانِيُّ بِدُونِ المَعارِفِ القَلْبِيَّةِ عَدِيمُ الفائِدَةِ والأثَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب